-
دخول

عرض كامل الموضوع : في نقض التحليل النفسي في فلسفة دولوز وفيلكس غاتاري


اسبيرانزا
02/03/2009, 20:43
يعتقد دولوز وغاتاري أن التحليل النفسي « يكسر كل إنتاجات الرغبة »7. يبدو أن هذا الانتقاد غريب، خصوصًا إذا علمنا أن الأساس الذي يقوم عليه التحليل النفسي، كما رأينا، هو الرغبة. فالشخص الذي يقبل التحليل النفسي يهدف بالأساس إلى تحرير رغبته، إلى إزالة العوائق الشعورية، وبالخصوص العوائق اللاشعورية التي تكبت الرغبة وتمنعها من التعبير عن ذاتها.
غير أن الأمر، في الواقع، لا يعدو أن يكون، حسب دولوز وغاتاري، مجرد قناعٍ من أجل كسر الرغبة بكل تجلياتها، قناعٍ يُوهِمُ الشخص المريض بأنه سيحقق النصر على عوائقه من أجل تحقيق الإنتاجات المأمولة للرغبة. تتعلق إنتاجات الرغبة التي يتحدث عنها التحليل النفسي دائمًا بأفعال موسومة بالنقص والسلب، بالخصي، بفلتات اللسان، بالنسيان، بتوافقات مفتعلة لتورية هذه الرغبة أو تلك. « إن ما يسميه التحليل النفسي إنتاج اللاشعور أو تشكله هو مُحْبطَات أو صراعات أو تراضياتٌ أو تلاعبات بالألفاظ »8. وعندما تنجح هذه الرغبة أو تلك، فإن المحلِّل النفسي، لا يتناولها في وجودها الفعلي، بل يعتبرها عبارة عن تسامٍ. إنه يتحدث عن كل هذا، ما عدا الحديث عن الرغبة. فكأن الرغبة، من وجهة نظر التحليل النفسي، محصورة بين توجهين : إما أنها موسومة بالنقص والعيب والسلب، وإما أنها متسامية، أي أنه يتم تجاوزها نحو شيء آخر. لنتناول مثالاً من بين الأمثلة الكثيرة التي يتحدث عنها التحليل النفسي. عندما تناول فرويد مسألة « مص الأعضاء الجنسية للذكر »، التي هي رغبة جنسية محضة، فإنه يعتبرها إحالة على حَلَمَةِ البقرة. يتعلق الأمر، لا بالرغبة في عضو جنسي، الذي هو القضيب، وإنما بحَلَمَةِ بقرة. لكن هذه الحَلَمَة ذاتها تحيل، حسب فرويد، على شيء آخر، شيء يبدو هو السابق سبقًا وجوديا، حتى وإن كان هذا السبق مقنعًا ومتواريًا تحت غطاءات كثيفة. يتعلق الأمر في نهاية التحليل لا بالعضو الجنسي، القضيب، ولا بحلمة البقرة، وإنما بحلمة الأم، أي بالثدي الأمومي. « إنها طريقة لتِبيان كون مص الأعضاء الجنسية للذكر ليس رغبة "حقيقية" »9. هكذا يتم اختزال رغبة حقيقية، وهي في هذه الحالة رغبة جنسية، في رغبة خفية تعود إلى الأم، إلى العائلة، وإلى مرحلة الصبى. فعوض أن تتم معالجة هذه الرغبة بما هي رغبة، أي عوض اعتبارها مجرد رغبة جنسية يُعبِّر عنها الشخص الذي يتلقى التحليل النفسي، يتم اختزالها وكسرها، وفي النهاية يتم إلغاؤها. ما المنطق الذي يتَّبعه التحليل النفسي ؟ وبعبارة أخرى، إن نحن انطلقنا من المثال السابق، ما طريقة عمل المحلِّل النفسي ؟ كيف يمكن فهم منهاجه وطريقته في فهم الرغبات وتفكيك تشابكاتها ؟.
يبدو أن التحليل النفسي لا يتناول الرغبة من حيث هي حدث في زمان ومكان معين ومحدد، أي لا يتناولها من حيث تموقعها في زمن حاضر وتجذرها فيه، من أجل إنجاز اقترانات مستقبلية، وإنما يعتبرها حدثًا يحيل على الماضي، يجد أصله في الماضي. يعني ذلك أن التحليل النفسي في ممارساته يعتمد تصورًا معينًا للزمن. لا يعني الحاضر ولا يعني المستقبل أي شيء خارج إحالتهما على الماضي. فالرغبة الحالية لا تحيل على الزمن الحاضر، ولا على الزمن الآتي، وإنما على زمن ماض. يتعلق الأمر، كما يقول غاتاري، « بأسطورة الإحالة. فكي يعيش المرء حياته - سواء تعلق الأمر بجنونه، بِعُصَابِهِ، برغباته، بسوْداويتِه أو بحياته اليومية "العادية"-، يضطر إلى الإحالة على عدد من الأساطير العمومية أو الخصوصية »10. والإحالة، في مجال التحليل النفسي، هي دائمًا على الأوديب، أو الخصي، أو النقص، إلخ. والواقع أن أسطورة الإحالة، كما يقول غاتاري، تسكن الإنسان منذ البداية. كانت أسطورة الإحالة، في ما يسمى بالمجتمعات البدائية، تكتسي قيمة مجتمعية طبيعية بالنظر إلى التركيبة التي تقوم عليها تلك المجتمعات. كان الهدف من الإحالة هو تركيب « نسق من الإحالة الأخلاقية، والدينية، والجنسية، إلخ. وفق نمط أقل دغمائية من الإحالة التي نمارسها نحن [أي في المجتمعات الغربية] »11. فطرق العلاج النفسي التي تمارسها هذه المجتمعات تتخذ مسالك من الإحالة تكتسي طبيعة معينة. فالشخص الذي يمارس العلاج النفسي، أي العراف، يعمل على « تحديد الروح التي تسكن المريض، ويحاول تحديد المجموعة الثقافية والاجتماعية والأسطورية والعاطفية التي أصابها الاضطراب. وإذا لم تتمكن طريقة طقوسية من النجاح في إيجاد العلاج، يتم التوجه نحو اتجاه آخر، دون الادعاء أن هناك "مقاومة". يعمل هؤلاء على استكشاف الذاتية ببعد براغماتي واضح بالاعتماد على سَنَنٍ يشترك فيه مجموع الجسد الاجتماعي الذي تكون له نتائج قابلة "للقياس"»12. لا ينفصل التحليل النفسي عن هذا النمط القائم على أسطورة الإحالة، لكن هذه الأخيرة تتحدد هذه المرة في مفاهيم مُختَزَلة في العائلة مثل أوديب والخصي، إلخ. هذه النـزعة الماضوية القائمة على أسطورة الإحالة تسكن التحليل النفسي وهو لا ينفصل عنها في كل تحليلاته.
