sona78
15/02/2009, 18:21
بعد أيام فقط من انتهاء الحرب الإسرائيليّة الإرهابيّة على غزة، طلع عازف البيانو الإسرائيلي دانييل برنباوم ببيان وقّعه عدد من المثقفين العرب، بمن فيهم أدونيس وعبده وازن وإيتل عدنان وطاهر بن جلّون وعلاء الأسواني وجمال الغيطاني وسميح القاسم وميشيل خليفي ورشيد الخالدي وحنان الشيخ وغيرهم. طبعاً، هناك أيضاً ثلة من الفنانين (والفنانات) الغربيّين ممن لم يفتح فاه (أو فاها) يوماً للدفاع عن شعب فلسطين. ما معنى أن توقّع مريل ستريب، مثلاً، على هذا البيان؟ «تصطفل» مريل ستريب، كما قال رشيد الضعيف. لكنّ هناك مغزى أكيداً للتوقيت ولمضمون هذا البيان
أسعد أبو خليل*
يقول عازف البيانو الإسرائيلي دانييل برنباوم في بيانه الذي أصدره غداة الحرب على غزّة ما يأتي (ترجمتي هي للنص الذي نُشر في مجلّة «النيويورك ريفيو أوف بوكس»): «على امتداد أربعين سنة، أثبت التاريخ أن الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني لا يُسوّى بالقوة. يجب الآن بذل كل جهد واعتماد كل وسيلة ممكنة وكل مصدر خيال وتأمّل من أجل إيجاد طريقة جديدة للسير قدماً. مبادرة جديدة تستطيع أن تخفِّف من المخاوف والمعاناة، وأن تعترف بالظلم الذي حصل، وأن توفّر الأمن للإسرائيليّين والفلسطينيّين على حدّ سواء. مبادرة جديدة تطالب كل الأطراف بتحمل مسؤولية مشتركة: لتحقيق المساواة في الحقوق والكرامة للشعبيْن، ولضمان حق كل شخص في تجاوز الماضي وفي التطلّع نحو المستقبل».
ودانييل برنباوم، كما هو معروف، أقام علاقة صداقة مع الراحل إدوار سعيد. من حق إدوار سعيد أن يصادق من شاء وأن يعادي من شاء، وخصوصاً أن مواقف الرجل تطوّرت كثيراً عبر السنوات باتجاه راديكالي. الرجل الذي رشّحه أنور السادات يوماً لترؤّس حكومة فلسطينيّة في المنفى تحوّل إلى مطالب بإنشاء دولة علمانيّة على كل أرض فلسطين. قال لي يوماً في التسعينيات إنه ينجذب باستمرار إلى فريق تحرير كل فلسطين. لكن لا أدري لماذا أشعر أحياناً بأن بعض العرب في الغربة يشعر بأن إنسانيّته لا تكتمل وأن حضارتَه لا تُثْبَتُ إلا في إقامة علاقة صداقة مع إسرائيلي. ثم ماذا كانت ثمرة الصداقة بين برنباوم وسعيد؟ تنظيم حفلات موسيقيّة بين أطفال إسرائيليّين وفلسطينيّين؟ أم أن الهدف كان تنظيم لقاء أوركسترالي بين عازفين إسرائيليّين (وبينهم بعض عتاة الصهاينة) وعازفين فلسطينيّين حتى يتسنّى لياسر عبد ربّه الحضور للشعور بأنه حضاري وعصري رغم انشغاله بتعظيم الملك السعودي في وسائل الإعلام السعودي (ويساهم إسماعيل هنيّة في تعظيم الملك السعودي هو أيضاً ـــــ وخصوصاً في رسالة تبجيل أخيرة له ـــــ إذ إن هنيّة لا علم له بتواطؤ النظام السعودي في العدوان على غزة)؟
هناك من يقول إن برنباوم يسعى لترقية الذوق الموسيقي لأطفال فلسطين، أو إنه يريد أن يجمع عازفين من فلسطين ومن إسرائيل. وأحمد عدويّة كان له غرض سامٍ على الأرجح، مع أنه لم يتنطّح لاجتراح مبادرات «سلام». وهل جنى على فلسطين أكثر من صانعي مبادرات «السلام»؟ هل صحيح أن غرض برنباوم محض فني؟ هذا يعني أن برنباوم ـــــ وإن كنت لم أستسغْ مبادراته وتصنّع حساسيّته يوماً ـــــ يؤمن بالمنطق الاستعماري الكلاسيكي، أي إنه يؤمن بأن الرجل الأبيض يستطيع، مستعيناً بالاحتلال، أن يُهذِّب الشعب المحتل وأن يُحضِّره وأن يُرقّيه وأن يُشذِّبه. يستطيع برنباوم أن يلعب البيانو، أو أن يرقص على حبل رفيع حاملاً العصا، كما يستطيع أن يجمع عازفين وعازفات من فلسطين مع عازفين من إسرائيل، ولكن بعد تحرير فلسطين لا أثناء الاحتلال، ولا في أعقاب حرب وحشيّة مدمّرة في غزة. إن كل المبادرات التي تجري في ظل الاحتلال (أو في «كنفه» كما يريد نسيب لحّود أن يضع المقاومة في لبنان في كنف مارتن إنديك) والتي لا تتصدّى بصورة مباشرة للاحتلال وعدوانه، تهدف بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبصورة مقصودة أو عفواً لا فرق، إلى شرعنة الاحتلال، أو إلى تحويل الأنظار عنه، وكأن الشعب المُحتل ينسى الاحتلال للحظة واحدة، وخصوصاً أن الشعب المعني بالحديث هنا هو الشعب الفلسطيني ذو الذاكرة العملاقة والخلّاقة.
وهناك جانب آخر لمشاريع الموسيقى والرقص المشترك التي يرعاها برنباوم. إنها تتفق مع منهج أنور السادات (النازي الذي غفرت له الصهيونيّة نازيّته كما غفرت لمحمود عباس إنكاره للمحرقة، إذ إن الحركة الصهيونيّة لا تجد غضاضة أبداً في التحالف مع معادي اليهودية إذا هم أيّدوا الصهيونيّة) في أن الصراع العربي مع إسرائيل هو نتيجة «حاجز نفسي». واجتاز السادات هذا الحاجز في رحلتة الذليلة والمشؤومة (يبدو حازم صاغية متحسّراً اليوم لأنه لم يكن برفقة أنيس منصور على الطائرة آنذاك) وأنهى حال الحرب بين نظامه وإسرائيل. لكن الشعب المصري لم يرضخ لمنطق أنور السادات واختار طوعاً ألا يجتاز الحاجز النفسي، لأن الصراع بالنسبة له هو سياسي وقومي وأيديولوجي (أو ديني، للأسف الشديد، عند أنصار الإخوان المسلمين) لا نفسي. وحل الصراع يكون بوسائل لا علاقة لعلم النفس بها. لكن الكلام عن الحاجز النفسي، أو عن عزف الآلات الموسيقيّة بين الشعبيْن، في هذا الوقت بالذات، يهدف إلى التسليم بالأمر الواقع وبعدم جدوى النضال من أجل تغيير الواقع. إن الرقص والعزف بين فريقيْن من فلسطين ومن إسرائيل يحاول أن يروّج كذبة: أن هناك توازياً في الألم والقهر بيْن الفريقيْن وأن اللقاء بين مثقفين وفنانين دليل على هذا التوازي.
وفكرة التوازي في المعاناة هي فكرة ليست جديدة، بدأتها الحركة الصهيونيّة مبكراً من أجل طمس حركة التحرير الفلسطيني. كان الصهاينة يقولون إن «مشكلة اللاجئين» الفلسطينيّين توازي معاناة اليهود المهاجرين من الدول العربيّة، التي شاركت الحركة الصهيونيّة في تهجيرهم مثل «خطة بابل» في العراق، وإن كانت الأنظمة العربيّة تتحمّل مسؤولية عمّا جرى لهم من تهجير وتمييز واستيلاء على الممتلكات. اصطناع الموازاة هو في الزعم بأن معاناة مستوطني «سديروت» تساوي معاناة أهل غزة، أو أن «الصدمة» التي «عاناها» أهل «سديروت» لا تقلّ هولاً عن فداحة الخسائر في الأرواح بين أهل غزة، أو تزيد عنها معاناةً. أو في حديث حازم صاغيّة عن جدليّة التطرّف: إن التطرّف على الجانبيْن يلغي التطرّف في إسرائيل، أو يحمّل الشعب الفلسطيني مسؤوليّة اختيارات شعب الكيان الغاصب، وإن كان ليبراليّو الوهابيّة يتمنّعون عن هجاء تطرّف الصهيونيّة، وتطرّف الصهيونيّة جزء منها، وليس انشقاقاً عنها.
