مـــــداد
13/03/2009, 12:54
عزيزي القارئ.. هذه القصة ليست قصة اليوم، ولا قصة البارحة.. هذه قصة تمتدّ على عقود، وهي ليست قصة أحمد.. أو محمد.. أو ياسر.. أو نضال.. أو حسام.. أو رامي.. أو طارق.. هذه قصة كلّ شاب رضع حب وطنه من ثدي أمه.. ذاب في ترابها حدّ الاندثار.. هذه ليست قصة شاب، مثقف أو طالب أو عامل أو صانع أو أجير أو أو أو.. هذه قصة وطن بأسره..
هذه القصة حقيقية جداً وتحدث كلّ ليلة يعرفها البعض وقد لا يعرفها البعض الآخر..
هذه قصة مواطن عربي سوري عادي جداً على درجة من الثقافة والوعي لا ينتمي إلا لوطنه، قال لي يوماً: “إن لفظنا الوطن فأين نذهب؟!!”.. “هل يستطيع أحد ما في هذا الكون أن يعيش بلا وطن؟!!”..
هذه قصته..
مذكرات الأيام الست.. الطريق إلى النبك..
قد يظنُّ من سيقرأ هذه المذكرات أنني أحاولُ سرْدَ أحداثٍ مشوِّقة ليملأَ بها بعضُ الشَّواذ أوقاتَ فراغِهِم المتورِّمة ويستخدمها آخرون لنقاشات عقيمة يجمِّلون بها هيئاتِهِم الثقافية، وربما قد يظنُّ آخر بأنني أتسلَّى بفتاتِ ذاكرة عَبَرَت يوْماً، ولكن القليل ربما هوَ مِن سيدرُك عمقَ هذهِ المذكرات ومدى شاهق أثرها.. ولا أقول العميق، لأنَّ شيئاً ما ارتفَعَ وطاف على سطح الماء وصارَ واضِحاً، فانجلَت رؤيا كانت ضبابيَّة.. وبانَت رائحَة لطالَما اختلَطَت بالوهْم والمسافات، ليْسَت هذهِ الأحداثُ التي أسردها الآن وسيلة حتى يستخدمَها بعض “المعتوهِين والناقصين” ليهاجموا بها الأرض التي عليها وُلدت وعليها أموت إنما هيَ لِفَضحِ بعضِ مماراساتِ الخارجينَ عَن أخلاقياتِ البشَر ومَدى غيابهِم عن أنظارِ أصحابِ القرار المتدثرين بكسلهم ونعاسِهِم وهواجسهِم المادية والجنسية..
الكاتب.. مواطِن عربي سوري
المهنة.. مهندس ما أو طبيب ما أو جامعيّ ما..
العمر.. حوالي ثلاثة عقود أو أقل
اليوم الأول
(1)
ترجلتُ عن الباصِ الأصفر الذي أقلَّني من دمشق، ولَم يكُن ثمةٌ في ذاكرتي أكثر مِن تفاصيلَ تتعلقُ ببعضِ الأعمالِ التي لم تنتهِ بعد، وبعض الأشياء السَّطحية التي لا قيمة تذكر لها، كنتُ أعرفُ تماماً الوجهة التي أذهب إليها، كنتُ قد اتفقت مع أحدهم لزيارتِهِ في فرعِ الأمن مِن أجل تزويده ببعض المعلوماتِ المهمة وإعطائِهِ أوراق كان قد طلبها مني هاتفياً.. بعدَ أن كانَ قد أبلغَني مراراً بأن الأمر روتيني بحت وأنني سأكون مطمئناً وراضِ تماماً، وليسَ ثمَّة ما يقلِق في المسألة برمتِها، وأنني سأعود إلى بيتي بعد ذلك.. مدة طويلة منذ آخر مرة غدرني فيها أحدهم، استقليت سيارة أخرى صفراء اللون وذهبت إلى ما يسمى بـِ(فرع الأمن العسكري) .
عِندما وصلتُ إلى المكان كانتِ الأجواء ساكنة تماماً ولَم يكُن ثمة ما يدعو للقلق، مطر الأيام الثلاث السابقة قد توقف رغم الغيوم المتفرقة في السماء ونفسيتي هادئة ومستقرّة وسائق التاكسي بجانبي صامت وهادئ ولا يبدي رأياً، تأملتُ بناء فرع الأمن العسكري من خلف زجاج السيارة الصفراء كانَ باهِتا وعادياً، لم تكَد تمرُّ الدقيقة الخامِسة وأنا على حالتي هذه حتى مددتُ يدي إلى محفظتي.. نقدتُ السائق مبلغ خمسين ليرة سورية ونزلت.