ومن جهة أخرى، فمادام التحليل النفسي لا ينفصل عن هذا التصور الماضوي، فمن الطبيعي أن تكون عمدته في العمل والممارسة هي التأويل. فالرغبة ليست رغبة إلا لأنها « تعني شيئًا آخر، وتُخفِي شيئًا آخر »13. يقيم التحليل إذن ثنائية. فهناك الظاهر من جهة، والباطن من جهة أخرى. فالظاهر هو « الرغبة في مص الأعضاء الجنسية »، والباطن هو الرغبة في « ثدي الأم ». وهذه الثنائية ليست متوازية، وإنما هي ثنائية مُتراتِبة، أي لا يكتسي الظاهر القيمة التي للباطن. وكما هو الأمر في التقليد التأويلي الذي ساد ومازال يسود عند رجال الدين، ليس هناك مكان المعنى هو الظاهر، وإنما مكانه ومحله هو الباطن ؛ ليس هو الشاهد، وإنما هو الغائب. فعوض أن يقف التحليل النفسي عند الحدث، عند الظاهر، أي عند الرغبة كما هي، فإنه يحيلها على شيء آخر، شيء يكون هو باطنها، أي هو معناها الحقيقي. يقول دولوز : « ينبغي دائمًا أن يُذَكِّر شيء ما بشيء آخر، أي أن تكون هناك دائمًا استعارة أو كناية. لقد أصبح التحليل النفسي شيشرونيًا أكثر فأكثر، ولقد كان فرويد دائمًا رومانيًا »14. هكذا عمل التحليل النفسي على امتلاك شبكة مُحكمة من أجل التمييز بين الرغبات الحقيقية والرغبات المفتلعة، أي بين الحقيقة والوهم. فالمحتويات الحقيقية للرغبات هي الغرائز الجزئية أو الموضوعات الجزئية ». وتجد هذه الرغبات الحقيقية تجسيدها في مفهوم واحد يعبر عنها هو « أوديب، أو الخصي، أو الموت، أي هيئة من أجل إعطاء بنية للكل »15، أي لكل المحتويات الحقيقية للرغبات، حسب التحليل النفسي. فبمجرد ما تظهر رغبة عند الشخص المُحلَّلِ، يعمل المُحَلِّلُ على اختزالها في ما يسمى برغبة فعلية وحقيقية، وهي غريزية طفولية تعود بالأساس إلى الأسرة وإلى مرحلة الطفولة. لنقدم مثالا آخر يسوقه دولوز على ذلك، وهو مثال تم تحليله ضمن عمل قامت به مجموعة بحث، أسسها كل من جيل دولوز وفيليكس غاتاري وأندري سكالا وكلير بارني، لإعادة دراسة الكيفية التي حلل بها فرويد الحالات المَرَضِيَّة التي عُرِضت عليه، وهي حالة الطفل هانس16. والواقع أن اختيار دولوز ومجموعته حالة هانس يكتسي في نظرهم دلالة قوية. إذ يرى دولوز ومجموعته أن التحليل النفسي الذي عادةً ما يمَارَسُ على الأطفال يُبرِز بشكل بَيِّنٍ وواضح الطريقة التحليلية في كسر الرغبة، وفي اختزالها في الماضي وفي الوسط الأسري، أي يبرز أكثر من أية حالة أخرى أسطورة الإحالة التي أشار إليها غاتاري.
يريد الطفل هانس أن يخرج من منـزله كي يلتحق، في العمارة، برفيقته الطفلة مارْيِيدَل من أجل ممارسة الجنس معها. هذا كل ما في الأمر. كيف تعامل التحليل النفسي مع هذا الحدث ؟ وبالضبط، كيف تعامل فرويد مع حالة الطفل هانس ؟ يبدو أن فرويد لا يريد أن يؤمن بأن الطفل هانس يرغب في الطفلة رغبة حقيقيةً وفعليةً، أي أنه يرغب في ممارسة الجنس معها. « على هذه الرغبة - رغبة هانس في ممارسة الجنس مع الطفلة - أن تُخفِيَ شيئًا آخر »17. لا تكتسي هذه الرغبة قيمة ومعنى في ذاتها إلا لأنها تحيل على أمر آخر، وهذا الأمر الآخر محله هو الأسرة. على الرغبة أن تمثل الأسرة. « فعلى الرغبة في مارْيِيدَل أن تكون رغبة تحول لرغبة في الأم التي يفترض أنها سابقة »، أي سابقة على الرغبة في الطفلة. « فالرغبة في مارْيِيدَل ينبغي أن تكون رغبة في أن تصبح مارْيِيدَل عضوًا في الأسرة. فوراء هذا التمني، وهو "أريد أن أمارس الجنس مع مارْيِيدَل"، يوجد بكل تأكيد تمنٍّ آخر، وهو : "أريد أن تصبح مارْيِيدَل طرفًا من أسرتنا" »18.
هكذا نرى أن الرغبة التي يعبر عنها الطفل هانس، وهي رغبة الخروج من المنـزل العائلي والالتقاء، بل الاقتران بإنسان آخر، إنسان هو أيضًا خارج الحقل العائلي، إنما هي رغبة مفتعلة، رغبة غير حقيقية. فهي ليست رغبة إلا لكونها تدل على رغبة أخرى، وهي الرغبة الحقيقية، أي الرغبة في الأسرة، وهي في نهاية المطاف رغبة في الأم. تلك هي الطريقة التي مارس بها فرويد التحليل النفسي، وهي طريقة تؤسس منهج التحليل النفسي ذاته.