أولاً، ما يعني أن يأتي هذا البيان في هذا الوقت بالذات؟ نلاحظ، بداية، أن الموقعين (والموقّعات) اختاروا أن ينشروا هذا البيان بالإنكليزية (لعل أدونيس قد مدّ لجنة نوبل بترجمة خاصّة من أجل إسعاد خاطرها) وفي مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بالذات. هذه المجلّة ـــــ وإن زها بقراءتها وليد جنبلاط ـــــ غير مقروءة في العالم العربي، وهي منبر معروف للفريق الليبرالي في الصهيونيّة، وهو الذي لا يقلّ عنفاً وتزمّتاً ومناصرة للعدوان عن اليمين الصهيوني. ثم لماذا الآن هذا البيان بعد مجازر إسرائيل في غزة؟ هل وجد الموقعون (والموقّعات) مبادرة سلام إسرائيليّة ما في العدوان الإسرائيلي على غزة؟ هل هناك مبادرة سلام إسرائيليّة خفيّة لم نرَها بالعين المُجرّدة واستطاع أدونيس ورفاقه الميامين رؤيتها، كما يرى «كبار العلماء» في السعودية هلال شهر رمضان بالعين المجرّدة؟ هل فاتنا شيء ما في المشهد القاتم هناك؟ لنسأل أدونيس لعلّه، وهو الساعي إلى العالميّة والنوبليّة، ينوّرُنا بما نحن به جاهلون. هل يريد الموقّعون أن يعطوا إسرائيل بالبيان ما فشلت في الحصول عليه بالقتل والتدمير والتهجير؟ هل اشتمّ الموقعون في عدوان إسرائيل فرصة للسلام وقت تتعالى الأصوات السياسيّة في إسرائيل من أجل تشريد الشعب الفلسطيني (حتى من أراضي 1948 المحتلّة) ومن أجل تطبيق برنامج التطهير العرقي الذي يلقى صدى إيجابياً في الأوساط الأكاديميّة الإسرائيليّة؟ وفي الوقت الذي اختفى فيه أي دور لما كان يُسمّى (زوراً) «معسكر السلام» (والذي كان يظهر في الساحات وفي الإعلام من أجل مصلحة إسرائيل والصهيونيّة لا من أجل مصلحة فلسطين، حتى في تلك التظاهرة اليتيمة بعد انكشاف مجزرة صبرا وشاتيلا، وكانت التظاهرة تتعلّق بالسياسة الداخليّة في إسرائيل أكثر بكثير من الشعور مع الضحايا العرب) اختار الموقّعون منح إسرائيل مكافأة مجانيّة لحربها على غزة. لعلّ هؤلاء يتفقون مع ياسر عبد ربّه ـــــ الذي لم يزعجه استشهاد شمعون بيريز به ـــــ الذي يرى الخطر في حماس لا في عدوان إسرائيل.
لكن التوقيت يخدم مصلحة إسرائيل (حتى لو لم يقصد الموقعون ذلك) في تنظيف سمعتها وفي وأد نهائي للمقاومة، مهما كانت أيديولوجيّاتها، دينيّة أو ماركسيّة أو قوميّة أو ليبراليّة ـــــ مع أن الليبراليّين في بلادنا لا يقاومون، وهم، الحق يقال، أهل التعايش مع الاحتلال. وكأن مشكلة إسرائيل، الدولة الدينيّة المبنيّة على تفوّق العنصر، هي مع أيديولوجيّات حركات المقاومة لا مع المقاومة بحدّ ذاتها، يجاريها في ذلك ليبراليّو الوهابيّة الذين يزعمون أن معارضتهم لمقاومة حماس هي من منطلق علماني وكأنهم يؤيّدون مقاومة جورج حبش. روى لي الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي خوّلني إعلان تنصّله رسميّاً من البيان، أن سكرتيرة برنباوم اتصلت به في حمأة العدوان على غزة وحدّثته بصورة عامّة عن بيان ضد العدوان، وأصرّ عليها أن يتضمّن البيان إدانة لحرب إسرائيل على شعب غزة. وفوجئ العزاوي عندما رأى نص البيان على مدوّنتي خالياً من أية إشارة إلى العدوان على غزة. أي إن قريحة برنباوم تفتّقت بإلهام من مشاهد قتل الأطفال في غزة، عن هذا البيان الذي تجاهل الإشارة إلى جرائم إسرائيل في غزة. لا ندري لماذا لا يبادر برنباوم إلى الدعوة لنسيان ما فات إثر عمليّات فلسطينيّة. الجواب هو أنه يريد منا أن ننسى فقط أفعال إسرائيل وجرائمها: الذكر والتذكّر والتذكير هي من حقّهم هم. لنا نحن النسيان، والدفن الصامت للضحايا.
