-
دخول

عرض كامل الموضوع : مذكّرات الأيام السِّت.. الطريق إلى النبك..


مـــــداد
13/03/2009, 12:54
عزيزي القارئ.. هذه القصة ليست قصة اليوم، ولا قصة البارحة.. هذه قصة تمتدّ على عقود، وهي ليست قصة أحمد.. أو محمد.. أو ياسر.. أو نضال.. أو حسام.. أو رامي.. أو طارق.. هذه قصة كلّ شاب رضع حب وطنه من ثدي أمه.. ذاب في ترابها حدّ الاندثار.. هذه ليست قصة شاب، مثقف أو طالب أو عامل أو صانع أو أجير أو أو أو.. هذه قصة وطن بأسره..
هذه القصة حقيقية جداً وتحدث كلّ ليلة يعرفها البعض وقد لا يعرفها البعض الآخر..
هذه قصة مواطن عربي سوري عادي جداً على درجة من الثقافة والوعي لا ينتمي إلا لوطنه، قال لي يوماً: “إن لفظنا الوطن فأين نذهب؟!!”.. “هل يستطيع أحد ما في هذا الكون أن يعيش بلا وطن؟!!”..
هذه قصته..
مذكرات الأيام الست.. الطريق إلى النبك..
قد يظنُّ من سيقرأ هذه المذكرات أنني أحاولُ سرْدَ أحداثٍ مشوِّقة ليملأَ بها بعضُ الشَّواذ أوقاتَ فراغِهِم المتورِّمة ويستخدمها آخرون لنقاشات عقيمة يجمِّلون بها هيئاتِهِم الثقافية، وربما قد يظنُّ آخر بأنني أتسلَّى بفتاتِ ذاكرة عَبَرَت يوْماً، ولكن القليل ربما هوَ مِن سيدرُك عمقَ هذهِ المذكرات ومدى شاهق أثرها.. ولا أقول العميق، لأنَّ شيئاً ما ارتفَعَ وطاف على سطح الماء وصارَ واضِحاً، فانجلَت رؤيا كانت ضبابيَّة.. وبانَت رائحَة لطالَما اختلَطَت بالوهْم والمسافات، ليْسَت هذهِ الأحداثُ التي أسردها الآن وسيلة حتى يستخدمَها بعض “المعتوهِين والناقصين” ليهاجموا بها الأرض التي عليها وُلدت وعليها أموت إنما هيَ لِفَضحِ بعضِ مماراساتِ الخارجينَ عَن أخلاقياتِ البشَر ومَدى غيابهِم عن أنظارِ أصحابِ القرار المتدثرين بكسلهم ونعاسِهِم وهواجسهِم المادية والجنسية..
الكاتب.. مواطِن عربي سوري
المهنة.. مهندس ما أو طبيب ما أو جامعيّ ما..
العمر.. حوالي ثلاثة عقود أو أقل

اليوم الأول
(1)