اسبيرانزا
02/03/2009, 20:45
ما الطريقة التي يقترحها كل من دولوز وغاتاري لفهم الرغبة، وهي عمدة المجال الذي أسساه وهو التحليل الفصامي المقابل للتحليل النفسي ؟ يجب، أولاً، رفض التصور السلبي الذي يُسْبِغه التحليل النفسي على الرغبة. ليست الرغبة سلبًا ونقصًا، وإنما هي قوة. والواقع أن دولوز وغاتاري يحاولان نقض التصور القائم على السلب والنقص. فلا وجود إلا للإثبات ؛ وكل رغبة إثبات. ونحن نعرف البعد الذي أعطاه دولوز لفلسفة الإثبات في مجموع فلسفته. وبالفعل، بذل دولوز جهدًا فلسفيًا جبارًا، سواء في كتاب الاختلاف والتكرار19 أو في منطق المعنى20، لنقض التصور الجدلي القائم على السلب، واستبداله بتصور قائم على الإثبات. كما حاول في كتاب سبينوزا وإشكالية التعبير21، إبعاد كل تصور جدلي عن الفلسفة السبينوزية. فالصفات اللامتناهية التي تؤسس الجوهر هي في علاقة اختلاف دون أن تكون في علاقة سلب. فالعلاقة القائمة على السلب هي تلك التي تكون بين أطراف بحيث يكون حضور طرف نافيًا وسالبًا للطرف الآخر. أمَّا العلاقة القائمة على الاختلاف، فيكون حضور طرف منها متزامنًا مع حضور الأطراف الأخرى المختلفة. « يبدو أن التمييز الواقعي [بين صفات الجوهر، أي صفات الله] يبشر بتصور جديد للسلب، دون تقابل ولا نقص، ولكنه يبشر أيضًا بتصور جديد للإثبات، دون تسام ودون تناسب »22.
هذا التوجه الفلسفي الذي عبر عنه دولوز في كل كتاباته التي تندرج في ما يعرف بتاريخ الفلسفة، استثمره، هنا، ضد التحليل النفسي. وبالفعل، لم يكن من الممكن، وهو المدافع على التصور الإثباتي في كل كتابته، والحامل على التصور الجدلي الهيغيلي أينما صادفه، أن يغض الطرف عن التصور السلبي الذي يقدمه التحليل النفسي عن الرغبة. لذلك عمل مع غاتاري على نسف تصور التحليل النفسي، وقاما سويّةً ببناء تصور جديد للرغبة، تصور قائم على الإثبات. يقول غاتاري : « إن اللاشعور ليس من طبيعة جدلية، ولا علاقة له مع السلب وسلب السلب. اللاشعور كله إيجاب، إنه منطق السيولات والتكثيفات التي لا تكون محددة، ولا تكون مراقبة من طرف التمثل »23. والواقع أن دولوز وغاتاري ينطلقان من الفلسفات التي أعطت الرغبة قيمة إثباتية، مثل الفلسفة الأبيقورية وبالخصوص الفلسفة السبينوزية والنيتشوية. لنتناول على سبيل المثال، الفلسفة السبينوزية. يعتبر سبينوزا الرغبة كمالاً. يقول سبينوزا في تعريفات العواطف : « إن الرغْبَةَ هِيَ مَاهِيَةُ الإنسَانِ عَيْنُها، مِن حَيثُ تَصَوُّرُهَا مُجبَرَةً، بِمُقتَضَى انفِعَالٍ مِن انفعالاَتِهَا الذَّاتِيَّةِ، عَلَى فِعلِ شَيءٍ ما »24، أي أن الرغبة، مهما كانت هذه الرغبة، حتى وإن كانت غيرة وحقدًا، تعبر عن ماهية الإنسان في زمان ومكان مُعَيَّنَيْنِ. لذلك لا يمكن للرغبة إلا أن تكون إثباتية وإيجابية. فمادامت « الرَّغْبَةَ هِيَ طَبِيعَةُ كُلِّ فَرْدٍ أَو هِيَ مَاهِيَتُهُ نفسُهُ »25، فلا يمكنها أن تكون سلبًا أو نقصًا. إنها كمال محض، حتى وإن كانت تُعَبِّر عن ذاتها بانفعال « قبيح » مثل الغيرة أو الحسد، لأن كل ما ترغب فيه الرغبة من فعل أو انفعال، هو كمال يعبر عن ذاتها ؛ لأنها تكون، من حيث هي ماهية الإنسان الفعلية، « مُجبَرَةً عَلى القِيَامِ بِما يصلُحُ لِحِفْظِهَا »26. فأفعال الإنسان من رغبات كلها كمال، حتى وإن كانت رغبة حقد أو غيرة، أو غيرهما، لأنها تصلح لحفظ ماهيته، لضمان استمرارها في الوجود.
عمل كل من دولوز وغاتاري على استثمار هذا التصور وإعطائه دلالاته القوية من أجل تفعيله لهدم أركان كل تصور يضفي طابع السلبية والنقص على الرغبة. فالرغبة مهما كانت، حتى الرغبة الأوديبية، هي رغبة بريئة، حتى وإن أدت إلى عواقب غير محمودة. ولعل هدف دولوز وغاتاري هو تحرير الرغبة، أي رغبة كانت، من كل شعور بالذنب ومن كل ندم وحسرة. الرغبة كمال مهما كانت طبيعتها. لذلك يقرنان الرغبة بقوة ديونيسوس التي يتحدث عنها نيتشه، أي ينبغي أن تصبح الرغبة رغبةً حرة طليقة، رغبة خفيفة، مادامت متحررة من كل ثقل أخلاقي يَسِمُها بالذنب.