أسعد أبو خليل*
يقول عازف البيانو الإسرائيلي دانييل برنباوم في بيانه الذي أصدره غداة الحرب على غزّة ما يأتي (ترجمتي هي للنص الذي نُشر في مجلّة «النيويورك ريفيو أوف بوكس»): «على امتداد أربعين سنة، أثبت التاريخ أن الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني لا يُسوّى بالقوة. يجب الآن بذل كل جهد واعتماد كل وسيلة ممكنة وكل مصدر خيال وتأمّل من أجل إيجاد طريقة جديدة للسير قدماً. مبادرة جديدة تستطيع أن تخفِّف من المخاوف والمعاناة، وأن تعترف بالظلم الذي حصل، وأن توفّر الأمن للإسرائيليّين والفلسطينيّين على حدّ سواء. مبادرة جديدة تطالب كل الأطراف بتحمل مسؤولية مشتركة: لتحقيق المساواة في الحقوق والكرامة للشعبيْن، ولضمان حق كل شخص في تجاوز الماضي وفي التطلّع نحو المستقبل».
ودانييل برنباوم، كما هو معروف، أقام علاقة صداقة مع الراحل إدوار سعيد. من حق إدوار سعيد أن يصادق من شاء وأن يعادي من شاء، وخصوصاً أن مواقف الرجل تطوّرت كثيراً عبر السنوات باتجاه راديكالي. الرجل الذي رشّحه أنور السادات يوماً لترؤّس حكومة فلسطينيّة في المنفى تحوّل إلى مطالب بإنشاء دولة علمانيّة على كل أرض فلسطين. قال لي يوماً في التسعينيات إنه ينجذب باستمرار إلى فريق تحرير كل فلسطين. لكن لا أدري لماذا أشعر أحياناً بأن بعض العرب في الغربة يشعر بأن إنسانيّته لا تكتمل وأن حضارتَه لا تُثْبَتُ إلا في إقامة علاقة صداقة مع إسرائيلي. ثم ماذا كانت ثمرة الصداقة بين برنباوم وسعيد؟ تنظيم حفلات موسيقيّة بين أطفال إسرائيليّين وفلسطينيّين؟ أم أن الهدف كان تنظيم لقاء أوركسترالي بين عازفين إسرائيليّين (وبينهم بعض عتاة الصهاينة) وعازفين فلسطينيّين حتى يتسنّى لياسر عبد ربّه الحضور للشعور بأنه حضاري وعصري رغم انشغاله بتعظيم الملك السعودي في وسائل الإعلام السعودي (ويساهم إسماعيل هنيّة في تعظيم الملك السعودي هو أيضاً ـــــ وخصوصاً في رسالة تبجيل أخيرة له ـــــ إذ إن هنيّة لا علم له بتواطؤ النظام السعودي في العدوان على غزة)؟
هناك من يقول إن برنباوم يسعى لترقية الذوق الموسيقي لأطفال فلسطين، أو إنه يريد أن يجمع عازفين من فلسطين ومن إسرائيل. وأحمد عدويّة كان له غرض سامٍ على الأرجح، مع أنه لم يتنطّح لاجتراح مبادرات «سلام». وهل جنى على فلسطين أكثر من صانعي مبادرات «السلام»؟ هل صحيح أن غرض برنباوم محض فني؟ هذا يعني أن برنباوم ـــــ وإن كنت لم أستسغْ مبادراته وتصنّع حساسيّته يوماً ـــــ يؤمن بالمنطق الاستعماري الكلاسيكي، أي إنه يؤمن بأن الرجل الأبيض يستطيع، مستعيناً بالاحتلال، أن يُهذِّب الشعب المحتل وأن يُحضِّره وأن يُرقّيه وأن يُشذِّبه. يستطيع برنباوم أن يلعب البيانو، أو أن يرقص على حبل رفيع حاملاً العصا، كما يستطيع أن يجمع عازفين وعازفات من فلسطين مع عازفين من إسرائيل، ولكن بعد تحرير فلسطين لا أثناء الاحتلال، ولا في أعقاب حرب وحشيّة مدمّرة في غزة. إن كل المبادرات التي تجري في ظل الاحتلال (أو في «كنفه» كما يريد نسيب لحّود أن يضع المقاومة في لبنان في كنف مارتن إنديك) والتي لا تتصدّى بصورة مباشرة للاحتلال وعدوانه، تهدف بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبصورة مقصودة أو عفواً لا فرق، إلى شرعنة الاحتلال، أو إلى تحويل الأنظار عنه، وكأن الشعب المُحتل ينسى الاحتلال للحظة واحدة، وخصوصاً أن الشعب المعني بالحديث هنا هو الشعب الفلسطيني ذو الذاكرة العملاقة والخلّاقة.