ترجلتُ عن الباصِ الأصفر الذي أقلَّني من دمشق، ولَم يكُن ثمةٌ في ذاكرتي أكثر مِن تفاصيلَ تتعلقُ ببعضِ الأعمالِ التي لم تنتهِ بعد، وبعض الأشياء السَّطحية التي لا قيمة تذكر لها، كنتُ أعرفُ تماماً الوجهة التي أذهب إليها، كنتُ قد اتفقت مع أحدهم لزيارتِهِ في فرعِ الأمن مِن أجل تزويده ببعض المعلوماتِ المهمة وإعطائِهِ أوراق كان قد طلبها مني هاتفياً.. بعدَ أن كانَ قد أبلغَني مراراً بأن الأمر روتيني بحت وأنني سأكون مطمئناً وراضِ تماماً، وليسَ ثمَّة ما يقلِق في المسألة برمتِها، وأنني سأعود إلى بيتي بعد ذلك.. مدة طويلة منذ آخر مرة غدرني فيها أحدهم، استقليت سيارة أخرى صفراء اللون وذهبت إلى ما يسمى بـِ(فرع الأمن العسكري) .
عِندما وصلتُ إلى المكان كانتِ الأجواء ساكنة تماماً ولَم يكُن ثمة ما يدعو للقلق، مطر الأيام الثلاث السابقة قد توقف رغم الغيوم المتفرقة في السماء ونفسيتي هادئة ومستقرّة وسائق التاكسي بجانبي صامت وهادئ ولا يبدي رأياً، تأملتُ بناء فرع الأمن العسكري من خلف زجاج السيارة الصفراء كانَ باهِتا وعادياً، لم تكَد تمرُّ الدقيقة الخامِسة وأنا على حالتي هذه حتى مددتُ يدي إلى محفظتي.. نقدتُ السائق مبلغ خمسين ليرة سورية ونزلت.
(2)
عندما اقتربتُ من بوابة المبنى الرئيسية اقتربَ مني شاب يرتدي بزّة عسكرية يتأبط سلاحاً ما وسرعان ما خرج شاب آخر (مدني) من غرفة خارج البوابة وأشارَ بيده إلى العسكري بالابتعاد قائلاً (هذا ضيفي) .. بدَت كلمتهُ غبية ومتعِبة في نفس الوقت بالنسبة لي.. فأنا لطالَما كرهتُ أولئكَ المتملِّقين الذين يبدونَ اهتماماً بأشخاصٍ لا يعرفونهم (كنتُ مخطئاً بخصوص هذا الشخص).. كانَ نفسه ذلك الشخص الذي كان يلاحقني لمدة شهر كامل باتصالاتِهِ الهاتفية، استقبلني بحرارة وابتسامة باردة وطلَبَ مني الدخول إلى تلك الحجرة الخارجية.
مِن داخل الحجرة تلك أجرى اتصالا ظهرَ لي فيما بعد أنه خلَّبي (وهميّ)، ثمَّ طلَبَ مِني أن أصْحَبَهُ داخِل المبنى لنقابلَ هُناك (ضابط برتبة عقيد) - عرفتُ فيما بعد ألاّ وجودَ له أساساً -. كانَت لحظة دخولي إلى ذلك المبنى، هيَ اللحظة التي فقدتُ بها حريتي بشكل كامل على مدار ستة أيَّام عومِلتُ بها كمجرم خارجٍ عنِ القانون.
كانت المسافة التي مشيناها قصيرة وبدأت تطول حين نزلنا أدراجاً إلى قبوٍ تفوحُ مِن أنحائِهِ روائِحِ البوْل والغائِط مختلطة نوعاً ما برائحة نرجيلة تخرج من غرفة بعيدة، وبالنسبة لي؛ لَم يبدُ أيَّ شيء حقيقياً، فهذا وهمٌ أو مداعبة ستنتهي عاجلاً، ويصعب عليَّ تصديق أن يكون هذا مكاناً ملائماً لتبادل أحاديث ودية مع ضابط أمن للحصول على بعض المعلومات بشأن التجنيد..
قرعَ ذلك الشخص باباً حديدياً مراراً قبلَ أن يفتحه شخص آخر لم يتسنَّ لي معرفة اسمه، استلَمني وقادَني إلى غرفةٍ داخلية وكانت تلك الروائح ما تزال تفوحُ بقسوة مِن الزوايا الخربة لمكانٍ عفِن، كان في الغرفة طاولة وسرير معدني وكرسيان جلستُ على أحدهما وجلس هوَ مقابل الطاولة التي وضع على مقدمته ورقة من الكرتون المقوى مكتوب عليها (محقق)، بعدَ انتظار قليل احتفظتٌ خلالَهُ بصَمتي وهدوئي.. راحَ يذكرني هذا الرجل الغريب بأن ثمة عقيد سيأتي عمَّ قليل ليقابلني، طلَبَ مني أن أسلمهُ هاتفي النقال ومحفظتي وحقيبة يدي التي كنت أحملها، سلمته كل شيء مدركاً أنني في فرع أمن عسكري وأنهم لا بدّ يأخذون احتياطاتهم بالتفتيش قبل قدوم ذلك الضابط (الخلَّبي) .. إلى أن بدأت تصرفاته تبدو غريبة بعضَ الشيء.
أغلقَ الهاتِف .. ووضعَ هويتي في درج الطاولة وقام بعدِّ المبلغ المالي في محفظتي وصارَ يسجل كل شيء على ورقة صغيرة، وكل هذا يحدث وأنا في حالة ذهول تامة وبدأتُ أتوجسُ لأول مرة من دخولي هذا المكان. اقتربَ مني وطلب مني الوقوف، فتشني جيداً.. ثمَّ عادَ خلفَ طاولته، وبابتسامة صفراء أخبرني بحقيقة الأمر سنقودكُ إلى الخدمة الإلزامية (موجوداً). وصارت كلمة (موجوداً) هذه فيما بعد الكلِمة الأبشع في قاموس اللغة العربية.. لأنَّ ترجمتها تعني أنكَ مجرد بهيمة في مباني الدولة الشرطية والأمنية، بقيتُ صامتاً وتسمّرت نظراتي على تقاسيم وجهه، أبحث فيها إن كان ثمة مكانٍ للمزاح فيها، لكن لا شيء..
استمرَّ في كذبته بخصوص الضابط الذي سيقابلني، وقامَ بمنحي (هدية) عظيمة فقط لأنني (مثقف ومهندس) فسيسمح لي بإجراء اتصال هاتفي وحيد مع أهلي فقط، ولم يسمح لي بأن أتحدث لهم بأيِّ شيء.. سوى أنني في فرع الأمن العسكري وأنهم سيسوقوني إلى الجيش .
بعدَ قليل، بدأت أوامره تأخذ مساراً أكثرَ تعنتاً وحدّة، أمرني بالوقوف، اقتادني إلى أول زنزانةٍ في حياتي، دخلتُ إلى مكانٍ يسهلُ وصفه.. ويصعبُ تذكر تفاصيله، بقدر ما هي قذرة وبشعة، وتعكِسُ حالَة سقوطٍ هائِل لدى مؤسساتِ الدولة الأمنية، كانَ المكان مجموعة مِن الصناديق الصغيرة (غرف توقيف) مفتوحة على موزع ضيق وحمام.. أو مكان لقضاء الحاجة لا باب له، وتفوحُ مِن المكان رائحة كريهة قد يصعبُ على البهائم تحملها.