وإذا كان كل من دولوز وغاتاري عمدا إلى تاريخ الفلسفة بحثًا عن بديل لتصور التحليل النفسي عن الرغبة، فإنهما عمدا أيضًا إلى الأدب للتنقيب عن التوجه الذي يجسد هذا الطموح بغية الظفر بتصور ثوري للرغبة، مؤكدين على ذلك التوجه الأصيل الذي ساد عند أغلب فلاسفة القرن العشرين، وهو التوجه الرابط بين الفلسفة والأدب، والذي يعتبرهما مجالين متلاحقين متكاملين. غير أن دولوز وغاتاري لم يختارا الأدب الفرنسي مجالاً للتنقيب عن تصور ثوري للرغبة. فنحن نعرف الموقف الذي صنفا فيه الأدب الفرنسي عمومًا. إنه أدب لم يستطع التخلص من هيمنة الآنا، كما يقول دولوز في كتاب حوارات : « فهناك السفر على الطريقة الفرنسية التي يطغى عليها الطابع التاريخي والثقافي والتنظيمي، حيث نكتفي بِحَمْل "أناتنا" »27. وفي مقابل ذلك يَعتبر كل من دولوز وغاتاري الأدب الإنجليزي-الأمريكي أسمى في تعامله مع الرغبة. ولعل الكاتب الأمريكي هنري ميلر خير مثال على التوجه غير المسبوق في التعامل مع الرغبة بعيدًا عن كل شعور بالذنب، وعن كل تأنيب. وبالفعل تعتبر أعمال هنري ميلر الأدبية توجهًا ثوريًا مضادًا لكل التصورات الأوديبية للرغبة. إنه يعتبر الرغبة في براءتها وعذريتها، أي ينظر فيها من حيث هي رغبة فقط، ويعيشها كما هي رغبة. ولا وجود لنص مفعم بالقوة وبالحياة والفرح أفضل من نشيد الرغبة الذي تَغَنَّى به هنري ميلر في عمله الأدبي الشهير مدار السرطان : « أُحِبُّ كل ما ينساب، حتى مجرى دم الحيض الحامل للبيض غير المخصب. أحب الكتابات التي تنساب، سواء كانت تراتبية أو باطنية أو انحرافية أو متعددة أو أحادية الشكل. أحب كل ما ينساب، كل ما يحمل في ذاته الزمان والصيرورة، كل ما يعود بنا إلى البداية حيث لا وجود أصلاً للنهاية : عنف الأنبياء، الفحشاء التي هي نشوة، حِكْمة المتعصبين، الكاهن وصلواته المتأنقة، الكلمات النابية التي تنطق بها العاهرة، اللعاب الذي ينساب في مجرى مياه الزقاق، حليب الثدي والعسل المر الذي ينساب من الرحم. أحب كل ما هو سائل، كل ما يذوب، كل ما هو موجود في الأعماق وقابل للذوبان، كل قيح وكل وسخ يتطهران بسيلانهما، كل ما يفقد معنى أصله، كل ما يقطع الدورة الكبرى نحو الموت والذوبان. إن الرغبة الكبرى لعشق المحارم هي مواصلة الانسياب، هي التوحد مع الزمن، هي صهر الصورة الكبرى للعالم العلوي مع "هنا والآن" »28. كل شيء في هذا النشيد. الرغبة الحرة الطليقة المتحررة من كل غائية، ومن كل ذَنْبٍ ونقص. والرغبة المنسابة دائمًا لتقترن مع عوالم خارجية، عوالم غريبة تمنحها قوة وشدة.

اسبيرانزا
02/03/2009, 20:47
إذا كان رفض هذا التصور السلبي للرغبة يمثل الجانب الأول، فإن الجانب الثاني يتمثل في رفض كل نظرة اختزالية للرغبة. رأينا أن موقف التحليل النفسي مسكون بهوس إرجاع كل رغبة إلى الحقل الماضوي، وإلى الحقل العائلي، إلى الأم، وفي نهاية المطاف إلى أوديب. يعمل كل من دولوز وغاتاري على قلب هذا التصور، فعوض أن تحيل الرغبة على الماضي، أصبحت تحيل على المستقبل. يقول دولوز : « إننا نقول على العكس من ذلك إن اللاشعور لا تملكونه، ولا تملكونه أبدًا، إنه ليس بـ"قد كان" التي ينبغي بواسطتها أن تصير الأنا على ما هي عليه. ينبغي قلب الصيغة الفرويدية. اللاشعور ينبغي أن تُنتجوه. إنه لا يخص بتاتًا الذكريات المكبوتة، ولا حتى الاستيهامات. إننا لا نعيد إنتاج ذكريات الطفولة، إننا ننتِجُ بواسطة كتل من الطفولة تنتمي دائمًا إلى اللحظة الراهنة كتلاً من صيرورة الطفل »29. يعني ذلك أن الرغبة مقترنة دائمًا مع الخارج، في علاقة مع الخارج. فكل موضوع يفترض استمرار مجرى في علاقة مع أشياء خارجية، مع عوالم ممكنة، وأزمنة آتية. « الرغبة آلة، تركيب آلات، تنسيق آلي - آلات راغبة ». يعني ذلك أن اللاشعور ليس معطى، ولا يتمتع بسبق وجودي على الفرد. وإنما هو لا شعور يجب إنتاجه، يجب بناؤه. لنعد إلى الطفل هانس. فهانس لم يكن يرغب في الأم ولا في الأسرة، وإنما كان يريد الخروج من بيت الأسرة، من حقلها. « إنه يريد نزول الدرج قصد اللحاق بصديقته مارْيِيدَل وممارسة الجنس معها. إنها حركة الخروج من المنطقة التي من خلالها تسعى آلة - طفل الدخول في تنسيق جديد »30. لا يتعلق الأمر إذن بنظرة اختزالية، بل بنظرة تركيبية، بنائية. فالرغبة تأسيس وبناء وتنسيق. وهي رغبة تنسيقية، بمعنى أنها رغبة تقترن دائمًا بأشياء أخرى، بعناصر من طبيعة أخرى تشكل امتداداتها. فالطفل هانس أراد الخروج من موطن الأسرة، من موطن الأم والأب لينساب في تنسيق آلي جديد مع الشارع والطفلة مارْيِيدَل وعملية ممارسة الجنس. فعوض اختزال رغبة هانس في الماضي، في الأسرة، يتم ربطها، في تصور دولوز وغاتاري، باقترانات خارج مجال الإحالة التقليدية. لا يتعلق الأمر بإحالة، وإنما باقتران وتنسيق. « لا وجود لذات الرغبة، مثلما أنه لا وجود لموضوع الرغبة. الرغبة هي نسق العلامات التي لا دلالة لها والتي يتم بواسطتها إنتاج سيولات اللاشعور في حقل اجتماعي. لا وجود لأي بروز للرغبة لا يضع البنيات القائمة موضع سؤال، وذلك بغض النظر عن المكان الذي يحصل فيه كعائلة صغيرة أو مدرسة حي »31. تصبح الرغبة إذن في محيط مفتوح على المجال السياسي والاجتماعي. تصبح داخل علاقات الاقتران والتنسيق التي تجعل منها بعدًا أساسيًا في الخلق والإبداع. وكما يقول هنري ميلر : « من عالم الأفكار هذا الذي نتمرغ فيه، ينبغي أن يخرج عالم جديد ؟ لكن هذا العالم لا يمكنه أن يظهر إلا في حدود إمكانية تصوره. ومن أجل تصوره، ينبغي أولا الرغبة فيه... الرغبة غريزية ومقدسة، وهي وحدها التي تمكننا من تحقيق الحَبَلَ بلا دنسَ »32. لا شيء يتحقق من دون رغبة. لذلك فـ« الرغبة ثورية، لأنها تريد دائمًا مزيدًا من الاقترانات والتنسيقات »33. وخطأ التحليل النفسي هو جهل هذه الاقترانات والتنسيقات واختزال الرغبة في أسطورة الإحالة.