(2)
عندما اقتربتُ من بوابة المبنى الرئيسية اقتربَ مني شاب يرتدي بزّة عسكرية يتأبط سلاحاً ما وسرعان ما خرج شاب آخر (مدني) من غرفة خارج البوابة وأشارَ بيده إلى العسكري بالابتعاد قائلاً (هذا ضيفي) .. بدَت كلمتهُ غبية ومتعِبة في نفس الوقت بالنسبة لي.. فأنا لطالَما كرهتُ أولئكَ المتملِّقين الذين يبدونَ اهتماماً بأشخاصٍ لا يعرفونهم (كنتُ مخطئاً بخصوص هذا الشخص).. كانَ نفسه ذلك الشخص الذي كان يلاحقني لمدة شهر كامل باتصالاتِهِ الهاتفية، استقبلني بحرارة وابتسامة باردة وطلَبَ مني الدخول إلى تلك الحجرة الخارجية.
مِن داخل الحجرة تلك أجرى اتصالا ظهرَ لي فيما بعد أنه خلَّبي (وهميّ)، ثمَّ طلَبَ مِني أن أصْحَبَهُ داخِل المبنى لنقابلَ هُناك (ضابط برتبة عقيد) - عرفتُ فيما بعد ألاّ وجودَ له أساساً -. كانَت لحظة دخولي إلى ذلك المبنى، هيَ اللحظة التي فقدتُ بها حريتي بشكل كامل على مدار ستة أيَّام عومِلتُ بها كمجرم خارجٍ عنِ القانون.
كانت المسافة التي مشيناها قصيرة وبدأت تطول حين نزلنا أدراجاً إلى قبوٍ تفوحُ مِن أنحائِهِ روائِحِ البوْل والغائِط مختلطة نوعاً ما برائحة نرجيلة تخرج من غرفة بعيدة، وبالنسبة لي؛ لَم يبدُ أيَّ شيء حقيقياً، فهذا وهمٌ أو مداعبة ستنتهي عاجلاً، ويصعب عليَّ تصديق أن يكون هذا مكاناً ملائماً لتبادل أحاديث ودية مع ضابط أمن للحصول على بعض المعلومات بشأن التجنيد..
قرعَ ذلك الشخص باباً حديدياً مراراً قبلَ أن يفتحه شخص آخر لم يتسنَّ لي معرفة اسمه، استلَمني وقادَني إلى غرفةٍ داخلية وكانت تلك الروائح ما تزال تفوحُ بقسوة مِن الزوايا الخربة لمكانٍ عفِن، كان في الغرفة طاولة وسرير معدني وكرسيان جلستُ على أحدهما وجلس هوَ مقابل الطاولة التي وضع على مقدمته ورقة من الكرتون المقوى مكتوب عليها (محقق)، بعدَ انتظار قليل احتفظتٌ خلالَهُ بصَمتي وهدوئي.. راحَ يذكرني هذا الرجل الغريب بأن ثمة عقيد سيأتي عمَّ قليل ليقابلني، طلَبَ مني أن أسلمهُ هاتفي النقال ومحفظتي وحقيبة يدي التي كنت أحملها، سلمته كل شيء مدركاً أنني في فرع أمن عسكري وأنهم لا بدّ يأخذون احتياطاتهم بالتفتيش قبل قدوم ذلك الضابط (الخلَّبي) .. إلى أن بدأت تصرفاته تبدو غريبة بعضَ الشيء.
أغلقَ الهاتِف .. ووضعَ هويتي في درج الطاولة وقام بعدِّ المبلغ المالي في محفظتي وصارَ يسجل كل شيء على ورقة صغيرة، وكل هذا يحدث وأنا في حالة ذهول تامة وبدأتُ أتوجسُ لأول مرة من دخولي هذا المكان. اقتربَ مني وطلب مني الوقوف، فتشني جيداً.. ثمَّ عادَ خلفَ طاولته، وبابتسامة صفراء أخبرني بحقيقة الأمر سنقودكُ إلى الخدمة الإلزامية (موجوداً). وصارت كلمة (موجوداً) هذه فيما بعد الكلِمة الأبشع في قاموس اللغة العربية.. لأنَّ ترجمتها تعني أنكَ مجرد بهيمة في مباني الدولة الشرطية والأمنية، بقيتُ صامتاً وتسمّرت نظراتي على تقاسيم وجهه، أبحث فيها إن كان ثمة مكانٍ للمزاح فيها، لكن لا شيء..