كنتُ تحت وقع صدمة شديدة لكل ما يجري، لَم أستطِع التفكير بشيء، صرتُ أتحرك بسرعة وبخطوات ثقيلة داخل هذا الفراغ القذر المشؤوم، لَم أستطع البكاء.. لم أفسَح مجالاً لقلبي حتى يضعف، رفضت الوقوف، صرت أتحركُ بسرعة، وصرتُ أتذكر أشياء مهمة وأخرى تافهة، كانَ دماغي مثقلاً بدهشةِ الواقِعَة وبسخريةِ مجرى الأحداث (لقد جئتُ بقدمي إليهِم ولو بخدعة).. تذكرت الله ، استغفرته .. طلبتُ منه بوثوق أن يقف بجانبي، وأحسستُ ظلاله، استجمعتُ قوايَ، وقررتُ ألا مجالَ للانهيار هنا (ولا أعرف ما قد يأتي لاحقاً مِن أحداث ووقائع) ..
عدتُ وصرخت بذلك الرجل وطلبتُ منه أن أقابل ذلك (الضابط المزعوم) فأخبرني أنهُ تأخر الوقت، وقد لا يأتي اليوم، بسرعة أدركتُ الأمر وأنَّ أمر الضابط كذبة رخيصة أخرى، مرت حوالي الساعتين والنصف كأنهما دهر كامِل، بعد ذلك.. جاءَ هذا الرجل وفتحَ الزنزانة.. نظرتُ إليه مباشرة.. ودونَ أن أتوجهَ إليه بأيِّ السؤال قادني إلى الخارج وقال ……: إلى المدينة؟!!!!
(3)
لا أعرفُ كيفَ يُمكنُ أن أخدَمَ علَمَ دوْلَتي.. وأنا أتجرَّعُ هذه المهاناتِ المتوالية التي تسبقُ وصولي إلى مركز السُّوْق الكائِن في مدينةِ النبك خارج دمشق، سأستمرُّ في السَّردِ ما استطعت، لا مجالَ لسردٍ أدبي هنا .. إنما وقائِع، والمزيد من الوقائِع.
قادَني ذلك الرجل إلى الخارِج، وضَعَ في يدي قطعتيْ حديد (كلبشة - قيود)، صُدمت بداية وأخبرته أنه مخطئ فأنا لستُ مجرماً ولا خارجاً عن القانون، لكنهُ قال إنها الأوامِر، ولَم يكترث بحدَّة نبرة صوْتي، وأخبَرني بألاّ أجبرهُ على التصرّف بشكلٍ قد يزعجني (والمواطن السوري يعرف تماماً كيف يتصرف رجال الأمن عندما يرغبون بإزعاج الآخرين) ..
لا يمكن وصف الصَّدمة الأولى التي انتابتني وأنا مكبل بالقيود، لا يمكن وصفها أبداً، فإن ذاقها أي شخص قبلي، فليتكفّل عني بوصفها، كأيِّ مجرِم تم اقتيادي إلى سيارة (بيك آب) ركبنا فيها أنا والسائق ورجل الأمن وضعوني بينهما في المنتصف، وانطلقنا إلى المدينة. لا يوجد أي تفسير حتى الآن لاقتيادي إلى هناك، شيءٌ واحِدٌ يمكن ذكره ، مزيدٌ مِن الإذلال.
كانَ الطريقُ أشدُّ هدوءاً مِن قلبي الذي أخذَ ينبضُ بقسوة، وتلكَ المشاعر المتدفِّقة بأن دائِماً هُناك مَن يدفعني إلى كره وطني.. وأنا أحبُّ وطني.. وأكرهُ أن أكرهه بأفعالِ هؤلاء، تبادلَ السائق ورجل الأمن أحاديث تخصهما كانا يقطعانها بين الفينة والأخرى بتوجيه أسئلة غبية لم أكترث بها وجاوبت عليها باقتضاب، كانَ بالي مشغولا بما يمكن أن يحدث في المدينة.
وصلنا إلى فرع الأمن العسكري هناك بعدَ حوالي الساعة، كانَ الجوّ بارداً وموحشاً.. والتوقيت قارب العاشرة مساءاً، الثلج الذي غطى تلك المدينة في الأيام السابقة زال كلياً، عن الطرقاتِ فقط، وظلَّ مغطياً القلوب والعقول والرؤى، مرّة أخرى.. تمَّ اقتيادي إلى أسفل إلى القبو، وصلنا إلى غرفة مكتوب خارجها (السجن).. فيها رجل يرتدي بيجامة يجلس خلف طاولة يدخن ويشرب شيئاً ما ويشاهد التلفاز، كانت القيود ما تزال في يديّ، وكان جسدي كله يبكي.. إلاّ أنني حافظتُ على قواي، وحرصت ألاّ أظهر دمعة واحدة في ظلِّ أجواء كئيبة وقاسية لن يرحمني فيها أحد، كنتُ مدركاً ألا بشرياً على هذه الأرض يمكنه الوقوف بجانبي الآن.
شحنتُ ذاتي بالعزيمة وتقدمت، وكلما صَرخَ ذلك (القبيح) في وجهي زدتُ صرامة وزادَت نبرتي وثوقاً، عندما عرف أنني مهندس، خفضَ قليلاً مِن نبرة صوتِه، لكنَّهُ صار وبغباءٍ مدهِش يتوجهُ بنصائِحَ غبيَّة، وكأنهُ قد وجدَ فرصَتهُ حتى يعالجَ مرضهُ النفسيّ وإدراكهُ أنه يملك القوة (وهوَ لا يحمل شهادة سادس على الأغلب) أمام شخص أمضى حوالي العشرين سنة في المؤسسات الثقافية متدرجاً في درجاته العلمية، كانَ من البشاعةِ فعلاً أن أراقبَ هذا المشهد وأنا مدرك تماماً بأن هذا الساقط ينتظرُ مني اعتراضاً واحداً حتى يفرغَ نقصَهُ ويقضي حاجتهُ بضربي أو شتمي أو إذلالي بأي طريقة وهوَ ليسَ إلا مثالاً صارخاً لجيشٍ هائلٍ مِن المجيشين منذ عقود لإذلالِ المواطِن وإرغامهِ وإخضاعِه.
أمرني بالوقوف في زاويةِ الغرفة، ثمَّ جاءَ رجل آخر واقتادني إلى السجن، لَم أخطُ خطوتين حتى أمرني بخلع ملابسي، قامَ بنفضي نفضةً كامِلة (هل أنا مجرم).. عندما بقيتُ في سروالي الداخلي.. ليطالبني بخلعهِ هوَ الآخر. اجتاحَتني موجة اكتئابٍ ثقيلة، لَم أستوعب مسألة أن أتعرّى تماماً أمامَ أحدهِم وبهذا الأسلوب القذر (هل أنا مجرم)؟؟؟؟؟؟؟ !!!! .. ثمَّ أصرَّ عليَّ أن أخلعَ سروالي الداخلي.. وبدا لي من المستحيلِ أن يتراجعَ هذا الرجل عن أمره هذا، نظرتُ إلى الباب علّه يأتي أي شخص ينقذني من هذه الورطة، ويقول للرجل أنني لستُ مجرما وكل مافي الأمر أنني متخلف لفترة سوق واحدة لم تنتهِ بعد عن تأدية الخدمة الإلزامية، لكن لا شيء .. والله لا شيء، بقيتُ شاحباً للحظة ثمَّ خلعتُ آخر قطعةٍ أرتديها من جسدي وبدأتُ أرتعِش، قبلَ أن يطالبني بتأدية حركة صعود ونزول (سموها فيما بعد حركتين أمان).. ومرة أخرى سمعتُ جسدي يبكي، ورفضتُ الانهزامَ أمامَ هؤلاء الكلاب.. (هل أنا مجرم.. هل أنا مجرم..؟؟!!!) ..
قادوني إلى زنزانة قريبة، كل شيءٍ فيها موحش، عدا صوت مزرابٍ آتٍ مِن منور يبدو أن التمديدات فيهِ معطلة أو شيء من ذلك القبيل، ثم بدأتِ السَّماءُ بالهطول …………. ونِمت .
(يتبع بكل تأكيد..)