هذا عن الانتقاد الأول الذي ينتقد به كل من دولوز وغاتاري التحليل النفسي، وهو انتقاد قائم على نسف الأساس الذي يقوم عليه التحليل النفسي، وهو تصور معين لمفهوم الرغبة. أمَّا الانتقاد الثاني، فإنه يتعلق « بالطريقة التي يمنع بها التحليل النفسي تشكل الملفوظات »34. يبدو هذا الانتقاد أيضًا انتقادًا غريبًا، خصوصًا إذا علمنا أن فرويد عند تأسيسه لمجال التحليل النفسي حرص على تمييزه عن مجال التنويم المغناطيسي الذي كان سائدًا آنذاك. والسبب الذي دفعه إلى ذلك هو كون طرق علاج التنويم المغناطيسي طرقًا إيحائية، أي طرقًا تمنع المُعَالَج من الملفوظ والتعبير عن عواطفه ومعاناته. هذا في حين أن طرق العلاج التي يمارسها التحليل النفسي طرق محايدة، إن صح القول. « إن الطريق الذي يسلكه التحليل النفسي يتميز عن كل الطرق القائمة على الإيحاء، والإقناع، وطرق أخرى، في كونه لا يريد أن يقمع عند المريض أي ظاهرة نفسية عن طريق سلطوي. إنه يبحث عن سبل الولوج إلى أصل الظاهرة [النفسية] ونسفها من خلال تحويل دائم لشروط نشأتها »35. لا تهدف طرق العلاج في التحليل النفسي إذن إلى ممارسة أي شكل من أشكال القمع أو السلطة على المريض، بقدر ما تهدف إلى منحه فرصة التعبير عن معاناته وماضيه الذي هو في الأصل « الخزان الوحيد » لكل ما يحصل في الحاضر وفي المستقبل. إنه يهدف إلى جعل المريض، أي المُحَلَّل نفسيًّا، يعبر عن انفعالاته وصراعاته بكل حرية وتلقائية.
لكن هل يحقق التحليل النفسي ذلك فعلاً ؟ هل يمَكِّن المريض من الحديث والتلفظ حقًا ؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه كل من دولوز وغاتاري. يذهب الفيلسوفان إلى أن التحليل النفسي لا يعمل سوى على قطع الطريق أمام الملفوظات، أمام المريض للإفصاح عن تلفظاته. والسبب هو أن التحليل النفسي يختزل كل ما يقوله المريض في ذات مُتَكَلِّمة. « ففي الوقت الذي نقتنع فيه بأنه [أي المريض] ينطق بتلفظاته المُعبِّرة عن فردانيته، نسحب منه شرط التلفظ. فأن نُسْكِتَ الناس، أن نمنعهم من الكلام، وبالخصوص عندما يمارسون الكلام، هو أن نعمل كما لَوْ لم يقولوا شيئًا : ذلك هو حياد التحليل النفسي الرائع »36. لنعد إلى الحالات المرضية التي حللها كل من فرويد وميلاني كلاين. فعندما أراد الطفل هانس الالتحاق بصديقته في بهو العمارة لممارسة الجنس معها، فإن فرويد لم ير في ذلك سوى رغبة في الأم، أي أن الملفوظ الذي يعبر عنه هانس هو ملفوظ أسروي محض، ملفوظ يعود إلى الأسرة، وفي نهاية المطاف إلى ذات متميزة وهي الأم. وكذلك عندما يقول « أطفال ميلاني كلاين، "بطن ما"، "كيف يكبر الناس ؟"، فإن ميلاني كلاين تفهم "بطن أمِّي"، "هل سأكون كبيرًا مثل أبي ؟". وحينما يقولون "هتلر ما"، أو "تشرشل ما"، فإن ميلاني كلاين ترى في ذلك امتلاك الأم القبيحة أو الأب الطَّيِّبِ »37. هكذا نرى أن هؤلاء الأطفال لا يتحدثون إلا عن أسماء غير معرفة، أي عن أسماء لا تحيل على شخص معين ومحدد. فالملفوظ التالي « بطن ما » يحيل على بطن بدون تعريف، أي دون أن يحيل على ذات معينة، الأم مثلاً. مثلما أن الملفوظ التالي «كيف يكبر الناس » لا يُحيل على ذات معينة، وعلى شخص معين. وإنما هما ملفوظان يحيلان على أشياء غير معرفة، على أحداث غير معرفة، ولا يمكن اختزالها في ذات محددة ومعرفة. لكن ميلاني كلاين لا ترى إلا المُعَرَّف. ويجب أن يكون هذا المُعَرَّف هو أبي أو أمي، أي أن يكون من داخل العائلة. إننا لا ننفصل في التحليل النفسي عن أسطورة الإحالة. هذه الرؤية الاختزالية التي نقضها دولوز وغاتاري لكونها تمنع الرغبة من التحقق، ينقضانها ثانية لكونها تمنع الملفوظ من التحقق، أي تمنع من فهم وإدراك المعنى الفعلي الذي يتفوه به المريض.
إن الأمر الذي يآخذه كل من دولوز وغاتاري على التحليل النفسي هو كونه ظل رهين تصور ميتافيزيقي يجعل من الذات هي المركز، أي أن التحليل النفسي لم يستطع التخلص من الكوجيطو الديكارتي على اعتبار أنه لم ينفصل عن الذات العارفة والذات المتكلمة. فهذا الاختزال هو الذي يرفضه الفيلسوفان.