استمرَّ في كذبته بخصوص الضابط الذي سيقابلني، وقامَ بمنحي (هدية) عظيمة فقط لأنني (مثقف ومهندس) فسيسمح لي بإجراء اتصال هاتفي وحيد مع أهلي فقط، ولم يسمح لي بأن أتحدث لهم بأيِّ شيء.. سوى أنني في فرع الأمن العسكري وأنهم سيسوقوني إلى الجيش .
بعدَ قليل، بدأت أوامره تأخذ مساراً أكثرَ تعنتاً وحدّة، أمرني بالوقوف، اقتادني إلى أول زنزانةٍ في حياتي، دخلتُ إلى مكانٍ يسهلُ وصفه.. ويصعبُ تذكر تفاصيله، بقدر ما هي قذرة وبشعة، وتعكِسُ حالَة سقوطٍ هائِل لدى مؤسساتِ الدولة الأمنية، كانَ المكان مجموعة مِن الصناديق الصغيرة (غرف توقيف) مفتوحة على موزع ضيق وحمام.. أو مكان لقضاء الحاجة لا باب له، وتفوحُ مِن المكان رائحة كريهة قد يصعبُ على البهائم تحملها.
كنتُ تحت وقع صدمة شديدة لكل ما يجري، لَم أستطِع التفكير بشيء، صرتُ أتحرك بسرعة وبخطوات ثقيلة داخل هذا الفراغ القذر المشؤوم، لَم أستطع البكاء.. لم أفسَح مجالاً لقلبي حتى يضعف، رفضت الوقوف، صرت أتحركُ بسرعة، وصرتُ أتذكر أشياء مهمة وأخرى تافهة، كانَ دماغي مثقلاً بدهشةِ الواقِعَة وبسخريةِ مجرى الأحداث (لقد جئتُ بقدمي إليهِم ولو بخدعة).. تذكرت الله ، استغفرته .. طلبتُ منه بوثوق أن يقف بجانبي، وأحسستُ ظلاله، استجمعتُ قوايَ، وقررتُ ألا مجالَ للانهيار هنا (ولا أعرف ما قد يأتي لاحقاً مِن أحداث ووقائع) ..
عدتُ وصرخت بذلك الرجل وطلبتُ منه أن أقابل ذلك (الضابط المزعوم) فأخبرني أنهُ تأخر الوقت، وقد لا يأتي اليوم، بسرعة أدركتُ الأمر وأنَّ أمر الضابط كذبة رخيصة أخرى، مرت حوالي الساعتين والنصف كأنهما دهر كامِل، بعد ذلك.. جاءَ هذا الرجل وفتحَ الزنزانة.. نظرتُ إليه مباشرة.. ودونَ أن أتوجهَ إليه بأيِّ السؤال قادني إلى الخارج وقال ……: إلى المدينة؟!!!!
(3)
لا أعرفُ كيفَ يُمكنُ أن أخدَمَ علَمَ دوْلَتي.. وأنا أتجرَّعُ هذه المهاناتِ المتوالية التي تسبقُ وصولي إلى مركز السُّوْق الكائِن في مدينةِ النبك خارج دمشق، سأستمرُّ في السَّردِ ما استطعت، لا مجالَ لسردٍ أدبي هنا .. إنما وقائِع، والمزيد من الوقائِع.
قادَني ذلك الرجل إلى الخارِج، وضَعَ في يدي قطعتيْ حديد (كلبشة - قيود)، صُدمت بداية وأخبرته أنه مخطئ فأنا لستُ مجرماً ولا خارجاً عن القانون، لكنهُ قال إنها الأوامِر، ولَم يكترث بحدَّة نبرة صوْتي، وأخبَرني بألاّ أجبرهُ على التصرّف بشكلٍ قد يزعجني (والمواطن السوري يعرف تماماً كيف يتصرف رجال الأمن عندما يرغبون بإزعاج الآخرين) ..
لا يمكن وصف الصَّدمة الأولى التي انتابتني وأنا مكبل بالقيود، لا يمكن وصفها أبداً، فإن ذاقها أي شخص قبلي، فليتكفّل عني بوصفها، كأيِّ مجرِم تم اقتيادي إلى سيارة (بيك آب) ركبنا فيها أنا والسائق ورجل الأمن وضعوني بينهما في المنتصف، وانطلقنا إلى المدينة. لا يوجد أي تفسير حتى الآن لاقتيادي إلى هناك، شيءٌ واحِدٌ يمكن ذكره ، مزيدٌ مِن الإذلال.