وهناك جانب آخر لمشاريع الموسيقى والرقص المشترك التي يرعاها برنباوم. إنها تتفق مع منهج أنور السادات (النازي الذي غفرت له الصهيونيّة نازيّته كما غفرت لمحمود عباس إنكاره للمحرقة، إذ إن الحركة الصهيونيّة لا تجد غضاضة أبداً في التحالف مع معادي اليهودية إذا هم أيّدوا الصهيونيّة) في أن الصراع العربي مع إسرائيل هو نتيجة «حاجز نفسي». واجتاز السادات هذا الحاجز في رحلتة الذليلة والمشؤومة (يبدو حازم صاغية متحسّراً اليوم لأنه لم يكن برفقة أنيس منصور على الطائرة آنذاك) وأنهى حال الحرب بين نظامه وإسرائيل. لكن الشعب المصري لم يرضخ لمنطق أنور السادات واختار طوعاً ألا يجتاز الحاجز النفسي، لأن الصراع بالنسبة له هو سياسي وقومي وأيديولوجي (أو ديني، للأسف الشديد، عند أنصار الإخوان المسلمين) لا نفسي. وحل الصراع يكون بوسائل لا علاقة لعلم النفس بها. لكن الكلام عن الحاجز النفسي، أو عن عزف الآلات الموسيقيّة بين الشعبيْن، في هذا الوقت بالذات، يهدف إلى التسليم بالأمر الواقع وبعدم جدوى النضال من أجل تغيير الواقع. إن الرقص والعزف بين فريقيْن من فلسطين ومن إسرائيل يحاول أن يروّج كذبة: أن هناك توازياً في الألم والقهر بيْن الفريقيْن وأن اللقاء بين مثقفين وفنانين دليل على هذا التوازي.
وفكرة التوازي في المعاناة هي فكرة ليست جديدة، بدأتها الحركة الصهيونيّة مبكراً من أجل طمس حركة التحرير الفلسطيني. كان الصهاينة يقولون إن «مشكلة اللاجئين» الفلسطينيّين توازي معاناة اليهود المهاجرين من الدول العربيّة، التي شاركت الحركة الصهيونيّة في تهجيرهم مثل «خطة بابل» في العراق، وإن كانت الأنظمة العربيّة تتحمّل مسؤولية عمّا جرى لهم من تهجير وتمييز واستيلاء على الممتلكات. اصطناع الموازاة هو في الزعم بأن معاناة مستوطني «سديروت» تساوي معاناة أهل غزة، أو أن «الصدمة» التي «عاناها» أهل «سديروت» لا تقلّ هولاً عن فداحة الخسائر في الأرواح بين أهل غزة، أو تزيد عنها معاناةً. أو في حديث حازم صاغيّة عن جدليّة التطرّف: إن التطرّف على الجانبيْن يلغي التطرّف في إسرائيل، أو يحمّل الشعب الفلسطيني مسؤوليّة اختيارات شعب الكيان الغاصب، وإن كان ليبراليّو الوهابيّة يتمنّعون عن هجاء تطرّف الصهيونيّة، وتطرّف الصهيونيّة جزء منها، وليس انشقاقاً عنها.
