-
دخول

عرض كامل الموضوع : أنطون تشيكوف#3


achelious
05/02/2009, 20:00
الرواية

أنطون تشيكوف

قالت الخادمة لسيدها (بافيل ويسلي) المؤلف الأشهر وهو على المائدة وقد فرغ من طعام الغداء :
- إن بالباب سيدة تستأذن عليك , وقد أقامت تنتظرك برهة طويلة .
قال المؤلف الأشهر :
- ما أراها إلا إحدى المتطفلات على الأدب و الكتابة . وقد جاءت ببعض سخافاتها تعرضها علي لتصدع بها رأسي , بعداً لها ولأمثالها ,خبريها أني مشغول .
- ذلك من أصعب الصعب , لقد ترددت على الدار أكثر من خمس مرات , وهي تأبى إلا لقاءك, وإنها والله لتوشك أن تبكي حسرة ولهفة .
- اذهبي بها إذن إلى المكتب ...
تناول المؤلف (بافيل) رداءه فلبسه بكل تؤدة وأخذ في يمينه قلماً وفي يساره كتاباً ومضى إلى المكتب وحاول جهده أن يتظاهر بهيئة المكدود المثقل بأعباء العمل .
وألقى بالمكتب امرأة ضخمة بدينة محمرة الوجه لابسة نظارة , حسنة الهندام والشارة على رأسها قلنسوة حمراء محلاة بعصفورة أحمر , ولما أبصرت المؤلف ضمت ذراعيها على صدرها وصمدت إليه بعينيها كالضارعة المبتهلة .
وقالت بصوت حاد مذكر يتهدج اضراباً :
- بديهي أنك لست تذكرني , إني .. إني تشرفت بلقياك مرة في بعض الحفلات ... أنا الآنسة موراشكين .
- أ ... أ ... أ ... إحم ... اجلسي .. ماذا عسي أستطيع أن أصنع لك ؟ .
قالت وأخذت مجلساً وقد زادت اضطراباً وربكة :
- قد ترى يا سيدي .. قد ترى .. أنك لا تذكرني .. أنا الآنسة موراشكين .. قد ترى يا سيدي أني من أشد الناس إعجاباً بعبقريتك , ومازلت مولعة باجتلاء محاسن براعتك , واقتناء نفائس براعتك , لا أصانعك ولا أداجيك , ولا أجاملك ولا أحابيك , معاذ الإله وحاش بيانك الرائع , وأدبك البارع , و إنما أضع التحميد موضعه وأقر التكريم والتمجيد في نصابه , وأثنى عليك بما أنت أهله , هذا وإن لي أنا أيضاً يا سيدي مشاركة في الأدب وقد أخذت بطرف من العرفان , لا أزعم أني أحسب في عداد المؤلفين , على أني قد وفقني الله إلى أن أجود بما عندي وإن كان ضئيلاً , فلقد أبرزت في أحايين مختلفة ثلاث قصص للصبيان , لم تقرأها بطبيعة الحال يا سيدي , وقد ترجمت شيئاً كثيراً, وكان المرحوم أخي ينشر نبذاً في جريدة الحرية ..
قال بافيل :
- لا شك في ذلك ... ولكن ماذا عساى أن أصنع لك ؟ .
- قد ترى يا سيدي .. (وهنا نكست السيدة جيدها وغضت بصرها وزاد احمرارها ) أني أعرف مبلغ نبوغك ودقة نقدك وأصالة رأيك , ومازلت تواقة إلى استجلاء آرائك , أو بالأحرى إلى افها نصيحتك , ولقد ألفت رواية تمثيلية , وأريد عرضها عليك قبل النشر.
وعمدت السيدة إلى جعبتها وإنها لترتجف كالعصفور بلله القطر أو كأنها :
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
فاستخرجت ملفاً من الورق ضخماً سميناً ...
