sona78
03/02/2009, 13:56
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
انتظر الفلسطينيّون مرسوم استملاك أراضي المخيّم القديم في نهر البارد، فأتاهم قرار إنشاء قاعدة بحرية على أنقاض المخيّم. إنّها واحدة من حلقات البؤس المستمرّ في ترقّب عودة مستحيلة إلى حياة سابقة، رغم الوعود الرسميّة المتكرّرة
غسان سعود
ذات يوم، أمطرت الدنيا قذائف. دكّت المدفعية كلّ شرايين الحياة: المنازل، الأسواق، المعامل، المدارس، الجوامع، الدكاكين، والأزقّة المتعرجة التي تربط بينها الشعارات المكتوبة على الجدران. إنّها ليست غزّة 2009. نحن في مخيّم نهر البارد، صيف 2007.
فبعد الكرنتينا وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا بعقود، استفاق سكّان البارد مذعورين ليكتشفوا أنّ هويّتهم ما زالت تهمتهم الجاهزة. هرعوا من المخيّم ـــــ المدينة إلى مخيّم آخر، من دون أن يحملوا شيئاً من صُورهم وذهبهم وتعبهم طوال نصف قرن. يومها، يقول أبناء المخيّم المنكوب، كان الناس مشغولين بالجيش ـــ الأسطورة، فلم يروّعهم ما روّعهم أمس في غزة، ولم ينتبهوا إلى عيون تلك الحاجّة التي كانت واثقة من أنّ خروج الفلسطينيّ لا تتبعه عودة أبداً. ولم يسمعوا ذاك الطفل يسأل عن المدرسة واللعبة والجيران. ولم يشاهدوا الرجال يبكون عزّة مدينة صنعوها بأنفسهم، ولم يسألوا عمّا سيفعله هؤلاء لاحقاً، لا بل «شُغلوا بتوفير الزيت المحروق لإحراق الأرض كاملة».
يومها، يقول أحد المسنّين، لم يصدّق وعد الرئيس فؤاد السنيورة بإعادة الناس إلى مخيّمهم إلا عباس زكي وخليل مكاوي وبعض الفلسطينيّين المتعمشقين بحلم استعادة حياتهم المستقرّة.
■ قاعدة بحريّة بدل الاستملاك
وها هي الأيّام تثبت أنّ تلك الوعود لم تكن تبحث عمّن يصدّقها. فمنذ أن بدأت عمليات جرف المنازل المختزنة لنصف قرن من حياة فلسطينيّي لبنان في مخيم البارد القديم في 9/ 10/ 2008، كان الناس ينتظرون إصدار الحكومة اللبنانية مرسوماً باستملاك أراضي المخيم القديم في خطوة أولى لبدء إعادة إعمار المخيم، تنفيذاً للوعود الرسميّة. لكنّ الجلسة الحكوميّة ما قبل الأخيرة فاجأت غالبية المترقّبين، إذ تضامن الوزراء مع أهالي غزّة ووافقوا في الوقت نفسه على إنشاء قاعدة بحريّة للجيش اللبناني ضمن حدود المخيّم القديم. وهكذا وجد فلسطينيّو البارد أنفسهم أمام واقع كانوا يسعون إلى تجاهله. وبموازاة صدمة إعلان قيام قاعدة عسكرية فوق أنقاض حياتهم السابقة، بدأت تتراكم معطيات كانت تتجمّع أمامهم منذ أشهر، لكنّ إيمانهم بحلم العودة منعهم من رؤيتها.
أمّا اليوم، بعد سقوط الوعود الورديّة، فيسجّل أهالي المخيّم عدّة نقاط تؤكّد استحالة عودة مخيّمهم إليهم:
أوّلاً، لم تتوافر بعد الأموال اللازمة لعمليّة إعادة الإعمار. ولا يبدو أنّ ثمة موعداً في الأفق لمؤتمر بهذا الشأن، فيما لم تدفع بعد منظمة التحرير مبلغ العشرة ملايين دولار الذي تعهّدت دفعه سابقاً. والأموال الموجودة اليوم لا تكفي لإعمار أكثر من رزمتين (الرزمة عبارة عن مجموعة مبانٍ يمكن أن تتّسع لخمسين شقّة)، علماً بأنّه كان يفترض البدء بإعمار الرزمة الأولى في بداية هذا الشهر، لكن «عدم انفجار الأجسام الكبيرة» حال دون ذلك، بحسب موظّفي الأونروا.
