yass
11/03/2009, 02:08
"حين فرغت من رواية عبد الرحمن منيف الجديدة, أحسست حلقي جافّاً, و غمرني شعور ذاهل بالعار. كيف نعيش حياتنا اليومية, و نساكن هذا الرعب الذي يتربّص بنا هنا.. والآن؟ أي صملاخ بليد يحجب عن أسماعنا الصراخ و الأنين, كي نواصل نومنا كل ليلة! أية ذاكرة مثقوبة تلك التي تتيح لنا أن نتناسى الآلاف الذين يهترئون في السجون هنا... و الآن! هذا عار يكاد يلامس التواطؤ. من خوفنا, و غفلتنا, و صمتنا يغزل الجلاد سياطه. و من خوفنا, و غفلتنا, و صمتنا تغصّ بنا السجون, تغدو الحياة هنا و الآن كابوساً من الجنون و الرعب".
هذه السطور هي جزء مما كنبه المسرحي السوري الراحل سعد الله ونّوس عن رواية الراحل عبد الرحمن منيف (الآن... هنا أو شرق المتوسط مرّة أخرى) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر عام 1991.
أنهيت قراءة الرواية مساء أمس بعد أن استمتعت بها على مدى أيام عديدة, أمتعتني لدرجة أنني عندما انتبهت أنه لم يتبقّ إلا مئة صفحة صرت أقرأ ببطء لأنني لم أكن أريد أن تنتهي. لن أقول أنها أفضل رواية قرأتُها على الإطلاق لأنني عاجز على أن أحدد رواية واحدة, و لكنني لو أجبرت على اختيار أفضل خمس روايات فبدون شك ستكون "الآن.. هنا" ضمن هذه الروايات الخمس.
"الآن.. هنا" نسجٌ روائي ماهر, بأسلوب عبد الرحمن منيف الذي جعله من كبار كتّاب النصف الثاني من القرن العشرين, تدور أحداثها في زمان غير محدّد و أمكنة وهمية بما يخص الأحداث داخل الدول العربية, وهي إبحار في محيطٍ هادئ بإنسانيته, هائج بمشاعره, على متن سفينة فكر الحريّة المقيّد داخل القمع بأنواعه, داخل السجون بأنواعها, و أيضاً داخل الإنسان بأنواعه.
يصوّر عبد الرحمن منيف السجن و ويلاته, و العلاقة ما بين السجين و السجن, السجين و السجّان, السجين و السجين, و السجين و نفسه, و يخيط من هذه العلاقات علماً يرفرف راية للدعوة لحرّية الفكر و العقيدة و ضد القمع و الاستبداد المهيمن في واقعنا العربي المرير.
طريقة سرد الكاتب لعذاب السجن و وحشية الجلاّدين تقشعرّ لها الأبدان, و يحقق بذلك ما كان يبحث عنه صراحةً كما قال على لسان بطل الرواية, فهو يدعونا لأن نفكّر في الجنون الذي يمكن أن يجعل الإنسان قاسياً وحشياً بهذا الشكل مع أخيه الإنسان لمجرد اختلاف الفكر, أو بالأحرى, الخوف من اختلاف الفكر, يجعل القلوب ترتجف من رهبة تفاصيل التعذيب و التنكيل و لكنه لا يعطي في أي لحظة أي إشارة إلى كراهية من يعذّب و من يضرب و من ينكّل, بل العكس تماماً, و ليس انعدام الكراهية هذا نابعٌ عن فرط في الطيبة و روح التسامح, بل أنه فهمٌ عميق لعقليّة السجّان و الجلاّد, فهو يراهم هم الآخرون ضحايا و مساجين, في سجون من نوع آخر طبعاً.
قبل شراء الرواية كنت قد اطّلعت على كلمة الناشر عنها حيث أشار إلى أنها "تنتمي لأدب السجون", و لفتت هذه الجملة انتباهي بشدّة, حيث أنني لم أكن أعلم بوجود ما يسمّى بـ"أدب السجون", و استهجنت هذا التصنيف حيث أنني فكّرت أنه ليس السجن مكاناً للأدب, و إن كان لا بد من الحديث عن هذا النوع فليجدوا تسمية غير هذه الجافة البشعة, و لكنني عدلت عن هذا التفكير بعد قراءة الرواية و اقتنعت بوجود أدب السجون, فالأدب هو صوت الواقع, و طالما هناك في الواقع سجون فيجب أن يكون هناك أدب سجون, و من يكره السجن و قضبانه لا يحلّ المشكلة بتجاهل وجوده, و ربما في حديث سعد الله ونّوس معنى مشابه لما أقصد.
في الحقيقة لا أحبذ كثيراً الخوض في تفاصيل كتاب قرأته أمام أناس لم يقرءوه ربما, و لكنني كنت أرغب بشدّة بالكتابة عن هذه الرواية لو كانت سطور قليلة للإشارة إلى جماليتها و عمق أفكارها و لكي تكون هذه السطور بمثابة دعوة لقراءتها, لأنها بدون شك من روائع الأدب العربي الحديث.
