-
دخول

عرض كامل الموضوع : فنجان قهوة...مع محمود درويش


جـدل
14/03/2009, 01:56
محمــود درويـ ـش ..
مقطع من روايته \ ذاكــرة ... للنســـيان .

ولكن كيف أصل إلى المطبخ ؟
أريد رائحة القهوة ! لا أريد غير رائحة القهوة
ولا أُريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة
رائحة القهوة لأتماسك .. لأقف على قدمي .. لأتحول من زاحف إلى كائن !
لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها .. لنمضي معاً
أنا و .. هذا النهار , إلى الشارع بحثاً عن مكان آخر ..
كيف أذيع رائحة القهوة من خلاياي .. وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل
على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم ؟
صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين ثانية واحدة .. ثانية واحدة أقصر من المسافة
بين الزفير والشهيق , أقصر من المسافة بين دقتيّ قلب ..
ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتوغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر
ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء , ثانية واحدة لا تكفي لأن أصب الماء في الغلاية
ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب .. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق ...

أقفلتُ مفتاح الراديو لم أتساءل إن كان جدار الممر الضيق يقيني فعلاً مطر الصواريخ
ما يعنيني هو أن ثمة جداراً يحجب الهواء المنصهر إلى معدن يُصيب اللحم البشري
بشكل مباشر أو يتشظّى أو يخنق وفي وسع ستارة داكنة - في مثل هذه الحالات-
أن توفر غطاء الأمان الوهمي فالموت هو أن ترى الموت .

أريد رائحة القهوة , أريد خمس دقائق .. اريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة !
لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة
بهذا الهوس حددّت مهمتي وهدفي توثبت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبت عطشي
نحو غاية واحدة : القهوة .
والقهوة لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار
والقهوة لمن يعرفها مثلي هي أن تصنعها بيديك , لا أن تأتيك على طبق
لأن حامل الطبق هو حامل الكلام ,

والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت
الفجرُ أعني فجري نقيض الكلام ورائحة القهوة تتشرب الأصوات
ولو كانت تحية رقيقة مثل " صباح الخير " وتفسد ...

لذا , فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني
والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة
في سلام مبتكر مع النفس والأشياء وتسكبه على مهل
وعلى مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان أفر مائل إلى البني ,
ثم تضعه على نار خفيفة آه لو كانت نار الحطب ...

ابتعد قليلاً عن النار الخفيفة لتطل على شارع ينهض للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول
عن الشجرة وبالسير على قدمين , شارع محمول على عربات الخضار والفواكه
وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح وتحويل السلعة إلى نعت للسعر ,
واستنشق هواء قادماً من برودة الليل ثم عُد إلى النار الخفيفة -
آه لو كانت نار الحطب - وراقب بمودة وتؤدة علاقة العنصرين :
النار التي تتلون بالأخضر والأزرق
والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلى جلد ناعم ,
ثم تكبر .. تكبر على مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر !
تنتفخ وتنكسر عطشى لالتهام ملعقتين من السكر الخشن الذي ما ان يداخلها
حتى تهدأ بعد فحيح شحيح لتعود بعد هنيهة إلى صراخ الدوائر المشرئبة
إلى مادة أخرى هي البُن الصارخ,
ديكاً من الرائحة والذكورة الشرقية ...

أبعد الإناء عن النار الخفيفة لتجري حوار اليد الطاهرة من رائحة التبغ
والحبر مع أولى إبداعاتها مع إبداع أول سيحدد لك منذ هذه الهنيهة,
مذاق نهارك وقوس حظك , سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل أم تجتنب
العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولى وعن
إيقاعها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق وعما
يكشف من غموض نفسك سيكون هوية يومك الجديد .

لأن القهوة , فنجان القهوة الأول هي مرآة اليد
واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها وهكذا ...
فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح .. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار

ما زال الفجر الرصاصي يتقدم من جهة البحر على اصوات لم أعرفها من قبل ,
البحر برمته محشوّ في قذائف طائشة
البحر يبدل طبيعته البحرية ويتمعدن
أللموت كل هذه الأسماء ؟ قلنا : سنخرج , فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر -الأسود - الرمادي
على من سيخرج وعلى من سيقى من بشر وشجر وحجر ؟
قلنا : سنخرج قالوا : من البحر ؟ قلنا : من البحر ,
فلماذا يسلحون الموج والزبد بهذه المدافع ؟
ألكي نعالج الخطى نحو البحر ؟
عليهم أن يفكوا الحصار عن البحر أولاً .. عليهم أن يخلوا الطريق الأخير
لخيط دمنـا الأخير , وما دام الأمر كذلك
وهو كذلك ... فلن نخرج ... إذن , سأُعدّ القهــوة ..

achelious
14/03/2009, 19:13
وقريبا, سنعدُّ القهوة من ماء البحر !!