وكان صاحبنا بافيل )) لا يحب أن يقرأ من الأوراق إلا ما سطرت يداه , فإذا هدد بإرغامه على قراءة مسودات غيره أو الإصغاء إليها أحس كأنه قد نصب أمام فوهة المدفع , فلما بصر بالمسودة السمينة الضخمة طارت نفسه هلاعاً وابتدر قائلآً :
- لا بأس ... دعيها .. فسوف أقرؤها ...
قالت السيدة بصوت واهن قد براه الكمد والشجى فكاد يبيد ورفعت يديها مبتهلة :
- سيدي بافيل ! أعلم أنك مشغول جداً , وأن كل لحظة من وقتك نفيسة قيمة , وأعلم أنك تسبني الآن وتلعنني في ضميرك , ولكن تعطف علي وحنانيك ! ودعني أقرأ عليك روايتي .
قال (بافيل) متجلجاً :
- لقد كان بودي أن أجيبك إلى هذا يا سيدتي لولا كثرة أشغالي , وضيق مجالي , فاسمحي لي بالقيام تواً ولك الشكر .
قالت السيدة بصوت كأنين الثكلى ورنة النائحة :
- سيدي بافيل !
وخنقتها العبرة فأجهشت بالبكاء وفاض دمعها مدراراً ...
- لا أنكر أني أسألك تضحية عظيمة وأني قد بالغت في الفضول والتطفل , فلئن كان ذنبي عظيماً فإن رحمتك وحنانك أعظم , ولا أجحدك أني راحلة من غدي إلى بلدة قزان ولابد لي من أخذ رأيك اليوم , فتكرم علي بنصف ساعة فقط , إني أبتهل إليك ضارعة خاشعة !
لقد كان (بافيل) على صلابة ظاهرة أرق الناس قلباً وأرحمهم فؤاداً , فلما شاهد من لوعة المرأة وغليل حرقتها ما شاهد خارت قواه وفلت عزيمته وقال :
- لا بأس يا سيدتي , سأصغي إليك .. سأهبك من وقتي نصف ساعة .
فأرست السيدة صيحة فرح شديدة ونزعت قلنسوتها , واطمأنت في مقعد وشرعت تقرأ بادئة بالمنظر الأول من الفصل الأول , وخلاصته أن الخادم والخادمة ينظفان الأثاث والرياش ويفيضان أثناء ذلك بالحديث عن سيدتهما الصغيرة (حنة) التي كانت تنشئ مدرسة ومستوصفاً في القرية , ثم ينصرف الخادم وتشرع الخادمة في محاضرة مسهبة عن فائدة التعليم وأن العلم نور الجهل ظلمة , ثم إن المؤلفة السيدة موراشكين ترجع الخادم إلى الغرفة وتطلق لسانه بمحاضرة مستفيضة عن سيده الجنرال واستهجانه لآراء ابنته وعزمه على تزويجها لرجل غني جاهل وزعمه أن الجهل نور والعلم ظلمة , وأن صلاح الناس في الجهل المطبق وفسادهم في العلم والعرفان .
ثم يغادر الخادمان المسرح وتظهر السيدة الصغيرة نفسها , فتخبر المتفرجين أنها قضت الليلة السالفة سهاداً لم تذق حلاوة النوم من ذكرى حبيبها فالنتين الذي يشتغل عريفاً عند أبيه (أبوه فقى كتاب) , والذي على شدة فقره وفاقته قد ضرب في العلوم بأرجح سهم وأوفر نصيب , وفاز في الفنون بالقدح المعلى , ولكنه مع ذلك لا يؤمن بوجود الصداقة ولا الحب على ظهر العالم الأرضي, ويعتقد أن الحياة خلو من الخير مفعمة بالشر , ومن أجل ذلك أصبح يمقت الحياة ويشتهي الموت , ولذلك قد عزمت السيدة على إنقاذه .
أصغى المسكين (بافيل) إلى كل هذا وجعل يتلهف على رقدة في سريره , أو خلوة في مضجعه, وجعل يتفرس في وجه المرأة والغيظ يأكل قلبه والحقد في أحشائه يحتدم ويتضرم .