كنت قد ذكرت في مناسبات سابقة أنني أعتقد أنه يكفينا كتابان لفهم جزء كبير من الواقع السياسي العربي, الأول هو "مقدّمة ابن خلدون" و الثاني "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي, و الآن أعتقد أن مساحة الفهم تكبر بضمّ هذه الرواية كذلك, فالكتب الثلاث تقدّم صورة نظرية و تمثيلية لما حدث و يحدث, و ما سيحدث إن لم تتهدّم السجون, سجون الحجارة الصمّاء و قضبان الحديد و سراديب التعذيب, و لكن أيضاً, بل و حتى أهم ربما, سجننا الداخلي, هذا الذي نسجن فيه غريزة الحرية, و نقتل فيه صوت العقل, و نقف عليه حرّاساً أشدّاء, و نكون بذلك أول جلاّدي المستبد و زبانيته.
Yass
هذه السطور هي جزء مما كنبه المسرحي السوري الراحل سعد الله ونّوس عن رواية الراحل عبد الرحمن منيف (الآن... هنا أو شرق المتوسط مرّة أخرى) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر عام 1991.
أنهيت قراءة الرواية مساء أمس بعد أن استمتعت بها على مدى أيام عديدة, أمتعتني لدرجة أنني عندما انتبهت أنه لم يتبقّ إلا مئة صفحة صرت أقرأ ببطء لأنني لم أكن أريد أن تنتهي. لن أقول أنها أفضل رواية قرأتُها على الإطلاق لأنني عاجز على أن أحدد رواية واحدة, و لكنني لو أجبرت على اختيار أفضل خمس روايات فبدون شك ستكون "الآن.. هنا" ضمن هذه الروايات الخمس.
"الآن.. هنا" نسجٌ روائي ماهر, بأسلوب عبد الرحمن منيف الذي جعله من كبار كتّاب النصف الثاني من القرن العشرين, تدور أحداثها في زمان غير محدّد و أمكنة وهمية بما يخص الأحداث داخل الدول العربية, وهي إبحار في محيطٍ هادئ بإنسانيته, هائج بمشاعره, على متن سفينة فكر الحريّة المقيّد داخل القمع بأنواعه, داخل السجون بأنواعها, و أيضاً داخل الإنسان بأنواعه.
يصوّر عبد الرحمن منيف السجن و ويلاته, و العلاقة ما بين السجين و السجن, السجين و السجّان, السجين و السجين, و السجين و نفسه, و يخيط من هذه العلاقات علماً يرفرف راية للدعوة لحرّية الفكر و العقيدة و ضد القمع و الاستبداد المهيمن في واقعنا العربي المرير.
طريقة سرد الكاتب لعذاب السجن و وحشية الجلاّدين تقشعرّ لها الأبدان, و يحقق بذلك ما كان يبحث عنه صراحةً كما قال على لسان بطل الرواية, فهو يدعونا لأن نفكّر في الجنون الذي يمكن أن يجعل الإنسان قاسياً وحشياً بهذا الشكل مع أخيه الإنسان لمجرد اختلاف الفكر, أو بالأحرى, الخوف من اختلاف الفكر, يجعل القلوب ترتجف من رهبة تفاصيل التعذيب و التنكيل و لكنه لا يعطي في أي لحظة أي إشارة إلى كراهية من يعذّب و من يضرب و من ينكّل, بل العكس تماماً, و ليس انعدام الكراهية هذا نابعٌ عن فرط في الطيبة و روح التسامح, بل أنه فهمٌ عميق لعقليّة السجّان و الجلاّد, فهو يراهم هم الآخرون ضحايا و مساجين, في سجون من نوع آخر طبعاً.
قبل شراء الرواية كنت قد اطّلعت على كلمة الناشر عنها حيث أشار إلى أنها "تنتمي لأدب السجون", و لفتت هذه الجملة انتباهي بشدّة, حيث أنني لم أكن أعلم بوجود ما يسمّى بـ"أدب السجون", و استهجنت هذا التصنيف حيث أنني فكّرت أنه ليس السجن مكاناً للأدب, و إن كان لا بد من الحديث عن هذا النوع فليجدوا تسمية غير هذه الجافة البشعة, و لكنني عدلت عن هذا التفكير بعد قراءة الرواية و اقتنعت بوجود أدب السجون, فالأدب هو صوت الواقع, و طالما هناك في الواقع سجون فيجب أن يكون هناك أدب سجون, و من يكره السجن و قضبانه لا يحلّ المشكلة بتجاهل وجوده, و ربما في حديث سعد الله ونّوس معنى مشابه لما أقصد.
في الحقيقة لا أحبذ كثيراً الخوض في تفاصيل كتاب قرأته أمام أناس لم يقرءوه ربما, و لكنني كنت أرغب بشدّة بالكتابة عن هذه الرواية لو كانت سطور قليلة للإشارة إلى جماليتها و عمق أفكارها و لكي تكون هذه السطور بمثابة دعوة لقراءتها, لأنها بدون شك من روائع الأدب العربي الحديث.
كنت قد ذكرت في مناسبات سابقة أنني أعتقد أنه يكفينا كتابان لفهم جزء كبير من الواقع السياسي العربي, الأول هو "مقدّمة ابن خلدون" و الثاني "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي, و الآن أعتقد أن مساحة الفهم تكبر بضمّ هذه الرواية كذلك, فالكتب الثلاث تقدّم صورة نظرية و تمثيلية لما حدث و يحدث, و ما سيحدث إن لم تتهدّم السجون, سجون الحجارة الصمّاء و قضبان الحديد و سراديب التعذيب, و لكن أيضاً, بل و حتى أهم ربما, سجننا الداخلي, هذا الذي نسجن فيه غريزة الحرية, و نقتل فيه صوت العقل, و نقف عليه حرّاساً أشدّاء, و نكون بذلك أول جلاّدي المستبد و زبانيته.
Yass