مـــــداد
16/03/2009, 15:31
اليوم الثاني
(1)


في الصَّباح الباكر، جاءَ رجلٌ آخر، فتحَ بابَ الزنزانة وبدأ يلقي شتائم لَم أفهَم معظمها، كنتُ ما أزالُ في حالة من التيه وشيء من الضياع، كانت ليلةً مِن كابوس.. وإن غفلت عيني فيها قليلاً فهي لم تغفل إلا على حلمٍ واحِد.. أن كلَّ ما يجري مجرد خطأ وسيتم تصليحه في أقرب وقت، مع مرور الوقت كان يتضحُ لي تماماً مدى الوهم الذي أنا فيه، كانَ هذا الرجل أشدّ غلاظةً ووحشيةً مِن رجل الأمس.

تقدّم إلى داخل الزنزانة، كانت حركة يده ونظرات عينيه توضحان تماماً بأنه ينوي ضربي، لَم أفهم ما المشكلة، حتى أمرني بالوقوف وبدأ يهذي “مرة تانيي بتقوم توقف على حيلك بس فوت ولا، ماتشوف حالك عليْنا، فهمان ولا”.. قمتُ بالتحديق في عينيه بهدوء، وقلت له: “طول بالك، ما كنت منتبه، بعدين أنا أول مرة بفوت هيك مكان وما بعرف قوانين التعامل فيه”..، ثم بدأ بإلقاء شتائم متواصِلة، بلعتها بصَمت، أعطاني رغيفين وبيضتين وقال لي إنه فطور لي ولزميلي في الغرفة، وزميل الزنزانة هذا كان مزوّر رخصة سيارة شحن كان قد اقتيد إلى التحقيق، عندما عادَ هذا الرجل لاحقاً أعطيته الرغيفين والبيضتين. كنت عاجزاً تماماً عن إدخال لقمة واحدة في جوفي، وكان جسدي غاضباً وروحي في حالة هيجان ومشاعري في قلق وهوس..

بعد لحظات، عادَ ذلك الغليظ الوقح، فتحَ الزنزانة واقتادني إلى الخارج، وضعني في غرفة التحقيق وأمرني بالبصم على أوراق لم يُسمح لي بقراءتها (وأنا لا أعرف مضمونها إلى الآن).. ثمَّ قادني خارجاً وبدأ بتوجيه ضربات خفيفة بكفه على قفا رأسي بنوع من الإذلال، ومرّة أخرى اجتاحني شعورٌ بغيض تجاهَ هؤلاء القردة الذين لا يعرفون مِن الحياةِ إلاّ أكثرَ تفاصيلها وساخة، كنت مشتعلاً ومصاباً بإحباطٍ شديد، كانَ بجانبي مجموعة أولاد أعمارهم بين 18 وال 20 اقتادوهم إلى المكان لنفس السبب (تخلّف عن الخدمة).. بعضهم لم يكن يعرف أنه متخلّف أصلاً لأنه لم يصله أي تبليغ من شعبة تجنيده وهذا سينطبق على معظم الشباب الصغار الذين سأقابلهم فيما سيأتي من سجون وأقبية و”مشخات” (عافاكم الله) مسخرة ومذلة وغباء..، أيُّ عالمٍ هذا الذي نعيشُ فيه.. أيُّ عالم ؟!..

لحظات.. حتى دخل أحدَ هؤلاء الكلاب وهوَ يقتاد (طفلاً) آخر.. كان ذلِك (الطفل الشاب) مرعوباً بدرجات عندما نطق بكلمات قليلة مفادها أنه لم يكن يعرف أنه متخلف حتى انهارَ عليه ذلك الغليظ الوقح بصفعاتٍ متتاليةٍ على وجهه، الشباب الصغار بجانبي بدؤوا يبكون، لأنهم خافوا من تلقي نفس المصير، فقمت بتهدئتهم وأخبرتهم أن لا أحد سيقترب منهم إن فعلوا ما يُطلب منهم، ولكن ذلك النذل عادَ ليوجه صفعات إلى قفا رأسي مجدداً وهوَ يعرفُ تهمتي (تخلف عن الخدمة) وعمري ومهنتي، لكنهُ مريض..

هؤلاء البهائم.. يفرغون نقصهم عندَ أول فرصةٍ تسنحُ أمامهم في الأطفال والمثقفين، كانت هذه اللحظات الأخيرة عصيبة جداً، وكنتُ أرجو أن أنتهي منها دون أن أبدي أي ردة فعلٍ قاسية قد تزيد الأمور سوءاً وفي نفس الوقت وجدتني مضطراً لتهدئة الشبان الصغار الذين رافقوني رحلةً بدأت بعدَ لحظات.

مـــــداد
22/03/2009, 13:33
(2)

كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف صباحاً عندما اقتادنا مجموعة من أربعة رجال إلى سيارة خارج الفرع، حشرونا في صندوقها الخلفي؛ أنا وشابين في التاسعة عشرة من عمرهما، كلاهما تم اقتياده بدون تبليغ مسبق، وقفنا للحظات أمام أحد الأبواب، كنا في انتظار الخامس ليرافقنا من جديد إلى إلى قسم الشرطة العسكرية في المدينة المجاورة..
“هل نحن مجرمون، خمسة رجال وبنقدية وذخيرة.. إنها الحرب لا محالة، هؤلاء الذي يهربون كالقطط عندَ أولِ اختبار رجولة حقيقي”.. لحظات حتى أتى ذلك (الخامس) وعلى ما يبدو فإنه كان مغتاظاً لأنهم أفاقوه من نومهِ باكراً، فكانَ أول ما فعله لدى دخوله السيارة أن توجه إلى الصندوق الخلفي وبدأ ينهال علينا بالضرب، بقية مدّعي الرجولة (النساء) ضحكوا قليلاً من الموقف ثم أوقفوه، ثمَّ أخبره أحدهم بأني مهندس، فما كانَ منه إلاّ وأن بدأ بتوجيه شتائم أصابَ في أحدها (عَرضي) مباشرةً.. الآخرون استمرّوا في الضحك، أما أنا فقد شددت يدي على القيد حتى أني أحسستُ أنها على وشكِ الانكسار، وقد تسببتُ بألمٍ لنفسي، لا شيءَ يمكنُ وصفهُ هنا.. باختصار شديد (أنا منهار.. منهار تماماً).