ثانياً، يدعو معظم مسؤولي الأونروا المقرّبين منهم إلى التأقلم مع المنازل المؤقّتة، على اعتبار أن «اللجوء كلّه مؤقّت». ويقول أحدهم في هذا السياق إن «الحكومة اللبنانيّة لم تدفع بعد التعويضات لمتضرّري حرب تموز، وهم لبنانيّون، فكيف بفلسطينيّي البارد «الغرباء»، وخصوصاً أنّ مأساتهم أجدّ من مأساة الجنوبيّين».
ثالثاً، حرص القيّمون على تنظيم عودة الفلسطينيّين إلى البارد على توزيع هؤلاء إلى مجموعات صغيرة مشتّتة «تفصل بينها مساحات كبيرة تمنع إعادة اللحمة الاجتماعية ــ الاقتصادية بينهم».
رابعاً، يمضي الجيش اللبناني في «حصاره للمخيّم بما يقطع الطريق على أية فرصة لاستعادته نفَسَه الاقتصادي». ولا شيء يشير إلى نيّة الجيش رفع الحصار قريباً.
إزاء هذه النقاط الأربع التي يعدّدها أبناء المخيّم، تحاول الأجهزة الأمنيّة التخفيف من النقمة تجاه إقامة القاعدة البحريّة، مشيرةً إلى أنّ القاعدة ستقام في منطقة مصبّ نهر البارد من جهة الجنوب، ما يجعل تأثيرها أقلّ سلبيّة ممّا إذا أقيمت في منطقة مصبّ النهر شمالاً حيث شاطئ المخيم القديم.
لكنّ الأمر يثير نقمةً فلسطينيّة عارمة. فبعد أن أُقفِل البرّ بوجههم، ثمة من يسعى اليوم إلى إغلاق نافذة البحر. ويشير الأهالي في هذا السياق إلى أن المشكلة ليست بالقاعدة العسكرية في حد ذاتها، بل بالإجراءات الأمنية المتعبة التي ستحيط بها، إضافة إلى كون «المنطق العسكري يفرض منع الجيش اقتراب الناس من الشاطئ مسافة طويلة من يمين القاعدة ويسارها».
■ جزيرة معزولة وتجارة مستحيلة
يبدو واضحاً كيفما تنقّل الزائر في المخيم أنّ الناس حذرون جداً في كلامهم على الجيش اللبناني، وهم قبل توجيه أي انتقاد للإجراءات الأمنية المتّبعة، والإصرار على إبقاء المخيم منطقة عسكرية، يتلفتون يمنةً ويسرة ليتأكدوا من أن لا أحد يراقبهم، ويدخلون بين عباراتهم مفردات فلسطينية جديدة عن «احترام سيادة القرارات اللبنانية»، و«التعاطي بمسؤولية مع الجيش»، و«تفهم رد الفعل على بشاعة غدر فتح الإسلام بالعسكريين».
إلا أنّ ثمّة سؤالاً أساسيّاً يهجس به فلسطينيّو البارد، يتعلّق بخلفية إبقائهم محاصرين، فالوضع أشبه بجزيرة معزولة عن محيطها، ما يبقي الناس أسرى فقر لا يستطيعون الخروج منه ليباشروا إعمار ما تهدّم بأنفسهم دون اتكال على أحد، كما تقول إحدى السيدات. فالمخيّم، كما تشرح سيّدة أخرى، كان طوال السنوات الماضية الشريان الاقتصادي الأهم في منطقتي عكار والمنية. وقد أدى استقراره الاقتصادي إلى استقرار أمني حال دون أن تلتصق شبهات أمنيّة به، قبل وصول فتح الإسلام إليه.
ويظهر من التجوال في المخيم الجديد أن ثمة شوقاً لاستعادة المجد التجاري الغابر. فتتوزع على جانبي الطريق التي أعادت الأونروا تزفيت جزء منها محالّ تجارية صغيرة بعضها يبيع الأدوات الكهربائية، وبعضها يعرض فرشاً، وبعضها مواد بناء «أمكن إدخالها بصعوبة».