كانَ الطريقُ أشدُّ هدوءاً مِن قلبي الذي أخذَ ينبضُ بقسوة، وتلكَ المشاعر المتدفِّقة بأن دائِماً هُناك مَن يدفعني إلى كره وطني.. وأنا أحبُّ وطني.. وأكرهُ أن أكرهه بأفعالِ هؤلاء، تبادلَ السائق ورجل الأمن أحاديث تخصهما كانا يقطعانها بين الفينة والأخرى بتوجيه أسئلة غبية لم أكترث بها وجاوبت عليها باقتضاب، كانَ بالي مشغولا بما يمكن أن يحدث في المدينة.
وصلنا إلى فرع الأمن العسكري هناك بعدَ حوالي الساعة، كانَ الجوّ بارداً وموحشاً.. والتوقيت قارب العاشرة مساءاً، الثلج الذي غطى تلك المدينة في الأيام السابقة زال كلياً، عن الطرقاتِ فقط، وظلَّ مغطياً القلوب والعقول والرؤى، مرّة أخرى.. تمَّ اقتيادي إلى أسفل إلى القبو، وصلنا إلى غرفة مكتوب خارجها (السجن).. فيها رجل يرتدي بيجامة يجلس خلف طاولة يدخن ويشرب شيئاً ما ويشاهد التلفاز، كانت القيود ما تزال في يديّ، وكان جسدي كله يبكي.. إلاّ أنني حافظتُ على قواي، وحرصت ألاّ أظهر دمعة واحدة في ظلِّ أجواء كئيبة وقاسية لن يرحمني فيها أحد، كنتُ مدركاً ألا بشرياً على هذه الأرض يمكنه الوقوف بجانبي الآن.
شحنتُ ذاتي بالعزيمة وتقدمت، وكلما صَرخَ ذلك (القبيح) في وجهي زدتُ صرامة وزادَت نبرتي وثوقاً، عندما عرف أنني مهندس، خفضَ قليلاً مِن نبرة صوتِه، لكنَّهُ صار وبغباءٍ مدهِش يتوجهُ بنصائِحَ غبيَّة، وكأنهُ قد وجدَ فرصَتهُ حتى يعالجَ مرضهُ النفسيّ وإدراكهُ أنه يملك القوة (وهوَ لا يحمل شهادة سادس على الأغلب) أمام شخص أمضى حوالي العشرين سنة في المؤسسات الثقافية متدرجاً في درجاته العلمية، كانَ من البشاعةِ فعلاً أن أراقبَ هذا المشهد وأنا مدرك تماماً بأن هذا الساقط ينتظرُ مني اعتراضاً واحداً حتى يفرغَ نقصَهُ ويقضي حاجتهُ بضربي أو شتمي أو إذلالي بأي طريقة وهوَ ليسَ إلا مثالاً صارخاً لجيشٍ هائلٍ مِن المجيشين منذ عقود لإذلالِ المواطِن وإرغامهِ وإخضاعِه.
أمرني بالوقوف في زاويةِ الغرفة، ثمَّ جاءَ رجل آخر واقتادني إلى السجن، لَم أخطُ خطوتين حتى أمرني بخلع ملابسي، قامَ بنفضي نفضةً كامِلة (هل أنا مجرم).. عندما بقيتُ في سروالي الداخلي.. ليطالبني بخلعهِ هوَ الآخر. اجتاحَتني موجة اكتئابٍ ثقيلة، لَم أستوعب مسألة أن أتعرّى تماماً أمامَ أحدهِم وبهذا الأسلوب القذر (هل أنا مجرم)؟؟؟؟؟؟؟ !!!! .. ثمَّ أصرَّ عليَّ أن أخلعَ سروالي الداخلي.. وبدا لي من المستحيلِ أن يتراجعَ هذا الرجل عن أمره هذا، نظرتُ إلى الباب علّه يأتي أي شخص ينقذني من هذه الورطة، ويقول للرجل أنني لستُ مجرما وكل مافي الأمر أنني متخلف لفترة سوق واحدة لم تنتهِ بعد عن تأدية الخدمة الإلزامية، لكن لا شيء .. والله لا شيء، بقيتُ شاحباً للحظة ثمَّ خلعتُ آخر قطعةٍ أرتديها من جسدي وبدأتُ أرتعِش، قبلَ أن يطالبني بتأدية حركة صعود ونزول (سموها فيما بعد حركتين أمان).. ومرة أخرى سمعتُ جسدي يبكي، ورفضتُ الانهزامَ أمامَ هؤلاء الكلاب.. (هل أنا مجرم.. هل أنا مجرم..؟؟!!!) ..