وكان صوتها الحاد يضرب على صماخ أذنه كضربات السندان ( اللهم اكفنا السوء) وهو لا يعي شيئاً ولايفهم شيئاً !
وجعل يقول في نفسه :
الحمد أما ما نحب فلا نرى ونبصر ما لا نشتهي فلك الحمد
لقد أرسلك الشيطان إلي في ساعة نحس كأني بحاجة إليك , أنت ألفت الرواية , وأنا ما ذنبي وماذا جنيت ؟ رحماك اللهم ! أوقد حكمت علي أن أسمع كل ما في هذا الملف من سخافة , لله ما أسمن هذا الملف وما أضخمه ! .. ويا ويلي ويا حسرتي!
نظر (بافيل) إلى الحائط حيث صورة زوجته معلقة وتذكر أن زوجته كانت سألته أن يشتري لها خمسة أمتار من الحرير ورطل جبن فلمنكي وعلبة (بودرة) للأسنان وقال في نفسه :
- عسى أن لا أكون فقدت عينة الحرير , أين وضعتها ؟ أظنها في جيب الرداء الأزرق , قبحاً لهذه الذباب الملعون ! لقد وسخ الصورة . لأسألن الخادمة (أولغا) أن تنظف زجاجها ..
يا ويتلي ! إن المرأة دائبة في القراءة دءوب الرحى أو دوءب الأيام في عمر الإنسان , لقد بلغت المنظر الثاني عشر , فلعلنا قد قاربنا ختام الفصل الأول , قبحها الله ما أضخم بدنها ! أتحسب الحمقاء أن الذكاء مما يتفق مع هذا السمن المفرط وأن العبقرية تستطيع أن تحل في هذا الجبل من اللحم وفي مثل حرارة ذلك الشحم المتراكم ؟ و أولى لها من تأليف الروايات والله أن تشرب الخل البارد وتنام في بدرون !
وقالت السيدة بغتة :
- ألا ترى أن هذا المونولوج أطول مما ينبغي ؟ ..
لم يسمع (بافيل) المونولوج ولكنه قال :
- لا .. لا .. إنه بديع جداً ..
فتهلل وجه السيدة سروراً و استمرت تتلو ما يأتي :
حنة : لقد أضناك وأكل جسدك كثرة التفكير ,إنك تعيش في الدماغ لا في القلب , إنك جعلت كل عقيدتك وإيمانك في الذهن , وكفرت بالعواطف وجحدت الإحساس والشعور .
فالنتين : ماذا تعنين بالقلب , هذا اصطلاح من اصطلاحات علم التشريح ولست أجيزه اسماً للتعبير عما نسميه الإحساسات والعواطف .
حنة : (مضربة حائرة) والحب , ماذا تقول في الحب ؟ حقاً إنه ليس مجرد نتيجة من نتائج تسلسل الخواطر . خبرني صراحة هل أحببت قط في حياتك الماضية ؟
فالنتين : لا تدعيني أنكأ القروح القديمة ولما تندمل .. (فترة سكوت) أظن أنك شقية تعسة .
في خلال المنظر الثامن عشر تثاءب (بافيل) وصرت أسنانه صريراً حاداً وآلمه صدور هذا الصوت المنكر , فتظاهر بمزيد الالتفات إلى السيدة مداراة لتلك الهفوة .
وقال في نفسه :
- المنظر السابع عشر , ليت شعرى متى ينتهي هذا الفصل الذي إخاله أطول من ليل الصب ويوم الحشر , اللهم لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه , أما والله لو دام هذا الفصل أكثر من عشر دقائق لاستغثت بالبوليس !
ولكن الله تداركه بلطف منه وعناية إذ قالت السيدة في تلك اللحظة :
(يرخى الستار) ..
وتنهد بافيل من أعماق قلبه وتحرك للقيام ولكن السيدة قلبت الصحيفة بأسرع من لمح البرق واستمرت في تلاوتها :