إلا أنّ الدولة، كما يبدو، لا تسهّل الأمر. فالحصار المفروض على المخيم يمنع إعادة الحياة التجارية إليه رغم الأعمال المتفرقة التي يؤديها العائدون بجهد شخصي يتّكل على بعض الدعم المالي». ويسجّل الناس في هذا السياق عدم دفع أية تعويضات جرّاء الخسائر الاقتصادية، رغم توثيقها بصدقية كبيرة على حد قول مسؤولين في الأونروا، فيما يدفع الحصار معظم كبار التجار إلى فتح مؤسسات جديدة بعيداً عن المخيم، حيث لن يستطيعوا أن يبيعوا إلا أبناء المخيم الذين لا يملكون أصلاً أية أموال. ويذكر في هذا السياق أن الأونروا والمؤسسات العاملة في البارد عمدت بدل التشجيع على تنشيط الحياة التجارية في المخيم إلى التضييق على الراغبين بمباشرة العمل من خلال ربط دعمها المادي (ستة آلاف دولار في أقصى حد) بأن يثبت هؤلاء أنهم كانوا تجاراً سابقاً وأن يبادروا إلى فتح مؤسساتهم الجديدة قبل حصولهم على المبلغ المنتظر. وهكذا، يحول الحصار وشروط الأونروا دون إعادة الاعتبار للسوق التجاري.
وثمة من يشير أيضاً إلى أن لبنانيّين كثيرين كانوا طوال سنوات يستدينون من تجار المخيم، لكن فور تهجير هؤلاء واستهداف مصالحهم، تبرّأ العكاريون ممّا يدينون به تجاههم، وطبعاً لم تتحرك المراجع اللبنانية المعنية لاستعادة حقوق الفلسطينيين على اعتبار أنها «مجرد حقوق فلسطينية أخرى».
■ الزمن الجميل ومصادر الدخل
قبل حرب البارد، كان أطفال عكار يحلمون بمرافقة أهلهم إلى المخيم حيث العالم الجميل: دراجات هوائية، ألعاب غير باهظة الثمن، بوظة لذيذة، سمسمية، وفستقية، وغزل البنات على مدِّ النظر. وكانت نساء عكار يواظبن على زيارة المخيم حيث سوق الذهب والفضة الأكبر في الشمال، وحيث القطنيات المستوردة من مختلف أنحاء العالم إلى المخيّم مباشرة. اليوم، لم يعد دخول المخيم ممكناً لهؤلاء، فهو حتى إشعار آخر منطقة عسكريّة يستحيل دخولها بدون تصريح من استخبارات الجيش، علماً بأنّ هذا التصريح لا يُعطى إلا لمن يثبت سكنه داخل المخيم المحاصر بحيث يُدَقَّق بكل ما يدخله ويخرج منه، حتى معلبات الطعام.
وفي انتظار رفع «الحصار البري والبحري وفتح المعابر» أمام كل من يشاء زيارة المخيم، كيف يعيش الفلسطينيون، ومن أين يأتون بالأموال؟
مصدر الدخل الأساسي لفلسطينيي البارد هو الأونروا التي توفّر فرص عمل تشمل قرابة 500 موظّف ثابت يعملون في مدارس الأونروا وهيئاتها المختلفة، يضاف إليهم موظّفون يوميّون يعملون في مشاريع الإسكان المؤقّت وترميم البنى التحتيّة والمدارس. وهناك طبعاً بعض الرواتب التي تدفعها حركة فتح لمن تصفهم بالمقاتلين. إلى جانب الأونروا، ثمّة مشاريع متفرقة تقيمها الجمعيات وتوظف فيها أبناء المخيم، مثل مشروع «المال مقابل العمل» الذي تشرف عليه جمعية «النجدة» والذي يوفّر فرص عمل شهرية لـ 1373 شخصاً، من دون أن يُسمَح للشخص نفسه بأن يعمل شهرين متتاليين. ومع بداية النزوح الجديد، عمل البعض نواطير لمبانٍ في طرابلس أو عمّال بناء.
■ «زارنا العالم كلّه ولم نرَ نتيجة»
لقد ساوى الانتماء ــ الشبهة بين الغني والفقير في المخيّم، وعادوا جميعاً ستّين عاماً إلى الوراء: أطفال يملأ الفقر وجوههم وثيابهم وحتّى كلامهم (لم يحظَ الأطفال بأيّة متابعة نفسيّة، وتتفاقم وسطهم حالات الانهيار التي لا تجد اهتماماً من المؤسسات الدولية التي تتابع عادة حالات كهذه)، رجال تحبطهم البطالة فيبدون غير مبالين بالأسئلة، سواء كانت لصحيفة أو لجمعية، فخلال الشهور الماضية «زارنا العالم كله ليسأل عن حالنا، ولم نرَ نتيجة لأجوبتنا»، والنسوة اللواتي كنَّ يفخرن بمبروماتهن الذهبيّة، يشعرن اليوم بالانكسار. تشير إحداهن إلى نفسها قبل أن تردّد: «تسأل عن حالنا... هل أنت أعمى؟».