قادوني إلى زنزانة قريبة، كل شيءٍ فيها موحش، عدا صوت مزرابٍ آتٍ مِن منور يبدو أن التمديدات فيهِ معطلة أو شيء من ذلك القبيل، ثم بدأتِ السَّماءُ بالهطول …………. ونِمت .
(يتبع بكل تأكيد..)
هذه القصة حقيقية جداً وتحدث كلّ ليلة يعرفها البعض وقد لا يعرفها البعض الآخر..
هذه قصة مواطن عربي سوري عادي جداً على درجة من الثقافة والوعي لا ينتمي إلا لوطنه، قال لي يوماً: “إن لفظنا الوطن فأين نذهب؟!!”.. “هل يستطيع أحد ما في هذا الكون أن يعيش بلا وطن؟!!”..
هذه قصته..
مذكرات الأيام الست.. الطريق إلى النبك..
قد يظنُّ من سيقرأ هذه المذكرات أنني أحاولُ سرْدَ أحداثٍ مشوِّقة ليملأَ بها بعضُ الشَّواذ أوقاتَ فراغِهِم المتورِّمة ويستخدمها آخرون لنقاشات عقيمة يجمِّلون بها هيئاتِهِم الثقافية، وربما قد يظنُّ آخر بأنني أتسلَّى بفتاتِ ذاكرة عَبَرَت يوْماً، ولكن القليل ربما هوَ مِن سيدرُك عمقَ هذهِ المذكرات ومدى شاهق أثرها.. ولا أقول العميق، لأنَّ شيئاً ما ارتفَعَ وطاف على سطح الماء وصارَ واضِحاً، فانجلَت رؤيا كانت ضبابيَّة.. وبانَت رائحَة لطالَما اختلَطَت بالوهْم والمسافات، ليْسَت هذهِ الأحداثُ التي أسردها الآن وسيلة حتى يستخدمَها بعض “المعتوهِين والناقصين” ليهاجموا بها الأرض التي عليها وُلدت وعليها أموت إنما هيَ لِفَضحِ بعضِ مماراساتِ الخارجينَ عَن أخلاقياتِ البشَر ومَدى غيابهِم عن أنظارِ أصحابِ القرار المتدثرين بكسلهم ونعاسِهِم وهواجسهِم المادية والجنسية..
الكاتب.. مواطِن عربي سوري
المهنة.. مهندس ما أو طبيب ما أو جامعيّ ما..
العمر.. حوالي ثلاثة عقود أو أقل
اليوم الأول
(1)
ترجلتُ عن الباصِ الأصفر الذي أقلَّني من دمشق، ولَم يكُن ثمةٌ في ذاكرتي أكثر مِن تفاصيلَ تتعلقُ ببعضِ الأعمالِ التي لم تنتهِ بعد، وبعض الأشياء السَّطحية التي لا قيمة تذكر لها، كنتُ أعرفُ تماماً الوجهة التي أذهب إليها، كنتُ قد اتفقت مع أحدهم لزيارتِهِ في فرعِ الأمن مِن أجل تزويده ببعض المعلوماتِ المهمة وإعطائِهِ أوراق كان قد طلبها مني هاتفياً.. بعدَ أن كانَ قد أبلغَني مراراً بأن الأمر روتيني بحت وأنني سأكون مطمئناً وراضِ تماماً، وليسَ ثمَّة ما يقلِق في المسألة برمتِها، وأنني سأعود إلى بيتي بعد ذلك.. مدة طويلة منذ آخر مرة غدرني فيها أحدهم، استقليت سيارة أخرى صفراء اللون وذهبت إلى ما يسمى بـِ(فرع الأمن العسكري) .
عِندما وصلتُ إلى المكان كانتِ الأجواء ساكنة تماماً ولَم يكُن ثمة ما يدعو للقلق، مطر الأيام الثلاث السابقة قد توقف رغم الغيوم المتفرقة في السماء ونفسيتي هادئة ومستقرّة وسائق التاكسي بجانبي صامت وهادئ ولا يبدي رأياً، تأملتُ بناء فرع الأمن العسكري من خلف زجاج السيارة الصفراء كانَ باهِتا وعادياً، لم تكَد تمرُّ الدقيقة الخامِسة وأنا على حالتي هذه حتى مددتُ يدي إلى محفظتي.. نقدتُ السائق مبلغ خمسين ليرة سورية ونزلت.