مـــــداد
03/04/2009, 14:26
(3)

في فرع الشرطة العسكرية في المدينة الأخرى، قاموا بإنزالنا إلى (قبوٍ آخر)..، وتمَّ تسليمنا إلى (السِّجن) هناك، دخلنا غرفةَ التحقيق، وتم أخذ بياناتنا وأماناتنا، ثم قادني أحدهم إلى الخارج، وأمرني بالانتظار قليلاً، الشابين الآخرين تم تفتيشهما وتعريتهما وأُخذوا إلى زنزانة قريبة، أما أنا فقد تمَّ أخذي إلى شعبة التجنيد بصحبة عسكري، هناك أعطوني ورقة إيداع لمدة 24 ساعة حتى يتمّ السؤال عن أوراق تأجيل الخدمة في دمشق، ثم تم إعادتي إلى سجن (الشرطة العسكرية)، أدخلوني إلى هذا المكان المظلم، ومرة أخرى، مجموعة كلاب وأنذال قاموا بتفتيشي بطريقة غوغائية عُريتُ تماماً، ثمَّ أدخلتُ إلى زنزانة مكتوب عليها (مهجع المدنيين).
المكان قذر، وفيه زاوية يتم قضاء الحاجة فيها، تملأ المكان بالروائح القذرة، أما نزلاء هذا المهجع فهم إمّا مجرمون محكومون، وإما متهمون ينتظرون صدور قرار القضاء العسكري بأمرهم، معظمهم أصحاب سوابق لديهم مشاكل مع جهات عسكرية، (م , أ) تاجر مخدرات يملك الملايين، لديهِ تهمة إشهار سلاح في وجه مدني أعزل غير تهمته الأساسية تجارة المخدرات وتهريبها.. وآخر نسيت اسمه يحمل على عاتقه ثماني تهم كاملة، لم أستطع تذكر إلا أهونها وهو سلب بالعنف، وآخر متهم بحيازة سلاح وآخر القتل عن قصد بعد مشاجرة، وآخر مهرّب خطير، وآخر يملك تهَم قديمة لَم تنتهِ محاكمته منها بعد.. و و و والخ..
كل هؤلاء جمعني معهم زنزانة واحدة ومعَ مجموعة شباب صغار في السِّن وكلُّنا تحت نفس السقف، شباب لم يجدوا في قواميسهم للإجرام معنىً بعد.. كانَ ذلكَ اليوم قاسياً جداً، وحالة الاختناق التي أصابتني لَم تمنعني أبداً مِن تداول الحديث مع البعض، كنتُ غاضبا وحزيناً في نفس الوقت، لا أعرف لم وجدتني مضطراً للتخفيف عن أولئك الشبان الصِّغار، فهم لا يستحقونَ أبداً ما هم فيه، مساكين لا يفهمون كل ما يجري، ومستسلمين تماماً لما صاروا فيه كالقرابين، ولا يسألون إن كان خطأ أو صواب، الكل يبحثُ فقط عن خلاص لتنتهي كل هذه الأزمة وأن يزولَ هذا الكابوس المرعب.
لليوم الثاني على التوالي فقدتُ القدرة على الأكل، حتى بدأت أوجاع الرأس تتصاعَد، وجدتُ نفسي عندها مضطراً لتناول بعض الخبز حتى آخذ دواء تمَّ تقطيره لي بالحبَّة مِن قبل العساكر السجانين. حتى هذه اللحظة، كانت حالة الانهيار التي عشتها مشوبة ببعض أمل أن تأتي أوراقي من دمشق بالموافقة على التأجيل، وتصوّروا معي أنني إلى الآن موقوف وأتنقل من ذلّ إلى ذل.. دونَ تهمة بحقي، ويُنتظر مني أن أكونَ جاهزاً لخدمةِ العلم، وأنا واللهِ.. أحب هذه الأرض، ولأنني أحبها، سأتجاوز هذا الأمر، لا بدَّ من ذلك، فلَن أتوقفَ عندَ هذا أبداً، لا أستطيع التوقف، فعلى هذه الأرض ما هوَ أطهر لأضحي لأجله، وهؤلاء الكلاب سينتهون.. جميعهم إلى زوال.
لَم أستطع النوم. الروائح القذرة، صوت شخير يأتي من هنا وهناك، قلقٌ وترقب، وبردٌ شديد في كلّ شيء.. في كل شيء، حتى بدأت السماء تُمطر، بعثَ المطرُ في داخلي شيئاً مِن الشعور بالأمان… ونِمت.