ويتكامل مشهد الناس مع معالم المعركة الماثلة فوق رؤوسهم أنقاضاً لمنازل ومتاجر وضعوا فيها جنى العمر. أكوام ركام منسي، طرقات شُقّت فوق خريطة المكان القديمة فضيّعت كل الوجهات. ويبدو واضحاً أن من يرمّم منزله إنما يفعل ذلك «بدون نفس»، كأنه، على حد قول أحد الشبان، يتمسك بالحياة غصباً عنه. وبحسب شاب آخر، فإن جيله ولد وترعرع في بيئة محترمة، لكنه فجأة وجد نفسه يواجه إذلالاً سمع من أهله الكثير عنه.
وبحسب الأرقام المتداولة، يتبيّن أنّه من أصل 5250 عائلة هجِّرت من مخيّمي البارد القديم والجديد، عادت حتى اليوم 416 عائلة إلى الوحدات الجديدة التي أنشأتها الأونروا. ويتوزع هؤلاء على ثلاث مجموعات (105 عائلات في تجمّع، 95 عائلة في تجمّع آخر، و216 عائلة في التجمّع الثالث). والمنازل التي يشبّهها أهل المخيّم بعلب السردين لا تشبه المنازل التي يعرفها الناس عادة، فغالبيتها مصنوعة من حديد دون عازل ودون وسائل تدفئة أو تبريد، الأمر الذي يجعلها فائقة الحر صيفاً وشديدة البرودة شتاءً. ومساحة الوحدة (كل 5 أفراد يعيشون في وحدة) 16 متراً. وضمن الوحدة التي تتألف من غرفة واحدة تعيش العائلة كلها، الأب والأم ضمناً، الأمر الذي «يمنع المتزوجين من إقامة علاقات جنسية مثلاً» وسط ترداد الناس أن «الأونروا تمهّد لخصينا». أمّا الكهرباء، فلا تكفي لإضاءة بضع لمبات، ما يضطر معظمهم إلى تسخين المياه للاستحمام وإعداد الطعام على الحطب، وخصوصاً أن ثمن الغاز غير متوافر. ويبقى المشهد الأكثر قسوةً، اصطفاف قرابة ألف رجل وامرأة يوميّاً قبالة أحد مكاتب منظمة التحرير للحصول على وجبة طعام تقدّمها مؤسّسة الحريري.
يوضح مسؤولو الأونروا أنّه يجري الآن وضع اللمسات الأخيرة على وحدات جديدة في منطقة العبدة، يُفترض أن تستقبل 232 عائلة ابتداءً من منتصف شباط المقبل. وقد استحدثت الأونروا أيضاً ثلاث مدارس قريبة من التجمّعات السكانية الثلاثة الأساسية في بحنين، محمرة، والعبدة ينطبق عليها ما ينطبق على المنازل الحديديّة لجهة الحجم.
إضافة إلى سكان الوحدات الجديدة، عادت قرابة ألف عائلة إلى منازل في المخيم الجديد أمكن إصلاح بعض غرفها. وقد عمد فلسطينيّون كثيرون إلى تحويل المخازن إلى مساكن خاصة (يُقدَّر عدد المخازن ــ المساكن بثمانمئة). كذلك استأجرت الأونروا ثلاثة مبانٍ داخل المخيم الجديد ورمّمتها، هي بناية العكي، بناية الأمل، وبناية السيِّد.
وفيما لا يزال هناك 1500 عائلة في مخيم البداوي والمباني المجاورة له، استأجرت 400 عائلة مساكن في مناطق مجاورة لمخيم نهر البارد، وخصوصاً في المنية والمحمرة وبحنين. وتدفع الأونروا بدل الإيجارات، لكن ضمن شروط صارمة. وثمة من يقول إن هناك قرابة سبعين عائلة غادرت الشمال صوب مخيّمات بيروت، وربما مخيمات صيدا وصور أيضاً.