الفصل الثاني
المنظر الأول

(شارع بقرية , على اليمين مدرسة , وعلى اليسار مستوصف , جماعة من القرويين , رجال ونساء , جالسون على باب المستوصف) ..
فاعترض (بافيل) قائلاً :
- معذرة يا سيدتي , على كم فصل تشتمل الرواية ؟ ..
قالت السيدة :
- على خمسة .
وكأنما خشيت أن يفر سامعها من بين يديها فأسرعت بالتلاوة :
فالنتين تشرف من نافذة المدرسة , في أقصى المنظر يرى رهط من القرويين يحملون أمتعتهم إلى النزل .
استسلم بافيل لقضاء الله الذي لا مرد له وأنزل نفسه منزلة المحكوم عليه بالإعدام حكماً لا مناص منه ولا مخلص , واجتهد أن يطرد النعاس عن مقلتيه , وخيل إليه أن في نهاية هذا البلاء المحتم أبعد إليه من رحمة الله على عدوه أبليس فقطع من ناحيتها كل رجاء ..
دو .. دو .. دو ..
دق ناقوس صوتها على صماخ أذنه ( دو ــ دو ــ دو ــ وش ــ وش ــ وش) ..
وقال المسكين في نفسه :
- لقد نسيت أن أشرب زجاجتي المعتاد من الصودا .. ماذا أصنع الآن ولم أشرب الصودا؟ سيصيبني المغص ووجع البطن بلا شك .. أرى عصفوراً على قاعدة النافذة.
وأطبق النعاس أجفانه فحاول فتحها بكل مشقة , ثم تثاءب دون أن يفتح فمه وحملق في وجه المرأة وخيل إليه أن صورتها قد انطمست معالمها , و أن شخصها جعل يترجح ويتموج في عينيه وأن شكلها قد استحال إلى هيئة مثلث وأن رأسها قد لمس سقف الغرفة.
فالنتين : كلا دعيبني أرحل ..
حنة : (حيرى مولهة) لماذا؟
فالنتين : (على انفراد) لقد أصفر لونها (إليها) لا ترغيمني على الإيضاح , فالموت أحب إلي من أن أبوح لك بالسبب ..
حنة : (بعد فترة) كلا لن ترحل ..
ثم خيل إليه شبح السيدة ينمو ويمتد في كل ناحية حتى ملأ فراغ الغرفة , وصار كله خليطاً مشوشاً لا يبين منه سوى فمها المتحرك , ثم استحالت بغتة إلى شكل زجاجة ثم جعلت تترنح يمنة ويسرة ثم تقهقرت هي والمائدة إلى أقصى الغرفة .
فالنيتن :(مطوقاً حنة بذراعيه) لقد نفخت في روحاً جديدة , لقد بعثتني إلى الحياة من المقابر ,لقد أنعشتني كما ينعش الغيث موات الأرض , ولكن لات حين مناص ! لقد سبق السيف العذل ! إن دائي عضال يعجز الأساة ويعيى الأطباء وما أن له من دواء !
انتفض (بافيل) في مجلسه بغتة ونظر إلى السيدة بعينين مغيمتين مقروحتين موجعتين, و شخص بصره كالذي لا يعي ولا يعقل ..
المنظر السابع عشر
البارون ومفتش البوليس وأعوانه
فالنتين : خذوني !
حنة :إني جاريته وملك يده ! خذوني معه إني أحبه ! إنه لأحب إلي من روحي !
البارون : اذكرى يا حنة أنك تهدمين مجد أبيك !
وهنا نهض بافيل هائجاً كالليث واختطف إحدى ثقالات الورق من فوق المائدة وصبها على أم رأس المرأة وصاح بصوت جهنمي مستنكر :
- خذوني بدلاً من حبيبها فالنتين , فإني أولى بالقصاص منه , إذ قتلت المرأة ..
ولكن المحكمة برأت ساحته ..


ترجمة محمد السباعي

Akhawia.net
:mimo:

..AHMAD
05/02/2009, 21:33
يسلمو كتير وائل ...
هاد الجزء مدري لمين عرتو .. وما عاد لقيتو :(

ناطر الكمالة :D

achelious
11/02/2009, 17:32
زيت البرافين

كان بيوتر بتروفيش أرملاً منفرداً , ولكي يؤنس من وحشته ويخف من عناء وحدته أسكن معه أخت زوجته البكر العانس (كان كل منهما يعيش على نفقته) ولبثا على هذا الحال ردحاً من الزمان.

وفي ذات ليلة دعى صاحبنا بيوتر إلى حفلة نفاس (سبوع) وكان رجلاً تقياً صالحاً ورعاً لا يذوق الخمر , ولكنه مجاراة للإخوان في تلك الليلة وسروراً بسلامة النفساء وصحة المولود شرب كأسين من الراح , ولا حبذا الراح إنها تغرى الشارب بالاستزادة ــ كماء البحر لا ينقع غليلاً كلما ازددت عطشاً.

لذلك لما انكفأ إلى بيته جوف الليل أحس ظمأ شديداً في أحشائه ويبساً في حلقه, وحذراً من إيقاظ أليفته وعشيرته أو إزعاجها خلع نعليه لما ولج باب المنزل وصعد السلم حافياً على مشطى قدميه كاللص حتى بلغ فراشه , ثم أراد النوم فأباه عليه ظمؤه وغلته.