مـــــداد
23/04/2009, 19:32
اليوم الثالث

في الصباح الباكِر، دخلَ أحدهم وقام بترديد أسماء بعض السجناء – المتهمين -، اقتادهم خارج السجن، وبعدَ انتظار دامَ أكثر من ساعتين جاءَ أحدهم واقتادني مع مجموعة من السجناء إلى الخارج، تمَّ تقييدنا مرّة أخرى في قيود ثنائية (كل اثنان في قيد)، وساقونا إلى سيارة في الخارج، وضعونا فيما يسمونه (القفص) الخلفي، وأخذونا إلى شعبة التجنيد.
لوْ أردتُ أن أجلِسَ معَ كبار المختصين النفسيين على هذه الكرة الأرضية، ليمنحني القدرة على شرح الحالة، وأنا أنزل من ذلك القفص المقيت أمام أنظار العالم مقيداً بيدي الاثنتين، غارقاً في الإذلال، يمسكني اثنان ويجرّاني بسرعة، وشعبة تجنيد تلك المدينة تقع وسط سوق شعبية لمن لا يعرف.. من الممكن أن يراني أكثر من مائة شخص أثناء نزولي ثم صعودي إلى مقرّ الشعبة كأنني سجين مُدان ارتكب جريمة ما بحقّ المجتمع. أستغربُ من بلاد تصنع من أبناءها مجرمين كرهاً وتضعهم في خانة مع كبار العتاة ثم يُطلب منهم أن يخدموا الوطن..؟!! لا أعرف إن كنتُ سأخدم وطني أم سأخدم من يملكونه..؟!!! سؤال أشعل هواجسي من جديد وشرّع الأسئلة عن جدوائية هذه المعمعة كلها..
اضطررتُ حينها لرفع رأسي عالياً عندما تذكرتُ منظرَ المقتادين إلى السجون حين ينزلون وسط الناس وهم مطأطئي الرؤوس، فأنا لستُ مجرماً ولن يلبسوني روح المجرم حتى ولو بالقوّة..، ولَن أدفعَ فاتورة كوني في بلدٍ لا يحترم مثقفيه فضلاً عن أن يحترم مواطنه العادي..

بقيودي وهمِّي وهواجسي وأفكاري صعدتُ، دخلتُ إلى غرفة رئيس الشعبة، أخبرني أن أوراق تأجيلي تمَّ رفضها في دمشق، وأنني سأسُاق إلى الخدمة الإلزامية، خرجتُ من الغرفة ودخلتُ غرفة أخرى تم إملاء يياناتي فيها وتسجيل بدء مهمة على دفتر الخدمة الإلزامية، قادني عسكري من الشعبة إلى الشرطة العسكرية، ثمة أشخاص تكلّموا لأجلي هناك معَ أحدهم (مساعِد على ما أعتقد).. فطلَب عدم تفتيشي هذه المرة، وأدخلوني في زنزانة أخرى مكتوب عليها (مهجع الشرطة).
بقيت لوحدي فترة ما ثم دخلَ شاب آخر كان على وشك إنهاء خدمته في مركز الشرطة العسكرية قبل أن يتعرّض لحادث دراجة نارية جعلته يدخل في دوامة استمرت لأكثر من أسبوع، بعد حوالي الساعتين أو أكثر، دخلَ مجموعة رجال تبدو عليهم علائم الوقار، ويصعبُ تصديق أن أمثالهم يمكن لهم أن يتواجدوا في مكان كهذا يوماً، كانوا متهمين بالتعاون مع عسكري السجن المدني في تلك المدينة من أجل صفقات تجارية أو ما شابه، هذا ما فهمته.
تسليتُ (بغصة) وأنا أستمعُ إلى أسلوب التحقيق الذي استخدموه معَ أحدهم (تجاوزَ الأربعين وربما اقترب من الخمسين)..، ادخلوهُ في دولاب. وآخر تجاوز الخمسين فعلاً .. ( ……………… ) ، لَن أبكي الآن ، العسكري المسكين، ضُربَ بقسوة شديدة من أجل الاعتراف بأسماء أشخاص، وهوَ لا يملك هذه الأسماء، لَم أستطع الاستمرار في الإصغاء إلى قصص هؤلاء، أخذت زاوية من ذلك السجن القاتم ، ……. ولليوم الثالث على التوالي ….
نمتُ ؟! .

Abu ToNi
24/04/2009, 00:49
نايثن .. انا اعترض وبشدة .. انه ليش بمدونتك مخلص السلسة وهون بالأخوية ما عما تنزلها كاملة :jakoush:

انه الاخوية ولاد البطة السودا :sick:

Nay
24/04/2009, 10:01
قريت السلسلة بمدونتك.. وكنت بدي اطلب منك تنزلها بالاخوية..
شكرا..

Nay
24/04/2009, 10:06
قريت السلسلة بمدونتك.. وكنت بدي اطلب منك تنزلها بالاخوية..
شكرا..

شامي للنخاع
24/04/2009, 13:35
الالم والغصة..........والحرقة نقلتها من روحك الى داخل روحي..........فأجبرتني انا اكمل القصة من مدونتك.......الى متى يا وطني؟؟؟؟؟
تحياتي لك

مـــــداد
24/04/2009, 14:54
نايثن .. انا اعترض وبشدة .. انه ليش بمدونتك مخلص السلسة وهون بالأخوية ما عما تنزلها كاملة :jakoush:

انه الاخوية ولاد البطة السودا :sick:

له له.. ما عاش اللي بيقول عن الأخوية ولاد البطة السودا..
لكن ما شفت في تفاعل بالقراءة كتير للموضوع من أول ما نزلته، لذلك قررت أني أنزله على دفعات..
وليكني مستمر فيو.. واللي قرأ القصة بالكامل من المدونة حرق الفيلم هون.. بركي غير بالخاتمة.. وخليها سعيدة متل قصة "ليلى والذئب"..
على كل حال حقك علينا.. وشكراً لمرور الجميع على صفحات المدونة..
كل الود لكم..