(2)
عندما اقتربتُ من بوابة المبنى الرئيسية اقتربَ مني شاب يرتدي بزّة عسكرية يتأبط سلاحاً ما وسرعان ما خرج شاب آخر (مدني) من غرفة خارج البوابة وأشارَ بيده إلى العسكري بالابتعاد قائلاً (هذا ضيفي) .. بدَت كلمتهُ غبية ومتعِبة في نفس الوقت بالنسبة لي.. فأنا لطالَما كرهتُ أولئكَ المتملِّقين الذين يبدونَ اهتماماً بأشخاصٍ لا يعرفونهم (كنتُ مخطئاً بخصوص هذا الشخص).. كانَ نفسه ذلك الشخص الذي كان يلاحقني لمدة شهر كامل باتصالاتِهِ الهاتفية، استقبلني بحرارة وابتسامة باردة وطلَبَ مني الدخول إلى تلك الحجرة الخارجية.
مِن داخل الحجرة تلك أجرى اتصالا ظهرَ لي فيما بعد أنه خلَّبي (وهميّ)، ثمَّ طلَبَ مِني أن أصْحَبَهُ داخِل المبنى لنقابلَ هُناك (ضابط برتبة عقيد) - عرفتُ فيما بعد ألاّ وجودَ له أساساً -. كانَت لحظة دخولي إلى ذلك المبنى، هيَ اللحظة التي فقدتُ بها حريتي بشكل كامل على مدار ستة أيَّام عومِلتُ بها كمجرم خارجٍ عنِ القانون.
كانت المسافة التي مشيناها قصيرة وبدأت تطول حين نزلنا أدراجاً إلى قبوٍ تفوحُ مِن أنحائِهِ روائِحِ البوْل والغائِط مختلطة نوعاً ما برائحة نرجيلة تخرج من غرفة بعيدة، وبالنسبة لي؛ لَم يبدُ أيَّ شيء حقيقياً، فهذا وهمٌ أو مداعبة ستنتهي عاجلاً، ويصعب عليَّ تصديق أن يكون هذا مكاناً ملائماً لتبادل أحاديث ودية مع ضابط أمن للحصول على بعض المعلومات بشأن التجنيد..
قرعَ ذلك الشخص باباً حديدياً مراراً قبلَ أن يفتحه شخص آخر لم يتسنَّ لي معرفة اسمه، استلَمني وقادَني إلى غرفةٍ داخلية وكانت تلك الروائح ما تزال تفوحُ بقسوة مِن الزوايا الخربة لمكانٍ عفِن، كان في الغرفة طاولة وسرير معدني وكرسيان جلستُ على أحدهما وجلس هوَ مقابل الطاولة التي وضع على مقدمته ورقة من الكرتون المقوى مكتوب عليها (محقق)، بعدَ انتظار قليل احتفظتٌ خلالَهُ بصَمتي وهدوئي.. راحَ يذكرني هذا الرجل الغريب بأن ثمة عقيد سيأتي عمَّ قليل ليقابلني، طلَبَ مني أن أسلمهُ هاتفي النقال ومحفظتي وحقيبة يدي التي كنت أحملها، سلمته كل شيء مدركاً أنني في فرع أمن عسكري وأنهم لا بدّ يأخذون احتياطاتهم بالتفتيش قبل قدوم ذلك الضابط (الخلَّبي) .. إلى أن بدأت تصرفاته تبدو غريبة بعضَ الشيء.
أغلقَ الهاتِف .. ووضعَ هويتي في درج الطاولة وقام بعدِّ المبلغ المالي في محفظتي وصارَ يسجل كل شيء على ورقة صغيرة، وكل هذا يحدث وأنا في حالة ذهول تامة وبدأتُ أتوجسُ لأول مرة من دخولي هذا المكان. اقتربَ مني وطلب مني الوقوف، فتشني جيداً.. ثمَّ عادَ خلفَ طاولته، وبابتسامة صفراء أخبرني بحقيقة الأمر سنقودكُ إلى الخدمة الإلزامية (موجوداً). وصارت كلمة (موجوداً) هذه فيما بعد الكلِمة الأبشع في قاموس اللغة العربية.. لأنَّ ترجمتها تعني أنكَ مجرد بهيمة في مباني الدولة الشرطية والأمنية، بقيتُ صامتاً وتسمّرت نظراتي على تقاسيم وجهه، أبحث فيها إن كان ثمة مكانٍ للمزاح فيها، لكن لا شيء..
استمرَّ في كذبته بخصوص الضابط الذي سيقابلني، وقامَ بمنحي (هدية) عظيمة فقط لأنني (مثقف ومهندس) فسيسمح لي بإجراء اتصال هاتفي وحيد مع أهلي فقط، ولم يسمح لي بأن أتحدث لهم بأيِّ شيء.. سوى أنني في فرع الأمن العسكري وأنهم سيسوقوني إلى الجيش .
