صياد الطيور
04/09/2005, 23:31
1982: العام الصعب للأسد في سورية ولبنان
ثمة من يعتقد أن حافظ الأسد رجل محظوظ خدمته الظروف. وثمة من يعتقد أن الرجل سخر الظروف لخدمة نظامه، وامتلك ذكاء وحنكة في إدارة السياسة. وأنا من أصحاب الرأي الثاني. ودليلي عقد الثمانينات. فقد تجلت فيه مهارة الأسد السياسية في إدارة وحسم أزماته في سورية ولبنان، في ظروف كارثية كانت ضده. وعندما أعرض اليوم العلاقة السورية ـ اللبنانية في ذلك العقد الصعب، أترك للقارئ أن يقدر ما إذا كانت الظروف خدمت حافظ الأسد، أم أنه سخر الظروف لخدمته.
دخل الأسد عقد الثمانينات مثقلا بسلسلة أزمات. أخفقت محادثات الوحدة مع بعث العراق. فقد أعدم صدام رفاقه «الوحدويين» وأقال رئيسه البكر. ثم ورط جيشه وبلده والعرب في حرب مجنونة مع ايران. في الداخل، كان على الأسد أن يواجه إضراب النقابات الليبرالية المستقلة المطالبة بالديمقراطية، وإخفاق البيروقراطية المخابراتية في استئصال عنف الإخوان المسلمين المنهمكين منذ سنوات في اغتيال الأطر القاعدية في النظام.
تَمَّ الالتفاف على مطلب الديمقراطية بـ «تأميم» نقابات المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين. وكانت نقابة الصحافة قد أُلحقت بنقابة عمال الطباعة. واختفى الصحافي اللبناني سليم اللوزي، ثم ظهرت جثته في أحراش لبنان وقد سلخ جلد يده التي أمسك بها القلم مهاجما النظام في سورية. وفي باريس اغتيل صلاح البيطار أحد مؤسسين اثنين لحزب البعث. أدهشني البيطار آنذاك. فقد قدم نفسه مرشحا بديلا للنظام. كان يحدثني عن إمكانية تجميع «المعارضات» الأصولية واليسارية والليبرالية تحت مظلة عريضة! وراح يهاجم النظام في مجلته «الإحياء» بجرأة غير معروفة عنه. وأدهشني النظام أكثر. فقد بعث ببرقية تعزية حارة لزوجة رئيس الوزراء الأسبق.
لم يكد الأسد يعيد «ترتيب» أوضاع خصومه ومعارضيه، حتى فوجئ بكارثة في لبنان. فقد اجتاحت اسرائيل البلد (1982). انكفأت القوات السورية الى سهل البقاع عندما ارتكب شارون حماقة التقدم نحو بيروت، وفي حسابه أنه يستطيع أن يحل محل سورية في لبنان اعتمادا على حلفائه المسيحيين. نجح شارون في احتلال بيروت و«تسفير» عرفات الى تونس بحماية أميركية، وفرض بشير الجميل رئيسا للجمهورية. لكن تقدم القوات الاسرائيلية نحو البقاع عبر منفذه الغربي (راشيا وحاصبيا) اصطدم بدبابات تي 72 السورية التي أعطبت كتيبة دبابات ميركافا، وقيل ان الجنرال إحد باراك كان قائدها الذي مني بالهزيمة هناك.
لعل عام 1982 أصعب أيام الأسد في حياته السياسية العاصفة. أسند شارون الى «القوات اللبنانية» ـ جيش حزب الكتائب المليشياوي ـ فتح جبهة عسكرية ضد السوريين في البقاع انطلاقا من مدينة زحلة الكاثوليكية. في الوقت ذاته، تحرك الإخوان في سورية متناغمين مع مأزق الأسد في لبنان، ففتحوا جبهة عسكرية ضده انطلاقا من مدينة حماه.
«من يعد العصي ليس كمن يأكلها». الصحافي أو المراقب السياسي الذي يعد العصي أقل توترا وأطول عمرا من السياسي الذي يُجلد بها. الصحافي يراقب. السياسي عليه أن يقرر. وفي كل قرار كبير احتمال نجاح أو احتمال خطأ كفيل بتقويض حياته. التوتر المستمر في حياة الأسد، وإلغاؤه السياسة واحتكار قرارها، وتحمل المسؤولية وحده... كل ذلك دمر باكرا صحة وجسد طيار قوي البنية.