ولعل هذا المجال هو الذي حقق فيه دولوز وغاتاري أكبر إنجاز، وربما هو الذي تطلب منهما أكبر عناء لتجاوز التصور الاختزالي الموروث عن الميتافيزيقا الديكارتية. وهو المجال الذي يشتركان فيه مع أغلب الفلاسفة النيتشويين المعاصرين من أمثال موريس بلانشو وميشيل فوكو وغيرهما ممن حاولوا تأسيس تصور أصيل للملفوظات38. فعندما يتكلم المريض والمُحَلَّلُ، فإنه لا يتكلم من حيث هو ذات عارفة، وذات مستقلة عن العالم المحيط بها. وهو لا يحيل على ذات مُعَرَّفة حتى وإن كانت ذات الأم أو الأب. إنه لا يتكلم إلا من حيث هو خط مقترن بخطوط متعددة ومتنوعة. ولعل المفهوم الجديد والأصيل الذي يقدمه كل من دولوز وغاتاري هو مفهوم التنسيق. وهو في الواقع أهم إسهام لكتاب ألف سطح الذي جاء ليعوض مفهوم الآلة الراغبة، الذي كان أحد المفاهيم الأساسية لمؤلف أوديب المضاد. ما التنسيق ؟ التنسيق مفهوم أحدثه دولوز وغاتاري لدراسة مجالات عديدة، مثل دراسة المجتمعات والتشكلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية، ومجال اللسانيات كما سنرى ذلك. نحن نعرف أن التوجه الماركسي يقسم المجتمع إلى طبقات يكون الصراع هو الأساس الذي يربطها، ويكون هو الطاقة التي تحرك المجتمع. فالطبقات هي الصور والأشكال التي من خلالها يمكن فهم طبيعة مجتمع ما، مثلما أن ما يعرف بعلم الاجتماع البرجوازي لا يخرج هو ذاته عن هذا التصور. فهو يقسم المجتمع إلى مؤسسات باعتبارها صورًا متشكلة لها إطارها، مثل المدرسة والثكنة والإدارة، إلخ. على الرغم من اختلاف وتقابل هاتين الفلسفتين، الماركسية والبورجوازية، فإنهما تفترضان التصور الواحد ذاته. إذ تقومان بتقسيم للمجتمع وفق أشكال وصور قائمة الذات، أي أشكال متشكلة سلفًا. هذا في حين أن فلسفة دولوز وغاتاري لا تقول بصور متشكلة، وإنما بالتنسيق. فالمجتمع، أي مجتمع، هو عبارة عن تنسيق، بل هو عبارة عن تنسيقات.
والتنسيقات ليست صورًا ولا أشكالاً كما هو شأن الطبقات أو المؤسسات، سواء في التصور الماركسي أو التصور الذي يطلق عليه اسم التصور البرجوازي. التنسيقات من طبيعة مغايرة. إنها أشياء من دون أشكال، ومن دون صور. التنسيق يتكون من الصيرورات الدائمة ومن التحولات المستمرة التي تخترقه كل لحظة وهي تكون في حالة تحول دائم. فالتنسيقات ليست تمثلاً لشيء، وإنما هي تحول لشيء ما. يقول دولوز : « ستكون التنسيقات من حيث مضمونها مليئة بالصيرورات والتكثيفات، بالتحركات التكثيفية والتعدديات العادية (رهوط أو جموع أو أنواع أو أجناس أو شعوب أو قبائل...) »39. لا علاقة للتنسيقات إذن بصور وأشكال، وإنما بتكثيفات وتعدديات وتحركات. ليست هذه التكثيفات وهذه التعدديات صورًا وأشكالاً قائمة الذات، وإنما هي سيولات غير متشكلة، مثل الديمومة التي يتحدث عنها برغسون. إنها اختلاف محض، حسب التصور الذي جاء به كتاب الاختلاف والتكرار لجيل دولوز. هكذا نرى أننا لسنا أمام تصور تقليدي يفترض صورًا قائمة الذات، وإنما أمام تصور يرتكز على فلسفة الاختلاف ليجعل من التنسيق المفهوم الأصيل الذي يحقق هذا الاختلاف في أسمى قوته.

اسبيرانزا
02/03/2009, 20:48
وللتنسيق على الأقل جانب أفقي، وهو الذي « يتركب من قطعتين خطيتين، الأولى متعلقة بالمحتوى، والثانية متعلقة بالتعبير »40. ما من تنسيق إلا وله محتوى ومضمون يملأه ويشغله. ويسمَّى هذا الجانب في فلسفة دولوز وغاتاري، أي جانب المحتوى الذي للتنسيق، بـ« التنسيق الآلي للأجسام، للأفعال وللاِنفعالات »41. وهذا الجانب من التنسيق هو الذي ينجز التحقق الفعلي والآلي للرغبة، لأي رغبة، حتى الرغبة في الحقد والحسد، بل حتى الرغبة في ممارسة الجنس مع الأم، حتى الرغبة في تحقيق علاقة أوديبية، أو عمومًا ما يسمَّى بالرغبة في زِنَى المحارم. إننا لا نرغب إلا فوق تنسيق آلي، إلا بفضل تنسيق آلي. لا شيء يتم خارج هذا التنسيق الآلي، بل هو المجال الذي تتحقق فيه كل الرغبات، كل الأفعال والانفعالات التي تتم في مجتمع ما أو في مجال أو حقل ما. فالرغبات التي تخترقنا والتي نسعى إليها والتي نعتقد أننا نختارها ونريدها، لا يمكنها أن تتحقق إلا لأن تنسيقًا يحددها ويكون شرطًا لها. فالتنسيق هو اللاوعي السياسي الذي يجعلنا نرغب في هذا الشيء أو ذاك. وهو الذي يحددنا لهذا الفعل أو ذاك. والتنسيق هو لا وعي سياسي وتاريخي، لأنه مجال مفتوح على الخارج وعلى العالم. في حين أن التحليل النفسي يعتقد أن ما نقوم به من فعل أو من أفعال، يترتب على لا وعي يتأسس بمحبطات الطفولة وبعقدها ورغباتها المكبوتة وإسقاطاتها وغرائزها المسكوت عنها. التنسيق هو اللاشعور الفعلي لكل رغبة، مادام أنه هو المجال المليء بالتكثيفات والتعدديات. فالموضوع الوحيد للرغبة هو الرغبة ذاتها. لذلك فالرغبة لا تحيل على الأسرة، ولا على الأم ولا على أوديب، ولا على لاشعور طفولي مليء بالمحبطات والإسقاطات، وإنما هي رغبة مقترنة مع الخارج، مع المستقبل. إنها مقترنة مع القوة السوسيولوجية والتاريخية، لا مع العائلة والأنا. فالرغبة إنتاج مستمر، وهي سيولة وسط سيولات أخرى، كما أشار إلى ذلك نص هنري ميلر، ومحرك محايث للواقع يرسم خطاطة عوالم ممكنة. لذلك فالنسيقات التي تحقق الرغبة لا تحيل على أنا معين، ولا على ذات متكلمة، وإنما تحيل على تكثيفات وتعدديات.