ماذا بعد؟ قاعدة جوية، وربما ملاعب تنس أو ملعب كرة قدم مع مدرجات... المهم أن لا يعود الفلسطينيّون إلى حياتهم السابقة في هذه البقعة من العالم.
انتظر الفلسطينيّون مرسوم استملاك أراضي المخيّم القديم في نهر البارد، فأتاهم قرار إنشاء قاعدة بحرية على أنقاض المخيّم. إنّها واحدة من حلقات البؤس المستمرّ في ترقّب عودة مستحيلة إلى حياة سابقة، رغم الوعود الرسميّة المتكرّرة
غسان سعود
ذات يوم، أمطرت الدنيا قذائف. دكّت المدفعية كلّ شرايين الحياة: المنازل، الأسواق، المعامل، المدارس، الجوامع، الدكاكين، والأزقّة المتعرجة التي تربط بينها الشعارات المكتوبة على الجدران. إنّها ليست غزّة 2009. نحن في مخيّم نهر البارد، صيف 2007.
فبعد الكرنتينا وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا بعقود، استفاق سكّان البارد مذعورين ليكتشفوا أنّ هويّتهم ما زالت تهمتهم الجاهزة. هرعوا من المخيّم ـــــ المدينة إلى مخيّم آخر، من دون أن يحملوا شيئاً من صُورهم وذهبهم وتعبهم طوال نصف قرن. يومها، يقول أبناء المخيّم المنكوب، كان الناس مشغولين بالجيش ـــ الأسطورة، فلم يروّعهم ما روّعهم أمس في غزة، ولم ينتبهوا إلى عيون تلك الحاجّة التي كانت واثقة من أنّ خروج الفلسطينيّ لا تتبعه عودة أبداً. ولم يسمعوا ذاك الطفل يسأل عن المدرسة واللعبة والجيران. ولم يشاهدوا الرجال يبكون عزّة مدينة صنعوها بأنفسهم، ولم يسألوا عمّا سيفعله هؤلاء لاحقاً، لا بل «شُغلوا بتوفير الزيت المحروق لإحراق الأرض كاملة».
يومها، يقول أحد المسنّين، لم يصدّق وعد الرئيس فؤاد السنيورة بإعادة الناس إلى مخيّمهم إلا عباس زكي وخليل مكاوي وبعض الفلسطينيّين المتعمشقين بحلم استعادة حياتهم المستقرّة.
■ قاعدة بحريّة بدل الاستملاك
وها هي الأيّام تثبت أنّ تلك الوعود لم تكن تبحث عمّن يصدّقها. فمنذ أن بدأت عمليات جرف المنازل المختزنة لنصف قرن من حياة فلسطينيّي لبنان في مخيم البارد القديم في 9/ 10/ 2008، كان الناس ينتظرون إصدار الحكومة اللبنانية مرسوماً باستملاك أراضي المخيم القديم في خطوة أولى لبدء إعادة إعمار المخيم، تنفيذاً للوعود الرسميّة. لكنّ الجلسة الحكوميّة ما قبل الأخيرة فاجأت غالبية المترقّبين، إذ تضامن الوزراء مع أهالي غزّة ووافقوا في الوقت نفسه على إنشاء قاعدة بحريّة للجيش اللبناني ضمن حدود المخيّم القديم. وهكذا وجد فلسطينيّو البارد أنفسهم أمام واقع كانوا يسعون إلى تجاهله. وبموازاة صدمة إعلان قيام قاعدة عسكرية فوق أنقاض حياتهم السابقة، بدأت تتراكم معطيات كانت تتجمّع أمامهم منذ أشهر، لكنّ إيمانهم بحلم العودة منعهم من رؤيتها.
أمّا اليوم، بعد سقوط الوعود الورديّة، فيسجّل أهالي المخيّم عدّة نقاط تؤكّد استحالة عودة مخيّمهم إليهم:
أوّلاً، لم تتوافر بعد الأموال اللازمة لعمليّة إعادة الإعمار. ولا يبدو أنّ ثمة موعداً في الأفق لمؤتمر بهذا الشأن، فيما لم تدفع بعد منظمة التحرير مبلغ العشرة ملايين دولار الذي تعهّدت دفعه سابقاً. والأموال الموجودة اليوم لا تكفي لإعمار أكثر من رزمتين (الرزمة عبارة عن مجموعة مبانٍ يمكن أن تتّسع لخمسين شقّة)، علماً بأنّه كان يفترض البدء بإعمار الرزمة الأولى في بداية هذا الشهر، لكن «عدم انفجار الأجسام الكبيرة» حال دون ذلك، بحسب موظّفي الأونروا.