فقال في نفسه :
- إن داشنكا (أخت زوجته) على ما أظن تخبئ في ركن الأيمن من خزانتها زجاجة من فودكا , فلو عمدت إلى هذه الزجاجة فأخذت منها قدحاً لم تفطن إلى ذلك ولم تشعر.

وبعد قليل من التردد تغلب على مخاوفه وعمد إلى الخزانة ففتحها بمنتهى الحذر , وتلمس الزجاجة في الركن الأيمن فأفرغ منها قدحاً ثم أعادها إلى مكانها (وصلب على صدره) والتهم القدح , وعلى إثر ذلك ثار في جوفه شيء كالمعجزة فأحس أن قوة خفية قذفت به من جانب الخزانة - كأنه بمبة - فصدمت به جدار الغرفة , واستطارت أمام عينيه لمحات برق خاطفة وانقطعت أنفاسه , وخيل إليه كأنما قد ألقى به في مستنقع مفعم من علق , وأنه بدلاً من الفودكا قد شرب (ديناميتاً) ينسف جسده والدار والحي برمته , وكأن رأسه وذراعيه ورجليه كلها يمزق ويطير في الهواء إلى جهنم !

ولبث طريحاً على الأرض الغرفة ثلاث دقائق لا حراك به ولاحس ولانفس , ثم نهض وساءل نفسه :
- أين أنا ؟
وكان أول ما أحس به لما عاد إلى صوابه رائحة شديدة من زيت الوقود المسمى (البارفين)
فقال في نفسه وملكه الرعب والجزع :
- يا الله ويا لقديسه وأولياه ! لقد شربت من البارفين بدل الفودكا.
ولما تبين له أنه قد سم نفسه عرته قشعريرة ما لبثت أن استحالت إلى حمى , واستدل على أن ما شربه سم بأشياء أخرى خلاف رائحة البارافين المستفيضة في
أرجاء الغرفة , كالهيب الذي كان يلذع لسانه وشفتيه , والبارقات المستطيرة أمامه والدقات الرنانة في رأسه والمغص المتسلط على أمعائه.

وكذلك لما أحس قرب يومه ودنو أجله , وانقطعت من الدنيا آماله وتمثل له شبح الموت لا ريب فيه ولا مناص منه – أراد أن يودع أقرب الناس إليه وأعزهم عليه – فعمد إلى مضجع العذراء داشنكا.