شكرا
:akh:

مجنون يحكي وعاقل يسمع
14/03/2009, 22:28
ما زلنا نبحث عبثاً عن فنجان غير مكسور حتى الآن , وما نخشاه في المستقبل أن تبحث عنّا الفناجين المكسورة

جـدل
16/03/2009, 23:37
صحت عصافير الجيران في السادسة صباحا.تابعت تقاليد الغناء المحايد من وجدت نفسها وحيدة مع بدايات الضوء.لمن نغني في زحام هذه الصواريخ؟تغني لتشفي طبيعتها من ليل سابق ،تغني لها لا لنا....هل كنا نعرف ذلك فيما مضى؟لقد شقت الطيور فضاءها الخاص في دخان المدينة المحترقة.


كانت سهام الصوت المتعرجة تلتف على القنابل وتشير إلى أرض سالمة في الفضاء،

للقاتل أن يُقتل،للمقاتل أن يقاتل .وللعصفور أن يغني.......

ولكني أكف عن طلب الكناية ،أكف تماما عن التأويل...

لأن من طبيعة الحروب أن تحقر(تشديدوكسر القاف)الرموز،وتعود بعلاقات البشر والمكان والعناصر والوقت إلى خاماتها الأولى،لنفرح بماء يتدفق من ماسورة مكسورة على طريق،لأن الماء هنا يتقدم معجزة

من قال إن الماء لا لون له ولاطعم ولا رائحة؟للماء لون يتفتح في إنفتاح العطش..

للماء لون اصوات العصافير،الدوري بخاصة ،العصافير التي لاتكترث بهذه الحرب القادمة من البحرمادام فضاؤها سالما.

وللماء طعم الماء

ورائحة هي رائحة الهواء القادم بعد الظهيرة من حقل يتموج بسنابل القمح الممتلئة في إمتداد متقطع الضوء كبقع الضوء المخطوفة التي يتركها وراءه توتر(تشديد وضم التاء الثانية)جناح الدوري وهويطير طيرانا واطئا على حقل

ليس كل مايطير طائرة...

ولعل أسوأ الكلمات العربية هو أن الطائرة تأنيث الطائر...

الطيور تواصل غنائها وتثبت(تشديد وكسر الثاء)أصواتها وسط هدير المدافع البحرية.

ومن قال إن الماء لا طعم له ولا لون ولا رائحة..

ومن قال إن هذه الطائرة هي تأنيث الطائر؟

ولكن العصافير تصمت فجأة،تكف عن الكلام وعن التحليق الروتيني في هواء الفجرمنذ هبت عاصفة الحديد الطائر.

أمن هديرها الفولاذي سكتت،أم من تشابه غير متعادل في الشكل والإسم:جناحان من حديد وفضة في مقابل جناحين من ريش،حيزوم من حديد وفضة في مقابل منقارمن نشيد...

حمولة من صورايخ مقابل حبة قمح وقشة،

توقفت العصافير عن الغناء،واكترثت بالحرب ،لأن أرض سمائها لم تعد سالمة

السماء تنخفض كأنها سقف إسمنتي يقع.

البحريتحول إلى يابسة ويقترب.

السماء والبحر من مادة واحدة.

البحر والسماء يضيقان علي الخناق.

ادرت مفتاح الراديو لأعرف أخبار السماءلم أسمع شيئا،

تجمد(تشديد الميم)الوقت،جلس علي ليخنقني

،مرت الطائرات من بين أصابعي إخترقت رئتي.

كيف أصل إلى رائحة القهوة،

كيف أموت يابساً بلا رائحة القهموة،

لاأريد...لاأريد،فاين إرادتي؟

وقَفَتْ هناك على الطرف الثاتي من الشارع،

يوم أطلقنا النداء المضاد لتزحف الخرافة علينا من الجنوب....

يوم كورَ(تشديد وفتح الواو)الحم البشري عضلة الروح وصاح:لن يمروا...ولن نخرج...

إشتبك اللحم مع الحديد وتغلب(تشديداللام) على علم الحساب العسير،

فتوقف الغزاة على السور...

هناك وقت لدفن الموتى وهنالك وقت للسلاح ،

وهناك وقت ليمر الوقت على هوانا ....لتطول البطولة،فنحن

نحن أصحاب الوقت...

كان الخبز يصعد من التراب .

وكان الماء ينجبس من الصخر.

كانت صواريخهم تحفر لنا آبار الماء

وكانت لغة قتلهم تغرينا بالنشيد:لن نخرج،

وكنا نرى وجوهنا على شاشة الآخرين تغلي بالوعد العظيم

وتخترق الحصارات بشارات نصر لاتنكسر

لن نفقد شيئا منذ الآن ،مادامت بيروت هنا،

ومادمنا هنا في بيروت وسط هذا البحر...

على بوابة هذه الصحراء أسماء لوطن مختلف،

وعودة المعاني إلى مفرداتها.