هذا عن جانب المحتوى والمضمون الذي للتنسيق. أما من جهة التعبير، فإن كل تنسيق هو عبارة عن « تنسيق جمعي للتلفظ، للأفعال وللتلفظات، تحولات غير جسمانية تُحمَلُ على الأجسام »42. لكن ما الملفوظ ؟ وما طبيعته ؟ لعل مفهوم الملفوظ هو المفهوم الذي من خلاله عمل كل من دولوز وغاتاري على نقد التوجه اللساني السائد سواء في شكله البنيوي أو شكله الديكارتي الجديد الذي بلوره تشومسكي. فالملفوظات لا تحيل على ذات متلفظة، ولا على أنا متكلمة، وإنما تحيل على تنسيق جمعي للتلفظ. ويرى دولوز وغاتاري أن اللسانيين ظلوا رهيني التصور اللساني ولم يستطيعوا ربط الملفوظات بالمجال الذي يكون هو أصلها، وإنما اقتصروا على ربط الملفوظ بالدلالة وبالدال، أي بمعطيات لسانية محضة، أي معزولة عن واقعها السوسيولوجي والسياسي. حقيقة إن بعض اللسانيين أوْلوْا أهمية للطابع الاجتماعي للتلفظ، مؤسسين بذلك ما يعرف بالسوسيو- لسانيات، ونذكر على رأسهم ويليام لابوف، وبالخصوص في كتاب السوسيو- لسانيات، إلا أن هذا التوجه لا يمكنه أن يفيَ بمتطلبات فلسفة الاختلاف والتعدد إلا إذا اعتبر هذا الجانب السوسيولوجي جانبًا محايثًا للغة والتلفظ، وليس جانبًا خارجيًا وبرَّانيًا. « إن الخاصية السوسيولوجية للتلفظ لا تكون مؤَسَّسَةً تأسيسًا باطنيًا إلا إذا استطعنا تبيان كيف أن الملفوظ يحيل بذاته على تنسيقات جمعية. وبذلك نرى أنه لا وجود لفردانية الملفوظ، ولا لتَذَيُّت43 لتلفظ، إلا في حدود كون التنسيق اللاشخصي يتطلب ذلك ويحدده »44. فالتنسيقات الجمعية سابقة على كل تلفظ، ولكل رغبة، وهي التي تحدد كل تلفظ وكل رغبة. فالملفوظ لا يأتي إلا من تنسيق جمعي يحدده ويضع إطاره. وهذا هو السبب الذي يجعل التنسيقات تستعمل « في تعبيرها حروفًا وضمائر غير مُعرَّفة ليست بتاتًا غير محددة (بطن "ما" أناس "معينون" "يتم" ضرب طفل "ما") – أفعال في صيغة مصدرية ليست لا متميزة، ولكنها تُعلّم مجاري معينة (مثل مشي، قتل، حُب...) – وأسماء أعلام ليست أشخاصًا وإنما هي أحداث (قد يكون ذلك مجموعات أو حيوانات أو كيانات أو انفرادات أو جموعات، أي كل ما نكتبه بحرف كبير Un Hans - Devenir - Cheval - هانس - صيرورة - حصان) »45. هكذا نرى أن التنسيق الآلي الجمعي لا يحيل على ذات متكلمة، حتى وإن كانت الأم أو الأب، مثلما أنه لا يحيل على بنية فوقية أو تحتية، مادام التنسيق محايثة تقصي كل تراتب. إن التنسيقات تعددية من حيث مضمونها، وهي التي تسمح لكل تشكل أن يبرز على الحقل الاجتماعي والسياسي. فالتصور السياسي لمجتمع ما لا يكون ممكنًا إلا بفضل التنسيق الآلي والجمعي. إنه سابق لكل تشكل سياسي واجتماعي. إنه لا يكون معطى، وإنما هو أصل كل معطى. لذلك فعندما يتحدث الشخص الذي يعرض نفسه على التحليل النفسي، فمن الواجب أن نقرن ما يتلفظ به لا بالوسط الأوديبي كما يفعل التحليل النفسي، ولا بالأنا، ولا ببنية دلالية أو رمزية، وإنما علينا أن نقرنه بالتنسيق الذي أمكنه أن يتحقق، أي بالتعدديات التي يحققها وينجزها. من هذا المنظور يكون التحليل النفسي مكسرًا للتلفظ، مادام يجهل كل شيء عن التنسيق بشقيه : التنسيق الآلي الجمعي الذي « ينجز إنتاجًا ماديًا للرغبة »46، والتنسيق الجمعي للتلفظ الذي يكون « علة تعبيرية للتلفظ »47. فالطفل هانس الذي يريد الخروج من المنـزل لممارسة الجنس مع صديقته ينطق بتلفظ لا يعود إلى الأسرة وإلى الأم، وإنما يقترن بمجال تنسيقي مفتوح على العالم وعلى التكثيفات والتعدديات التي يندرج فيها. فالملفوظ الذي ينطق به « لا يتعلق بتمثيل ذات، إذ لا وجود لذات التلفظ، وإنما ببرمجة تنسيق »48.
كل هذه الانتقادات التي وجهها كل من دولوز وغاتاري إلى التحليل النفسي دعتهما إلى تأسيس مجال جديد وبديل للتحليل النفسي وهو مجال التحليل الفصامي49. فإذا كان التحليل النفسي يربط الرغبة بالنقص والذنب، فإن التحليل الفصامي يحررها من كل ذلك ويربطها بقوة ديونيسوس النيتشوية. وإذا كان التحليل النفسي لا ينفصل عن أسطورة الإحالة، فإن التحليل الفصامي يدرس الرغبة من حيث هي رغبة مقترنة بالخارج، بالمجال السوسيولوجي والتاريخي والسياسي. وإذا كان التحليل النفسي يكسر كل إنتاجات الملفوظ بجعلها تحيل على أنا وعلى ذات متكلمة، فإن التحليل الفصامي يربط الملفوظ بالتنسيق الجمعي للتلفظ الذي هو عبارة عن تكثيفات جمعية متعددة وسيولة مستمرة إلى جانب سيولات أخرى متعددة. ذلك هو المجال الجديد والحي الذي أسسه كل من دولوز وغاتاري، وهو مجال يعيد للرغبة قوتها، وللملفوظ بُعدَه الأساسي.