ثانياً، يدعو معظم مسؤولي الأونروا المقرّبين منهم إلى التأقلم مع المنازل المؤقّتة، على اعتبار أن «اللجوء كلّه مؤقّت». ويقول أحدهم في هذا السياق إن «الحكومة اللبنانيّة لم تدفع بعد التعويضات لمتضرّري حرب تموز، وهم لبنانيّون، فكيف بفلسطينيّي البارد «الغرباء»، وخصوصاً أنّ مأساتهم أجدّ من مأساة الجنوبيّين».
ثالثاً، حرص القيّمون على تنظيم عودة الفلسطينيّين إلى البارد على توزيع هؤلاء إلى مجموعات صغيرة مشتّتة «تفصل بينها مساحات كبيرة تمنع إعادة اللحمة الاجتماعية ــ الاقتصادية بينهم».
رابعاً، يمضي الجيش اللبناني في «حصاره للمخيّم بما يقطع الطريق على أية فرصة لاستعادته نفَسَه الاقتصادي». ولا شيء يشير إلى نيّة الجيش رفع الحصار قريباً.
إزاء هذه النقاط الأربع التي يعدّدها أبناء المخيّم، تحاول الأجهزة الأمنيّة التخفيف من النقمة تجاه إقامة القاعدة البحريّة، مشيرةً إلى أنّ القاعدة ستقام في منطقة مصبّ نهر البارد من جهة الجنوب، ما يجعل تأثيرها أقلّ سلبيّة ممّا إذا أقيمت في منطقة مصبّ النهر شمالاً حيث شاطئ المخيم القديم.
لكنّ الأمر يثير نقمةً فلسطينيّة عارمة. فبعد أن أُقفِل البرّ بوجههم، ثمة من يسعى اليوم إلى إغلاق نافذة البحر. ويشير الأهالي في هذا السياق إلى أن المشكلة ليست بالقاعدة العسكرية في حد ذاتها، بل بالإجراءات الأمنية المتعبة التي ستحيط بها، إضافة إلى كون «المنطق العسكري يفرض منع الجيش اقتراب الناس من الشاطئ مسافة طويلة من يمين القاعدة ويسارها».
■ جزيرة معزولة وتجارة مستحيلة
يبدو واضحاً كيفما تنقّل الزائر في المخيم أنّ الناس حذرون جداً في كلامهم على الجيش اللبناني، وهم قبل توجيه أي انتقاد للإجراءات الأمنية المتّبعة، والإصرار على إبقاء المخيم منطقة عسكرية، يتلفتون يمنةً ويسرة ليتأكدوا من أن لا أحد يراقبهم، ويدخلون بين عباراتهم مفردات فلسطينية جديدة عن «احترام سيادة القرارات اللبنانية»، و«التعاطي بمسؤولية مع الجيش»، و«تفهم رد الفعل على بشاعة غدر فتح الإسلام بالعسكريين».
إلا أنّ ثمّة سؤالاً أساسيّاً يهجس به فلسطينيّو البارد، يتعلّق بخلفية إبقائهم محاصرين، فالوضع أشبه بجزيرة معزولة عن محيطها، ما يبقي الناس أسرى فقر لا يستطيعون الخروج منه ليباشروا إعمار ما تهدّم بأنفسهم دون اتكال على أحد، كما تقول إحدى السيدات. فالمخيّم، كما تشرح سيّدة أخرى، كان طوال السنوات الماضية الشريان الاقتصادي الأهم في منطقتي عكار والمنية. وقد أدى استقراره الاقتصادي إلى استقرار أمني حال دون أن تلتصق شبهات أمنيّة به، قبل وصول فتح الإسلام إليه.
ويظهر من التجوال في المخيم الجديد أن ثمة شوقاً لاستعادة المجد التجاري الغابر. فتتوزع على جانبي الطريق التي أعادت الأونروا تزفيت جزء منها محالّ تجارية صغيرة بعضها يبيع الأدوات الكهربائية، وبعضها يعرض فرشاً، وبعضها مواد بناء «أمكن إدخالها بصعوبة».