بعدَ قليل، بدأت أوامره تأخذ مساراً أكثرَ تعنتاً وحدّة، أمرني بالوقوف، اقتادني إلى أول زنزانةٍ في حياتي، دخلتُ إلى مكانٍ يسهلُ وصفه.. ويصعبُ تذكر تفاصيله، بقدر ما هي قذرة وبشعة، وتعكِسُ حالَة سقوطٍ هائِل لدى مؤسساتِ الدولة الأمنية، كانَ المكان مجموعة مِن الصناديق الصغيرة (غرف توقيف) مفتوحة على موزع ضيق وحمام.. أو مكان لقضاء الحاجة لا باب له، وتفوحُ مِن المكان رائحة كريهة قد يصعبُ على البهائم تحملها.
كنتُ تحت وقع صدمة شديدة لكل ما يجري، لَم أستطِع التفكير بشيء، صرتُ أتحرك بسرعة وبخطوات ثقيلة داخل هذا الفراغ القذر المشؤوم، لَم أستطع البكاء.. لم أفسَح مجالاً لقلبي حتى يضعف، رفضت الوقوف، صرت أتحركُ بسرعة، وصرتُ أتذكر أشياء مهمة وأخرى تافهة، كانَ دماغي مثقلاً بدهشةِ الواقِعَة وبسخريةِ مجرى الأحداث (لقد جئتُ بقدمي إليهِم ولو بخدعة).. تذكرت الله ، استغفرته .. طلبتُ منه بوثوق أن يقف بجانبي، وأحسستُ ظلاله، استجمعتُ قوايَ، وقررتُ ألا مجالَ للانهيار هنا (ولا أعرف ما قد يأتي لاحقاً مِن أحداث ووقائع) ..
عدتُ وصرخت بذلك الرجل وطلبتُ منه أن أقابل ذلك (الضابط المزعوم) فأخبرني أنهُ تأخر الوقت، وقد لا يأتي اليوم، بسرعة أدركتُ الأمر وأنَّ أمر الضابط كذبة رخيصة أخرى، مرت حوالي الساعتين والنصف كأنهما دهر كامِل، بعد ذلك.. جاءَ هذا الرجل وفتحَ الزنزانة.. نظرتُ إليه مباشرة.. ودونَ أن أتوجهَ إليه بأيِّ السؤال قادني إلى الخارج وقال ……: إلى المدينة؟!!!!
(3)
لا أعرفُ كيفَ يُمكنُ أن أخدَمَ علَمَ دوْلَتي.. وأنا أتجرَّعُ هذه المهاناتِ المتوالية التي تسبقُ وصولي إلى مركز السُّوْق الكائِن في مدينةِ النبك خارج دمشق، سأستمرُّ في السَّردِ ما استطعت، لا مجالَ لسردٍ أدبي هنا .. إنما وقائِع، والمزيد من الوقائِع.
قادَني ذلك الرجل إلى الخارِج، وضَعَ في يدي قطعتيْ حديد (كلبشة - قيود)، صُدمت بداية وأخبرته أنه مخطئ فأنا لستُ مجرماً ولا خارجاً عن القانون، لكنهُ قال إنها الأوامِر، ولَم يكترث بحدَّة نبرة صوْتي، وأخبَرني بألاّ أجبرهُ على التصرّف بشكلٍ قد يزعجني (والمواطن السوري يعرف تماماً كيف يتصرف رجال الأمن عندما يرغبون بإزعاج الآخرين) ..
لا يمكن وصف الصَّدمة الأولى التي انتابتني وأنا مكبل بالقيود، لا يمكن وصفها أبداً، فإن ذاقها أي شخص قبلي، فليتكفّل عني بوصفها، كأيِّ مجرِم تم اقتيادي إلى سيارة (بيك آب) ركبنا فيها أنا والسائق ورجل الأمن وضعوني بينهما في المنتصف، وانطلقنا إلى المدينة. لا يوجد أي تفسير حتى الآن لاقتيادي إلى هناك، شيءٌ واحِدٌ يمكن ذكره ، مزيدٌ مِن الإذلال.
كانَ الطريقُ أشدُّ هدوءاً مِن قلبي الذي أخذَ ينبضُ بقسوة، وتلكَ المشاعر المتدفِّقة بأن دائِماً هُناك مَن يدفعني إلى كره وطني.. وأنا أحبُّ وطني.. وأكرهُ أن أكرهه بأفعالِ هؤلاء، تبادلَ السائق ورجل الأمن أحاديث تخصهما كانا يقطعانها بين الفينة والأخرى بتوجيه أسئلة غبية لم أكترث بها وجاوبت عليها باقتضاب، كانَ بالي مشغولا بما يمكن أن يحدث في المدينة.