أولاً، ما يعني أن يأتي هذا البيان في هذا الوقت بالذات؟ نلاحظ، بداية، أن الموقعين (والموقّعات) اختاروا أن ينشروا هذا البيان بالإنكليزية (لعل أدونيس قد مدّ لجنة نوبل بترجمة خاصّة من أجل إسعاد خاطرها) وفي مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بالذات. هذه المجلّة ـــــ وإن زها بقراءتها وليد جنبلاط ـــــ غير مقروءة في العالم العربي، وهي منبر معروف للفريق الليبرالي في الصهيونيّة، وهو الذي لا يقلّ عنفاً وتزمّتاً ومناصرة للعدوان عن اليمين الصهيوني. ثم لماذا الآن هذا البيان بعد مجازر إسرائيل في غزة؟ هل وجد الموقعون (والموقّعات) مبادرة سلام إسرائيليّة ما في العدوان الإسرائيلي على غزة؟ هل هناك مبادرة سلام إسرائيليّة خفيّة لم نرَها بالعين المُجرّدة واستطاع أدونيس ورفاقه الميامين رؤيتها، كما يرى «كبار العلماء» في السعودية هلال شهر رمضان بالعين المجرّدة؟ هل فاتنا شيء ما في المشهد القاتم هناك؟ لنسأل أدونيس لعلّه، وهو الساعي إلى العالميّة والنوبليّة، ينوّرُنا بما نحن به جاهلون. هل يريد الموقّعون أن يعطوا إسرائيل بالبيان ما فشلت في الحصول عليه بالقتل والتدمير والتهجير؟ هل اشتمّ الموقعون في عدوان إسرائيل فرصة للسلام وقت تتعالى الأصوات السياسيّة في إسرائيل من أجل تشريد الشعب الفلسطيني (حتى من أراضي 1948 المحتلّة) ومن أجل تطبيق برنامج التطهير العرقي الذي يلقى صدى إيجابياً في الأوساط الأكاديميّة الإسرائيليّة؟ وفي الوقت الذي اختفى فيه أي دور لما كان يُسمّى (زوراً) «معسكر السلام» (والذي كان يظهر في الساحات وفي الإعلام من أجل مصلحة إسرائيل والصهيونيّة لا من أجل مصلحة فلسطين، حتى في تلك التظاهرة اليتيمة بعد انكشاف مجزرة صبرا وشاتيلا، وكانت التظاهرة تتعلّق بالسياسة الداخليّة في إسرائيل أكثر بكثير من الشعور مع الضحايا العرب) اختار الموقّعون منح إسرائيل مكافأة مجانيّة لحربها على غزة. لعلّ هؤلاء يتفقون مع ياسر عبد ربّه ـــــ الذي لم يزعجه استشهاد شمعون بيريز به ـــــ الذي يرى الخطر في حماس لا في عدوان إسرائيل.
لكن التوقيت يخدم مصلحة إسرائيل (حتى لو لم يقصد الموقعون ذلك) في تنظيف سمعتها وفي وأد نهائي للمقاومة، مهما كانت أيديولوجيّاتها، دينيّة أو ماركسيّة أو قوميّة أو ليبراليّة ـــــ مع أن الليبراليّين في بلادنا لا يقاومون، وهم، الحق يقال، أهل التعايش مع الاحتلال. وكأن مشكلة إسرائيل، الدولة الدينيّة المبنيّة على تفوّق العنصر، هي مع أيديولوجيّات حركات المقاومة لا مع المقاومة بحدّ ذاتها، يجاريها في ذلك ليبراليّو الوهابيّة الذين يزعمون أن معارضتهم لمقاومة حماس هي من منطلق علماني وكأنهم يؤيّدون مقاومة جورج حبش. روى لي الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي خوّلني إعلان تنصّله رسميّاً من البيان، أن سكرتيرة برنباوم اتصلت به في حمأة العدوان على غزة وحدّثته بصورة عامّة عن بيان ضد العدوان، وأصرّ عليها أن يتضمّن البيان إدانة لحرب إسرائيل على شعب غزة. وفوجئ العزاوي عندما رأى نص البيان على مدوّنتي خالياً من أية إشارة إلى العدوان على غزة. أي إن قريحة برنباوم تفتّقت بإلهام من مشاهد قتل الأطفال في غزة، عن هذا البيان الذي تجاهل الإشارة إلى جرائم إسرائيل في غزة. لا ندري لماذا لا يبادر برنباوم إلى الدعوة لنسيان ما فات إثر عمليّات فلسطينيّة. الجواب هو أنه يريد منا أن ننسى فقط أفعال إسرائيل وجرائمها: الذكر والتذكّر والتذكير هي من حقّهم هم. لنا نحن النسيان، والدفن الصامت للضحايا.