لم تتحمل صحة الأسد عام الكوارث والأزمات. انهار تحت وطأة أمراض السياسة. دخل في غيبوبة. عندما أفاق في صحوة غير متوقعة، واجه كارثة في عقر داره وعاصمته. كانت وطأة الهمِّ برفعت شقيقه الأصغر المشاغب في كفة، والهمِّ بالاخوان وشارون وبيغن و«القوات» في كفة! «اللهم احمني من أشقائي وأنصاري. أما أعدائي فأنا كفيل بهم». كان رفعت الذي استبطأ صحوة شقيقه قد استنفر مليشياه العسكرية سيئة السمعة (سرايا الدفاع) وحشدها في دمشق، واستعد للوراثة معلنا نفسه «قائد المسيرة». كان على «قائد المسيرة» الأصلي أن يفك حصار شقيقه، ثم ينفيه إلى روسيا مع خصومه العسكريين الذين ضربوا بقواتهم طوقا لحصار «سراياه» في العاصمة المهددة بالدمار.
بين كل صحوة وإغماءة، تعامل الأسد بحذر مع خطر الانقسام داخل نظامه. كيف ضمن الأسد لنفسه استرداد زمام المبادرة؟! انه فن إدارة السياسة بصبر وباستغلال التناقضات والثغرات والأخطاء في معسكر الخصوم والأعداء والحلفاء على حد سواء. صبر عبد الناصر على صديقه ومشيره الانكشاري عامر، ولم يتمكن من الحسم معه إلا بعد الهزيمة المرة أمام اسرائيل. الأسد حسم سريعا مع شقيقه ومع الاخوان، ثم استدار للحسم مع اسرائيل وحلفائها في لبنان. مشكلة الأسد انه لم يكن كناصر يؤمن بالإعلام. لم يكن الأسد يملك «هيكل» الذي يفلسف سياسته ويعرِّف الشارع بها وبأحداثها. بقي السوريون واللبنانيون الى اليوم لا يعرفون شيئا عن انتصارات الأسد وهزائمه.
أعرف اني أسبب حرجا للإخوان وغيظا وغضبا لدى الحمويين عندما ألتزم أمانة التحليل السياسي النزيه، فأربط مجزرة حماه الكارثية بظرفها السياسي، وبسياقها التاريخي ومضمونها الاجتماعي. بادر الإخوان الى ذبح البعثيين والإداريين مع أسرهم في المدينة، عندما ارتكبوا حماقة الاعتصام بها، مراهنين على العصيان المدني الذي لم يحدث في سورية، وعلى دبابات صدام التي لم تأت عبر الصحراء كما وعد.
كان الانتقام أشد قسوة وهولا. انتهز النظام فرصة لا تعوض لاستئصال الاخوان بضربة واحدة، عندما تحولوا من شبح صعب الإمساك به الى قاعدة محاصرة. لكن استئصال أهل المدينة مع استئصال الإخوان الذين تسببوا بكارثتها، لا يمكن منطقيا وانسانيا الدفاع عنه. الدولة، أية دولة، عليها أن تكون حامية أرحم بمواطنيها ومدنييها، فلا تعاملهم معاملتها للخارجين عليها.
باختصار، مأساة حماه محصلة طبيعية لتاريخ من الحقد الاجتماعي المتبادل بين مدينة إقطاعية محافظة وريفها الفلاحي الذي أصبح حاكما متحكما. الظرف السياسي عجل بالاستئصال الذي لا يرحم. فقد كان النظام يخوض في لبنان معركة زحلة ضد الاسرائيليين ووكلائهم المحليين. لم تقم قيامة للإخوان بعد معركة حماه. أخيرا، استوعب الاخوان السوريون الدرس الذي لقنه ناصر للإخوان المصريين: الاغتيال السياسي لا يقلب نظاما، ولا يوصل إرهابا الى السلطة.
في استخفافه بقيمة الإعلام، لم يفتح النظام فمه الرسمي بكلمة واحدة عن معركة حماه الى الآن. لم يعرف الأسد الراحل كيف يربط أمام السوريين بينها وبين معركة سورية مع شارون وبيغن وجعجع وصدام في لبنان. لهذا، أعتقد أن كارثة حماه بقيت في مقدمة الأسباب التي تعرقل مسيرة الديمقراطية في سورية، وتحول دون الانفتاح خشية من الثأر والمحاسبة على ماض غارق في الدماء.
لولا حرب استئصال الإخوان في حماه، لما نجحت حرب الاستنزاف ضد اسرائيل وأميركا في لبنان! لست أنا الذي أقول ذلك. انه فن إدارة السياسة الذي أجاز الحسم السريع في حماه، للاستدارة نحو الحسم المشروع مع الاحتلال الاسرائيلي والإنزال الاميركي في لبنان.