وصلنا إلى فرع الأمن العسكري هناك بعدَ حوالي الساعة، كانَ الجوّ بارداً وموحشاً.. والتوقيت قارب العاشرة مساءاً، الثلج الذي غطى تلك المدينة في الأيام السابقة زال كلياً، عن الطرقاتِ فقط، وظلَّ مغطياً القلوب والعقول والرؤى، مرّة أخرى.. تمَّ اقتيادي إلى أسفل إلى القبو، وصلنا إلى غرفة مكتوب خارجها (السجن).. فيها رجل يرتدي بيجامة يجلس خلف طاولة يدخن ويشرب شيئاً ما ويشاهد التلفاز، كانت القيود ما تزال في يديّ، وكان جسدي كله يبكي.. إلاّ أنني حافظتُ على قواي، وحرصت ألاّ أظهر دمعة واحدة في ظلِّ أجواء كئيبة وقاسية لن يرحمني فيها أحد، كنتُ مدركاً ألا بشرياً على هذه الأرض يمكنه الوقوف بجانبي الآن.
شحنتُ ذاتي بالعزيمة وتقدمت، وكلما صَرخَ ذلك (القبيح) في وجهي زدتُ صرامة وزادَت نبرتي وثوقاً، عندما عرف أنني مهندس، خفضَ قليلاً مِن نبرة صوتِه، لكنَّهُ صار وبغباءٍ مدهِش يتوجهُ بنصائِحَ غبيَّة، وكأنهُ قد وجدَ فرصَتهُ حتى يعالجَ مرضهُ النفسيّ وإدراكهُ أنه يملك القوة (وهوَ لا يحمل شهادة سادس على الأغلب) أمام شخص أمضى حوالي العشرين سنة في المؤسسات الثقافية متدرجاً في درجاته العلمية، كانَ من البشاعةِ فعلاً أن أراقبَ هذا المشهد وأنا مدرك تماماً بأن هذا الساقط ينتظرُ مني اعتراضاً واحداً حتى يفرغَ نقصَهُ ويقضي حاجتهُ بضربي أو شتمي أو إذلالي بأي طريقة وهوَ ليسَ إلا مثالاً صارخاً لجيشٍ هائلٍ مِن المجيشين منذ عقود لإذلالِ المواطِن وإرغامهِ وإخضاعِه.
أمرني بالوقوف في زاويةِ الغرفة، ثمَّ جاءَ رجل آخر واقتادني إلى السجن، لَم أخطُ خطوتين حتى أمرني بخلع ملابسي، قامَ بنفضي نفضةً كامِلة (هل أنا مجرم).. عندما بقيتُ في سروالي الداخلي.. ليطالبني بخلعهِ هوَ الآخر. اجتاحَتني موجة اكتئابٍ ثقيلة، لَم أستوعب مسألة أن أتعرّى تماماً أمامَ أحدهِم وبهذا الأسلوب القذر (هل أنا مجرم)؟؟؟؟؟؟؟ !!!! .. ثمَّ أصرَّ عليَّ أن أخلعَ سروالي الداخلي.. وبدا لي من المستحيلِ أن يتراجعَ هذا الرجل عن أمره هذا، نظرتُ إلى الباب علّه يأتي أي شخص ينقذني من هذه الورطة، ويقول للرجل أنني لستُ مجرما وكل مافي الأمر أنني متخلف لفترة سوق واحدة لم تنتهِ بعد عن تأدية الخدمة الإلزامية، لكن لا شيء .. والله لا شيء، بقيتُ شاحباً للحظة ثمَّ خلعتُ آخر قطعةٍ أرتديها من جسدي وبدأتُ أرتعِش، قبلَ أن يطالبني بتأدية حركة صعود ونزول (سموها فيما بعد حركتين أمان).. ومرة أخرى سمعتُ جسدي يبكي، ورفضتُ الانهزامَ أمامَ هؤلاء الكلاب.. (هل أنا مجرم.. هل أنا مجرم..؟؟!!!) ..
قادوني إلى زنزانة قريبة، كل شيءٍ فيها موحش، عدا صوت مزرابٍ آتٍ مِن منور يبدو أن التمديدات فيهِ معطلة أو شيء من ذلك القبيل، ثم بدأتِ السَّماءُ بالهطول …………. ونِمت .
(يتبع بكل تأكيد..)