Nay
24/04/2009, 20:20
عادي مداد دايما في اقسام بالمنتدى مو كتير بيكون عليها إقبال..
بس العبرة بالنوعية مو الكمية.. لانو بالاقسام اللي بيكون عليها اقبال كتير بيكون الكم على حساب النوع..
:D

مـــــداد
24/04/2009, 20:24
عادي مداد دايما في اقسام بالمنتدى مو كتير بيكون عليها إقبال..
بس العبرة بالنوعية مو الكمية.. لانو بالاقسام اللي بيكون عليها اقبال كتير بيكون الكم على حساب النوع..
:D


:سوريا: :سوريا: :سوريا: :سوريا: :سوريا:

مـــــداد
30/04/2009, 13:40
اليوم الرابع
(1)
كان يوم خميس، وكانَ يفترَض أن يتم أخذي (موجوداً) إلى الشرطة العسكرية هناك ليتم أخذي بعدها إلى شعبة التجنيد ثمَّ إلى مفرزة النبك لألتحق بالخدمة، هذه الإجراءات والتي من الممكن إنهاءها في غضون ساعة من الزمن، أخذت معي ثلاثة أيام بلياليها، وكثير من القهر والجوع والمرَض والاختناق والذل و و..الخ..
أخرجوني من الزنزانة، وقاموا بتسليمي أماناتي، خرجتُ إلى ممر ضيق تجمّع فيه ما يزيد على عشرين شخصاً، معظمهم مجرمين، ومنهم كنا حوالي السبعة متهمين بالتخلف عن الخدمة، وموقوفين دون تحقيق ودونَ أدنى حق بالدفاع أو الكلام، حتى حق الزيارة.. سُلِبناهُ لاحقاً.
تمَّ ربطنا جميعاً في سلسلة واحدة، كان المنظرُ أقوى وأشدّ من سابقيه، رجوتُ أيّ تصرفٍ واعٍ من الموجودين بالقرب بأن يرحمني ولا يوثقني بهذه الطريقة البهائمية.. (في سلسلة طويلة كالأغنام؟؟؟) تباً..
هنا.. أشياء أخرى بدأت تنهار داخلي، وحجم الصبر الهائل الذي حملتهُ بدأ ينفد، وبدوْتُ متعباً بدرجات.. وبدأت ملامحي بالتقلُّص. وضعُوني مع الآخرين وربطوني في السلسلة، وكالخراف ضمن قطيع.. تمَّ اقتيادنا خارجاً.

(2)
ثمّة سيارة أخرى كانت تنتظرنا لتقلّنا إلى دمشق.. ودمشق هذه المرّة ليست مدينة اللهِ الخالدة، بل مدينة القاذوراتِ والأوساخ وروائح المهاجع والمجرمين والكلاب، مدينة الأوباش قتيمي الهيئة، مدينة القلق والكبتِ والهوَس، مدينةُ الخوفِ والصَّمت.
دِمشق مدينةُ الأسر، لا شيءَ فيها إلاّ ذلِك المكان المقرف (القابون) حيث السجن العسكريّ، حيثُ نهاياتِ الضمير البشري، حيثُ لا أمن لأحدٍ مِن أحَد، وحيْثُ لا يأمَنُ مواطِنٌ آمِنٌ خطأَ موظفٍ حكوميّ.. أو مزاجَ ضابطٍ عسكريّ.. بدَت ليَ الأشياء بشعةً وكريهة، وبدا ليَ اللهُ (عفوه) بعيداً وساخطاً.. وظهَرَت ليَ السَّماءُ نافرةً وسوداء، ولَم أكُن قادراً إلا على الموتِ..
بهدوء، نزلتُ معَ رفاقي في السلسلة من مجرمين ومخالفين للقانون وعتاة وقتلة، ودخلنا ذلِكَ المكان، سلَّمنا أماناتِنا، وطلبوا منا أن نديرَ وجوهنا إلى الحائط، كنتُ مضطراً إلى رفع رأسي عندَ كل موقف إذلال وخنوع، لَم يكُن باستطاعتي أن أتحمَّل فِكرةَ أن أطأطئ رأسي في مثل هكذا موقف بالذات، وإن كانَ من يذلني هوَ ابن بلدي بالذات!!
تجردنا من ملابسنا مرة أخرى، وتمَّ تفتيشي معَ الآخرين بدقةٍ مُدهِشة، وساقونا إلى غرفة قالوا عنها (موجوداً).. حُشِرتُ هناكَ معَ ما يزيد على الأربعينَ شخصاً، وسط روائحِ القاذورات والأوساخ والفضلات، في مكانٍ تعرّشت الرطوبة فيه ونمت فيه العفونة بشكل مضطرد، مليء بالمجرمين، قتلة، لصوص، مهربين، مغتصبين، و فارّين من الخدمة.. رغمَ أن المكان أكثر قتامة ووحشة من سابقيه، ورغمَ أن حجم القذارة هنا مضاعف ومخيف، ويصعبُ عليَّ تصوّر قدرتي على النوم هنا (وهذا ما حصل لاحقاً)..، إلاّ أنني أنستُ للمرة الأولى بوجود مهندس آخر تم سَوقهُ إلى المكان يكبرني بحوالي 4 سنوات، ثم انضمَّ إلينا لاحقاً طبيب، وكانَ ثمةُ مَن يحملون شهادة معهد، وآخرون يحملون البكالوريا، حتى بلغَ عدد المتخلفين في هذه الحجرة حوالي العشرون.
وعندما جاءَ الليل، كانَ كل شيء قاتما بدأ الصوتُ يهدأ وبدأ الجميع ينامون تدريجيا، قمتُ بالتخلي عن مكان نومي احتراماً للطبيب الذي يكبرني بحوالي 7 سنوات، ولَم أجد لي مكاناً في المنتصف، وسط الأقدام، ومرّة أخرى، فشلت في النوم.