ودخل عليها الغرفة وهي في أعماق نومها , ورفع عقيرته بالأنين ينوح بصوت متوجع تتخلله الدموع :
(( داشنكا ! داشنكا ! عزيزتي داشنكا ! ))
فتقلب في الظلام شبح وتمتم بكلمات غير مبينة ثم تنهد.
- داشنكا ! داشنكا ! أختي داشنكا !
فارتفع صوت امرأة تقول بسرعة :
- إيه ! ماذا ؟ وماذا يا بيوتر بترفتش ؟ ما أسرع ما رجعت ! وماذا سمي المولود ؟ ومن عرابه ؟ وهل كان بالحفلة موسيقى ؟
- كان عرابه أندريفينا , وعرابته ناتاليا , ولكني أموت يا داشنكا ! إني أعاني سكرة الموت يا داشنكا ! – وقد أكلنا هنالك فطيرا ومكرونة – آه يا داشنكا إني في حالة النزع ! وقد سموا المولود أوليمبيادة , إني ... إني شربت بارافينا يا داشنكا !
- ما أظن أنهم يقدمون البارافين هنالك للضيوف كبعض المرطبات يا بيوتور !
- كلا يا داشنكا , وإنما الواقع هو أني – ولا أكذبك يا داشنكا – أردت أن أحسو قدحاً مما في خزانتك من فودكا دون اسـتئذانك , فانتقم لك الله مني فصب على سوط عذابه فألقى في يدي زجاجة البارافين بدلاً من الفودكا وقد شربت منها ... فماذا أصنع ؟
فلما سمعت داشنكا أن خزانتها قد فتحت بدون إذنها ازدادت تنبهاً واستيقاظاً .. ونفضت عن أعطافها غبار الكسل وثارت من مرقدها فأشعلت شمعة , وأقبلت تهرول في قميص النوم شنيعة المنظر قبيحة الشكل عجفاء رسحاء كلها جلد وعظام حتى بلغت الخزانة.
ثم صاحت بقسوة وغلظة وهي تفتش الخزانة :
- من أذنك أن تفتحها ؟ من أباحك أن تعبث بمكوناتها وتعيث فيها فساداً ؟ وهب أن بها زجاجة من الفودكا فهل تحسب أنها قد وضعت ثمت من أجلك ؟ ما أشد وقحتك وسماجتك وما أبردك !
قال بيوتر وانتكف العرق البارد عن جبينه :
- مهلاً يا داشنكا . تالله ما شربت فودكا ولكن بارافينا.
- ومالك والبارافين ؟ أي شيء يدعوك إلى مساس البارافين ؟ وهل كان البارافين قد وضع في الخزانة لأجلك وتحت تصرفك ؟ أم تحسب أن البارافين لا يشترى بالمال وأنه يسقط من السماء كالمطر أو ينبجس في أفنية الدور كالينابيع ؟ أتدري كم ثمن البارافين اليوم ؟ وغلى أي حد ارتفعت أسعاره ؟
فولول بيوتر وناح قائلاً :
- عزيزتي داشنكا ! إنها لمسألة حياة أو موت , تذكرين الأثمان والأسعار ! , انظري إلي بعين الرفق وهبيني من لدنك رحمة !
فصاحت داشنكا بصوت مزعج وأغلقت باب الخزانة بصدمة عنيفة :
لقد شرب الخمر حتى شربت الخمر عقله ثم جاء كالمجنون يعيث في الدار ويفسد , ويدس أنفه في الخزانة غيره , ياله من وغد خسيس وجان مجرم ومعتد أثيم, ويا ويح نفسي من أولئك الأشرار والفجار , لا أزال فريسة سطواتهم , وضحية غدراتهم , وهدف سهامهم في روحاتهم وغدراتهم , لا أخلو من شرهم ساعة واحدة لا ليلاً ولا نهاراً , نغص الله عليهم عيشهم في الحياة الدنيا , وأصلاهم في الأخرة نار جهنم َ! لأغادرن هذا الدار غداً , إني فتاة عذراء ولست أسمح لك أن تقف أمامي وأنت عار من أكثر ملابسك , وكيف تجترئ على أن تنظر إلي وليس على بدني سوى قميص النوم ؟

ولجت في غلوائها تسب وتلعن , ولما كان بيوتر يعلم أنه متى ثار شغبها وهاج غضبها فليس يسكن منه الدعوات ولا الرقى ولا الابتهالات , كلا ولا إطلاق مدفع في الهواء , طوح بيده يأساً وارتدى ملابسه وأزمع الذهاب غلى بعض الأطباء , ولكنك لن تجد الطبيب إلا منذ استغنائك عنه . فبعد أن اجتاز بيوتر سبعة شوارع وطرق أبواب خمسة أطباء بلا جدوى , أسرع إلى الصيدلية وقد حسب أنه ربما أصاب المنفعة عند الصيدلي . وبعد برهة خرج إليه رجل قصير دميم مجعد الشعر أسمر البشرة في جلباب النوم قد رنق في عينيه النعاس وعلى وجهه من أمارات البأس والوقار والهيبة والعقل والحكمة ما القلب روعة ورعباً .