إن هدفنا من هذه الورقة التي توخينا منها تقديم أحد التصورات النقدية الجارحة لمسار التحليل النفسي، لا يكمن في تقديم موقف تميز بالقوة والتجديد فحسب، وإنما بإثارة الاِنتباه إلى أن ممارسة التحليل النفسي في بلد كالمغرب أو في بلدان مثل البلدان المغاربية ذات الثقافة المختلفة كليًا عن الثقافة الغربية لا يمكنه أن يتهافت بإيمان أعمى وبخطوات مُتسرعة على مجال التحليل النفسي بغية تطبيقه على حالات محلية، بل عليه أن يعلم أن التحليل النفسي لم يسلم من النقد في عقر داره، أي في الغرب الأوروبي ذاته، وأن الطريقة الأسلم في اعتقادنا هي الاستفادة من هذه الانتقادات وأخذها بعين الاعتبار حتى لا نسقط في ما سقط فيه التحليل النفسي ذاته وعلى يد أكبر مكتشفيه وأكبر رواده. فإذا أصبح التحليل النفسي محط انتقادات عدة داخل الثقافة الأوروبية فذلك مدعاة لنا لأخذ الحذر من نظرة اختزالية للرغبة. ومهما كان العلاج النفسي الذي علينا استعماله أو إحداثه أو اقتباسه، ومهما كانت التسميات التي سنطلقها عليه، فمن الواجب أن لا يسقط في رؤى اختزالية كتلك التي سقط فيها التحليل النفسي. وعليه أن يتعامل مع الرغبة بعيدًا عن كل نقص وسلب، وأن يأخذها في اقتراناتها وبنائياتها الهادفة إلى تأسيس مستويات الفرح والإبداع. ولعل الدرس الذي نجنيه من عرض هذا النقد هو الابتعاد عن وهم « أسطورة الإحالة » القاتلة لكل إبداع ولكل انفتاح على العالم والحياة

اسبيرانزا
02/03/2009, 20:50
الهوامش :
1- L’Anti-Œdipe, Paris : Minuit, 1972.
2- Capitalisme et Schizophrénie.
3- Mille Plateaux, Paris : Minuit, 1980.
4- F. Guattari, Psychanalyse et transversalité, Paris : Masrpéro, 1972.
5- F. Guattari, La révolution moléculaire, Paris : éd. Recherches, 1977.
6- F. Guattari, L’inconscient machinique, Paris : éd. Recherches, 1979.
7- دولوز وكلير بارني : حوارات، باريز، نشر فلاماريون 1977، صدرت الترجمة العربية تحت عنوان حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، الدار البيضاء : إفريقيا الشرق، 1999.
8- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
9- المرجع نفسه، ص. 101-102.
10- F. Guattari : Les années d’hiver, Paris : éd. Bernard Barrault, 1986, p. 195.
11- Ibid., p. 195.
12- Ibid.
13- دولوز وكلير بارني، حوارات، ص. 102.
14- الصفحة نفسها. والإحالة هنا على الفيلسوف الروماني شيشيرون.
15- الصفحة نفسها.
16- الطفل هانس هو ابن أحد تلامذة فرويد، كان في سن الثالثة عندما عرض على العلاج بعدما لاحظ أبوه علامات خوف مروعة من رؤية الحصان.
17- G. Deleuze, F. Guattari, A. Scala et C. Parnet : Politique et psychanalyse, Paris : éd. Les mots perdus, 1977.
18- Ibid.
19- G. Deleuze : Différence et répétition, Paris : PUF, 1968.
20- G. Deleuze : Logique du sens, Paris : Minuit, 1969.
21- G. Deleuze : Spinoza et le problème de l’expression, Paris : Minuit, 1968, p. 51.
22- Ibid., p. 51.
23- F. Guattari : Politique et psychanalyse.
24- سبينوزا : الإيتيقا، الجزء الثالث، تعريفات العواطف، التعريف الأول.
25- المرجع نفسه، برهان القضية السابعة والخمسين من الجزء الثالث.
26- المرجع نفسه، الجزء الثالث، تعريفات العواطف، التعريف الأول.
27- دولوز، حوارات، ص. 53.
28- H. Miller : Tropique du cancer, éd. Donoël, trad. Paul Rivet, chap. XIII, p. 358.
29- حوارات، ص. 102.
30- Politique et psychanalyse.
31- حوارات، ص. 103.
32- H. Miller, Hamlet, trad. fr. Corrêa, pp. 156-159, in L’Anti-Œdipe, p. 355.
33- حوارات، ص. 103.
34- المرجع نفسه، ص. 53.
35- S. Freud : La technique analytique, « De la psychothérapie », p. 9.
36- Mille Plateaux, (L’homme aux loups), p. 52.
37- حوارات، ص. 104.
38- راجع كتب فوكو بهذا الصدد، وبالخصوص أركيولوجيا المعرفة ؛ راجع أيضا التحليل العميق الذي يقدمه دولوز لهذا المفهوم في كتابه عن فوكو تحت عنوان فوكو نشر مينوي، باريز 1986.
39- حوارات، ص. 103.
40- Milles Plateaux : (Postulats de la linguistique), p. 112.
41- Ibid.
42- Ibid.
43- التّذيت هو المسار الذي تتشكل فيه الذات، وهي ترجمة اقتبسناها من واضعها مصطفى لعريصة ضمن أعمال حول فوكو لم تنشر بعد.
44- Mille Plateaux, p. 101.
45- حوارات، ص. 103.
46- المرجع نفسه.
47- المرجع نفسه.
48- المرجع نفسه.
49- Schizo-analyse.

اسبيرانزا
02/03/2009, 20:50
أحمد العلمي : كلية الآداب والعلوم الإنسانية – القنيطرة*