(3)
بدأ صداعٌ مزعجٌ في رأسي، قمتُ وسلّيت نفسي بالدندنة قليلاً (يما مويل الهوا يما مويليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)…، (ياظلام السجن خيم، نحن لا نخشى الظلاما، ليسَ بعدَ الليلِ إلا فجر مجدٍ يتسامى)..، ثم عدتُ إلى الأولى.. ( يما مويل الهوا.. يما مويليا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)…، ( يا رنين القيدِ زدني… نغمةً تُشجي فؤادي..، إنَّ في صوتَكَ معنى للأسى والاضطهاد)… ومرة أخرى عدتُ إلى الأولى ( يما مويل الهوا..، يما مويليا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا)… إلى أن تشنج جسدي كله وبدأت أضطرب، ارتفعَ صوتي قليلاً، خشيتُ مِن البكاء فصمتُ.
لوحدي، وأوجاعُ رأسي القاتِمة، تمددتُ على الأرض، ممسكاً بأيِّ شيءٍ يساعدني على تجاوزِ آلامِ الرأس.. فُتحَ باب السجن، خشيتُ أن يكون ثمة عسكري سمعني وأتى ليعاقبني، لكن هذا لَم يحدث، تم إدخَالَ شابين إلى المكان، توقفا قليلاً وأمعنا النظرَ بدهشة إلى هذه الأكوام المتراكمة فوق بعضِها، ثم حشر كل منهما نفسهُ في أي شيءٍ،.. أحدهما غطّ من فوره في سباتٍ عميق، والآخر أخذ يبكي بحرقةٍ جعَلَتني أرثي لحالي قبلَ حالِه، قمتُ مِن مكاني واقتربتُ مِنه، حاولتُ أن أواسيه، فشكا لي من رائحةِ المكان القذرة، قلت له لا بأس ستعتادها عمَّا قليل، حاول أن تنم الآن، سألني عَن عملي، أخبرتهُ أنني مهندس، قالَ لي كيف تواسي نفسك، صمتُّ قليلاً..، وقلتُ له أن كل ما علينا فعلهُ الآن أن ننتظرَ الأفضل، نم الآن ونتحدث غداً.
تركتهُ بسلام، حاولتُ النوم مجدداً إلاّ أن آلام الرأس كانت أقوى من كل شيء، بقيتُ على حالي حتى الفجر تقريباً.. حوالي الرابعة فجراً فتحوا الباب وأدخلوا الفطور، القليل منه للكثير من الأفواه الجائعة، كنتُ مرهقاً بشدّة اقتربتُ من الطبيب وشكيتُ لهُ حالي وسألته إن كان يستطيع إيجادَ أي حلٍّ لي، طلَبَ مني أن أستدير ثمَّ قامَ بعمل (مساج لرأسي) ارتحتُ كثيراً.. ونمتُ للمرة الأولى منذ وصولي إلى هذه المزبلة.. ساعاتان تقريباً قبل طلوعِ صباحٍ لا يُعرف له شكل في مكانٍ مغلقٍ عن كل شيء إلا عن روائح القاذوراتِ والفضلات.
* * *

مـــــداد
13/05/2009, 19:33
اليوم الخامس

يوم جمعة، يوم آخرَ داخل هذا المكان، مسجونين مخنوقين، لأنه يوم عطلة كان يفترض أن نذهب إلى شعبة التجنيد ليتم تصويرنا، وشعبة التجنيد مغلقة لأنه يوم جمعة، كانَ يوماً بارداً وثقيلاً يسيرُ ببطئ على جدران هذا السجن الشاحب.
كان ثمة شخص يدّعي أنه قاتل محكوم بالسجن لفترة 9 سنوات، انتهت مدة محكوميته ويستعد لاستعادة حريته، بدا لي أقل بكثير من مجرم، لم أحاول فهم تفاصيل جرمه، ولكنه بدا قادراً على مواساتي، مِن خلالِ هدوئِهِ وتعاطفه، وقد أثَّرَ بي كثيراً مظهرُ الشاب الذي دخلَ السجن أمس وبدأ يبكي، فهمت لاحقاً أنه موظف في إحدى شركات الاتصال يبلغ من العمر حوالي 33 سنة، وهوَ متخلّف عن الخدمة الإلزامية قادوه قبل ليلة إلى هذا المكان، بدا منهاراً وعاجزاً تماماً، لَم أستطِعْ منعَ نفسِي مِن الوقوفِ بجانبهِ مرة أخرى.
كانت تجربةً مريرة أن أتناسى حجم الاختناق الذي أعيشه لأواسي ذلكَ الآخر الغارق في سوداوية معتمة، تذكرتُ حالة الانهيار الأولى التي أصابتني في اليوم الأول، وماهية الشعور البغيض عندما تم وضع القيد في يدي، والطريقة التي تم اقتيادي بها من مكان إلى آخر وصولاً إلى هنا، تذكرتُ حالي وصرتُ أرثي لِنفسي.
قضيتُ هذا اليوم متنقلاً بيْن الشبان الصغار المتواجدين معنا، كل منهم يحاورني ويقصُّ عليَّ قصته، بدوا لي جميعاً ضحية واقعٍ هش نعيشه عموماً في هذا المجتمع البغيض والوقح، تفاجأتُ حين أخرجَ أحدهم قصيدة من جيبه وطلَب مني أن أقرأها.. كانَ شاباً صغيراً في حوالي العشرين، وهو لم يتجاوز في دراسته الصف السادس، ولكن كلماته رقيقة وعذبة، جعَلَتني أشعرُ بفرحة غامرة لأجله، رغمَ أني نسيت أن أسأله عن سبب تواجده هنا في هذا المكان، إلاّ أنني فرحت ولو للحظات قليلة بالحديث معه.
تفاجأتُ أيضاً حينَ تحدثتُ معَ أحدِ الموقوفين الصِّغار في السِّن، قال لي أنه ذهب من فترة إلى شعبة التجنيد وأخبروه أن يراجعهم مع بداية الشهر الرابع، ولَم يكن ينوي التخلف أبداً عن بداية الشهر الرابع ومثله كثيرين.. إلاّ أنهم فوجئوا بما حدث..
لم أفهم والله.. ما الفائدة من كل هذا..؟!! ما الفائدة؟!!! وإلى أين سنصل..
روحي مشبعة بالسواد.. أغلقت الأبواب كلها أمامي، لَم أكن محقاً حين آمنتُ يوماً بفرجةِ النور تلك، شاءتِ الأقدار أن أعيشَ هذه التجربة، ربما حتى أحرّر نفسي مِن وهم ما هوَ أجمل.. لتنجلي أمامَ عيناي حقائِق تبدو سوداء قاتِمة.
مرَّ الوقت ببطءٍ شديد هذا اليوم، ومرة أخرى عجزتُ عن النوم، كنتُ أحسِّ بالمرض مثل شبحٍ يرافقني أنى اتجهْت، وكنتُ قلقاً بشدّة وأوجاعُ رأسي متفاقمة، ولَم أحصَل إلاّ على قليلٍ جداً مِن الهدوء قبل الفجر بقليل.
* * *