وسأل بصوت ولهجة مما ليس يعهد إلا في متفلسفي الصيدليين وأجلائهم من طائفة إسرائيل :
- (ماذا تريد؟)
فقال بيوتر بصوت مبهور النفس لا يكاد ينبعث من حلقومه :
- ناشدتك الله ... سألتك بالله .. أغثني .. أعطيني شيئاً .. لقد شربت خطأ من زيت البارافين ... إني أموت !
- لا تهج أعصابك ! وأجب أسئلتي , فإن ثورانك يمنعني من فهم كلامك , تقول إنك شربت بارافينا ؟ نعم ؟
فمشى الصيدلي إلى مكتبه بكل جمود وبرود وفتح كتاباً وشرع يقرأ فيه باب المادة الطبية وبعد قراءة صفحتين هز إحدى كتفيه ثم الأخرى وكشر عن أنيابه وأطرق دقيقة ثم دخل الغرفة الملاصقة , ودقت الساعة أربعاً , ولما أشار عقربها إلى عشر دقائق بعد الأربع برز الصيدلي وفي يده كتاب آخر وانغمس ثانياً بين طياته, وقال بلهجة المتحير :
- إن كونك مريضاً لدليل على أنه قد كان من الواجب عليك أن تعمد إلى طبيب لا إلى صيدلي .
- ولكني قد عمدت إلى الأطباء فلم أستطع إيقاظهم .
- وكذلك لا تعدنا – نحن معشر الصيدليين – ضمن الأدميين , ولاتحسب أن لنا شعوراً وإحساساً , فأنت تقلق راحتنا وتنفر منا , في حين أن الكلاب البلد وسنانيرها تنال قسطها من النوم والراحة ... أنت لا تفهم شيئاً ولا تحاول أن تفهم , وفي نظرك أننا لسنا من دم ولحم ولكننا من صخر الأصم وأعصابنا من الفولاذ .
أنصت بيوتر إلى محاضرة الصيدلي ثم تنفس الصعداء وانطلق إلى منزله . وناجى نفسه قائلاً :
- وكذلك قد كتب على أن أموت , وإنا لله وإنا إليه راجعون !

وكان في حلقه لهيب وعلى لسانه مذاق البارافين في أحشائه نخسات ووخزات, وفي أذنيه دوى : بوم ... بوم ... بوم ... وفي كل لحظة كان يخيل إليه أنه جاء أجله وحان حتفه .
أسرع إلى البيت وتناول قلماً وقرطاساً فكتب ( لا يسأل أحد عن مصرعي ولا يؤخذ بمقتلي إنسان , أنا الذي جنيت على نفسي ) ثم أدى فريضة الصلاة وأصعد إلى عرش الله دعوات الاستغفار , ورقد وتغطى باللحاف ولبث يقظان حتى الصباح ينتظر ملك الموت , وجعل أثناء ذلك يتخيل قبره في بقعة خضراء يرف من حوله النور وتغرد فوقه العصافير .

وفي الصباح كان جالساً على فراشه سليماً معافى في عقله وبدنه آمناً مطمئناً أصح ما يكون وأسر وأشد ابتهاجاً .
وقال لصاحبته داشنكا وهو يبتسم :
- إن الرجل التقي الصالح الذي يؤمن بالله واليوم الأخر ليس تؤثر فيه السموم إن هو تجرعها خطأ يا أختي العزيزة , انظري إلي مثلاً , لقد أشرفت على الهلاك وقمت على حافة القبر , وعانيت سكرة الموت وألم النزع , وبعد كل هذا ترينني أمامك صحيحاً مسلماً , عدا لسعة في فمي وحرقة في حلقي , ولكني بخير والحمد لله ... ولماذا ؟ بفضل صلاحي واستقامتي .

قالت داشنكا وتنهدت وأخذت تفكر في غلاء الأسعار وتفقات العيش :
- ( كلا يا بيوتر ! إن عدم تأثير البارافين في أحشائك لا يرجع إلى صلاحك واستقامتك ولكن إلى كونه من صنف رديء مغشوش , ولم أستطع – يعلم الله – لضيق ذات يدي أن أشتري الصنف الأجود الأنقى , ولو اشتريت من ذاك لقطع أمعاءك وأوردك حتفك , وعلى فقري وفاقتي ومكابدتي الأمرين في سبيل إحرازي حاجياتي الضرورية أراك لا تتنزه ولا تتورع أن تسرق أشيائي , فياويلتي منك ومن سطواتك ! هلا تركتني وشأني ؟ هلا كففت عني من حدة بأسك وشرة بطشك ؟ هلا عففت عن زهيد أمتعتي ؟ ما أشقاني وما أبأسني وما أتعس حالي ! يا الله من أولئك الجبابرة الطغاة والشياطين المردة ! .. جزاكم في الدنيا شراً وفي الآخرة نقمة وعذاباً! .. يا عصبة السوء واللؤم ! .. )
واستمرت على هذا المنهج ...

Akhawia.net
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////

achelious
11/02/2009, 17:34
يسلمو كتير وائل ...
هاد الجزء مدري لمين عرتو .. وما عاد لقيتو :(

ناطر الكمالة :D
نورت أحمد ..:D