منقول
__________________
ثمة من يعتقد أن حافظ الأسد رجل محظوظ خدمته الظروف. وثمة من يعتقد أن الرجل سخر الظروف لخدمة نظامه، وامتلك ذكاء وحنكة في إدارة السياسة. وأنا من أصحاب الرأي الثاني. ودليلي عقد الثمانينات. فقد تجلت فيه مهارة الأسد السياسية في إدارة وحسم أزماته في سورية ولبنان، في ظروف كارثية كانت ضده. وعندما أعرض اليوم العلاقة السورية ـ اللبنانية في ذلك العقد الصعب، أترك للقارئ أن يقدر ما إذا كانت الظروف خدمت حافظ الأسد، أم أنه سخر الظروف لخدمته.
دخل الأسد عقد الثمانينات مثقلا بسلسلة أزمات. أخفقت محادثات الوحدة مع بعث العراق. فقد أعدم صدام رفاقه «الوحدويين» وأقال رئيسه البكر. ثم ورط جيشه وبلده والعرب في حرب مجنونة مع ايران. في الداخل، كان على الأسد أن يواجه إضراب النقابات الليبرالية المستقلة المطالبة بالديمقراطية، وإخفاق البيروقراطية المخابراتية في استئصال عنف الإخوان المسلمين المنهمكين منذ سنوات في اغتيال الأطر القاعدية في النظام.
تَمَّ الالتفاف على مطلب الديمقراطية بـ «تأميم» نقابات المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين. وكانت نقابة الصحافة قد أُلحقت بنقابة عمال الطباعة. واختفى الصحافي اللبناني سليم اللوزي، ثم ظهرت جثته في أحراش لبنان وقد سلخ جلد يده التي أمسك بها القلم مهاجما النظام في سورية. وفي باريس اغتيل صلاح البيطار أحد مؤسسين اثنين لحزب البعث. أدهشني البيطار آنذاك. فقد قدم نفسه مرشحا بديلا للنظام. كان يحدثني عن إمكانية تجميع «المعارضات» الأصولية واليسارية والليبرالية تحت مظلة عريضة! وراح يهاجم النظام في مجلته «الإحياء» بجرأة غير معروفة عنه. وأدهشني النظام أكثر. فقد بعث ببرقية تعزية حارة لزوجة رئيس الوزراء الأسبق.
لم يكد الأسد يعيد «ترتيب» أوضاع خصومه ومعارضيه، حتى فوجئ بكارثة في لبنان. فقد اجتاحت اسرائيل البلد (1982). انكفأت القوات السورية الى سهل البقاع عندما ارتكب شارون حماقة التقدم نحو بيروت، وفي حسابه أنه يستطيع أن يحل محل سورية في لبنان اعتمادا على حلفائه المسيحيين. نجح شارون في احتلال بيروت و«تسفير» عرفات الى تونس بحماية أميركية، وفرض بشير الجميل رئيسا للجمهورية. لكن تقدم القوات الاسرائيلية نحو البقاع عبر منفذه الغربي (راشيا وحاصبيا) اصطدم بدبابات تي 72 السورية التي أعطبت كتيبة دبابات ميركافا، وقيل ان الجنرال إحد باراك كان قائدها الذي مني بالهزيمة هناك.
لعل عام 1982 أصعب أيام الأسد في حياته السياسية العاصفة. أسند شارون الى «القوات اللبنانية» ـ جيش حزب الكتائب المليشياوي ـ فتح جبهة عسكرية ضد السوريين في البقاع انطلاقا من مدينة زحلة الكاثوليكية. في الوقت ذاته، تحرك الإخوان في سورية متناغمين مع مأزق الأسد في لبنان، ففتحوا جبهة عسكرية ضده انطلاقا من مدينة حماه.
«من يعد العصي ليس كمن يأكلها». الصحافي أو المراقب السياسي الذي يعد العصي أقل توترا وأطول عمرا من السياسي الذي يُجلد بها. الصحافي يراقب. السياسي عليه أن يقرر. وفي كل قرار كبير احتمال نجاح أو احتمال خطأ كفيل بتقويض حياته. التوتر المستمر في حياة الأسد، وإلغاؤه السياسة واحتكار قرارها، وتحمل المسؤولية وحده... كل ذلك دمر باكرا صحة وجسد طيار قوي البنية.
لم تتحمل صحة الأسد عام الكوارث والأزمات. انهار تحت وطأة أمراض السياسة. دخل في غيبوبة. عندما أفاق في صحوة غير متوقعة، واجه كارثة في عقر داره وعاصمته. كانت وطأة الهمِّ برفعت شقيقه الأصغر المشاغب في كفة، والهمِّ بالاخوان وشارون وبيغن و«القوات» في كفة! «اللهم احمني من أشقائي وأنصاري. أما أعدائي فأنا كفيل بهم». كان رفعت الذي استبطأ صحوة شقيقه قد استنفر مليشياه العسكرية سيئة السمعة (سرايا الدفاع) وحشدها في دمشق، واستعد للوراثة معلنا نفسه «قائد المسيرة». كان على «قائد المسيرة» الأصلي أن يفك حصار شقيقه، ثم ينفيه إلى روسيا مع خصومه العسكريين الذين ضربوا بقواتهم طوقا لحصار «سراياه» في العاصمة المهددة بالدمار.
بين كل صحوة وإغماءة، تعامل الأسد بحذر مع خطر الانقسام داخل نظامه. كيف ضمن الأسد لنفسه استرداد زمام المبادرة؟! انه فن إدارة السياسة بصبر وباستغلال التناقضات والثغرات والأخطاء في معسكر الخصوم والأعداء والحلفاء على حد سواء. صبر عبد الناصر على صديقه ومشيره الانكشاري عامر، ولم يتمكن من الحسم معه إلا بعد الهزيمة المرة أمام اسرائيل. الأسد حسم سريعا مع شقيقه ومع الاخوان، ثم استدار للحسم مع اسرائيل وحلفائها في لبنان. مشكلة الأسد انه لم يكن كناصر يؤمن بالإعلام. لم يكن الأسد يملك «هيكل» الذي يفلسف سياسته ويعرِّف الشارع بها وبأحداثها. بقي السوريون واللبنانيون الى اليوم لا يعرفون شيئا عن انتصارات الأسد وهزائمه.
أعرف اني أسبب حرجا للإخوان وغيظا وغضبا لدى الحمويين عندما ألتزم أمانة التحليل السياسي النزيه، فأربط مجزرة حماه الكارثية بظرفها السياسي، وبسياقها التاريخي ومضمونها الاجتماعي. بادر الإخوان الى ذبح البعثيين والإداريين مع أسرهم في المدينة، عندما ارتكبوا حماقة الاعتصام بها، مراهنين على العصيان المدني الذي لم يحدث في سورية، وعلى دبابات صدام التي لم تأت عبر الصحراء كما وعد.
كان الانتقام أشد قسوة وهولا. انتهز النظام فرصة لا تعوض لاستئصال الاخوان بضربة واحدة، عندما تحولوا من شبح صعب الإمساك به الى قاعدة محاصرة. لكن استئصال أهل المدينة مع استئصال الإخوان الذين تسببوا بكارثتها، لا يمكن منطقيا وانسانيا الدفاع عنه. الدولة، أية دولة، عليها أن تكون حامية أرحم بمواطنيها ومدنييها، فلا تعاملهم معاملتها للخارجين عليها.
باختصار، مأساة حماه محصلة طبيعية لتاريخ من الحقد الاجتماعي المتبادل بين مدينة إقطاعية محافظة وريفها الفلاحي الذي أصبح حاكما متحكما. الظرف السياسي عجل بالاستئصال الذي لا يرحم. فقد كان النظام يخوض في لبنان معركة زحلة ضد الاسرائيليين ووكلائهم المحليين. لم تقم قيامة للإخوان بعد معركة حماه. أخيرا، استوعب الاخوان السوريون الدرس الذي لقنه ناصر للإخوان المصريين: الاغتيال السياسي لا يقلب نظاما، ولا يوصل إرهابا الى السلطة.
في استخفافه بقيمة الإعلام، لم يفتح النظام فمه الرسمي بكلمة واحدة عن معركة حماه الى الآن. لم يعرف الأسد الراحل كيف يربط أمام السوريين بينها وبين معركة سورية مع شارون وبيغن وجعجع وصدام في لبنان. لهذا، أعتقد أن كارثة حماه بقيت في مقدمة الأسباب التي تعرقل مسيرة الديمقراطية في سورية، وتحول دون الانفتاح خشية من الثأر والمحاسبة على ماض غارق في الدماء.
لولا حرب استئصال الإخوان في حماه، لما نجحت حرب الاستنزاف ضد اسرائيل وأميركا في لبنان! لست أنا الذي أقول ذلك. انه فن إدارة السياسة الذي أجاز الحسم السريع في حماه، للاستدارة نحو الحسم المشروع مع الاحتلال الاسرائيلي والإنزال الاميركي في لبنان.
منقول
__________________