إلا أنّ الدولة، كما يبدو، لا تسهّل الأمر. فالحصار المفروض على المخيم يمنع إعادة الحياة التجارية إليه رغم الأعمال المتفرقة التي يؤديها العائدون بجهد شخصي يتّكل على بعض الدعم المالي». ويسجّل الناس في هذا السياق عدم دفع أية تعويضات جرّاء الخسائر الاقتصادية، رغم توثيقها بصدقية كبيرة على حد قول مسؤولين في الأونروا، فيما يدفع الحصار معظم كبار التجار إلى فتح مؤسسات جديدة بعيداً عن المخيم، حيث لن يستطيعوا أن يبيعوا إلا أبناء المخيم الذين لا يملكون أصلاً أية أموال. ويذكر في هذا السياق أن الأونروا والمؤسسات العاملة في البارد عمدت بدل التشجيع على تنشيط الحياة التجارية في المخيم إلى التضييق على الراغبين بمباشرة العمل من خلال ربط دعمها المادي (ستة آلاف دولار في أقصى حد) بأن يثبت هؤلاء أنهم كانوا تجاراً سابقاً وأن يبادروا إلى فتح مؤسساتهم الجديدة قبل حصولهم على المبلغ المنتظر. وهكذا، يحول الحصار وشروط الأونروا دون إعادة الاعتبار للسوق التجاري.
وثمة من يشير أيضاً إلى أن لبنانيّين كثيرين كانوا طوال سنوات يستدينون من تجار المخيم، لكن فور تهجير هؤلاء واستهداف مصالحهم، تبرّأ العكاريون ممّا يدينون به تجاههم، وطبعاً لم تتحرك المراجع اللبنانية المعنية لاستعادة حقوق الفلسطينيين على اعتبار أنها «مجرد حقوق فلسطينية أخرى».
■ الزمن الجميل ومصادر الدخل
قبل حرب البارد، كان أطفال عكار يحلمون بمرافقة أهلهم إلى المخيم حيث العالم الجميل: دراجات هوائية، ألعاب غير باهظة الثمن، بوظة لذيذة، سمسمية، وفستقية، وغزل البنات على مدِّ النظر. وكانت نساء عكار يواظبن على زيارة المخيم حيث سوق الذهب والفضة الأكبر في الشمال، وحيث القطنيات المستوردة من مختلف أنحاء العالم إلى المخيّم مباشرة. اليوم، لم يعد دخول المخيم ممكناً لهؤلاء، فهو حتى إشعار آخر منطقة عسكريّة يستحيل دخولها بدون تصريح من استخبارات الجيش، علماً بأنّ هذا التصريح لا يُعطى إلا لمن يثبت سكنه داخل المخيم المحاصر بحيث يُدَقَّق بكل ما يدخله ويخرج منه، حتى معلبات الطعام.
وفي انتظار رفع «الحصار البري والبحري وفتح المعابر» أمام كل من يشاء زيارة المخيم، كيف يعيش الفلسطينيون، ومن أين يأتون بالأموال؟
مصدر الدخل الأساسي لفلسطينيي البارد هو الأونروا التي توفّر فرص عمل تشمل قرابة 500 موظّف ثابت يعملون في مدارس الأونروا وهيئاتها المختلفة، يضاف إليهم موظّفون يوميّون يعملون في مشاريع الإسكان المؤقّت وترميم البنى التحتيّة والمدارس. وهناك طبعاً بعض الرواتب التي تدفعها حركة فتح لمن تصفهم بالمقاتلين. إلى جانب الأونروا، ثمّة مشاريع متفرقة تقيمها الجمعيات وتوظف فيها أبناء المخيم، مثل مشروع «المال مقابل العمل» الذي تشرف عليه جمعية «النجدة» والذي يوفّر فرص عمل شهرية لـ 1373 شخصاً، من دون أن يُسمَح للشخص نفسه بأن يعمل شهرين متتاليين. ومع بداية النزوح الجديد، عمل البعض نواطير لمبانٍ في طرابلس أو عمّال بناء.
■ «زارنا العالم كلّه ولم نرَ نتيجة»
لقد ساوى الانتماء ــ الشبهة بين الغني والفقير في المخيّم، وعادوا جميعاً ستّين عاماً إلى الوراء: أطفال يملأ الفقر وجوههم وثيابهم وحتّى كلامهم (لم يحظَ الأطفال بأيّة متابعة نفسيّة، وتتفاقم وسطهم حالات الانهيار التي لا تجد اهتماماً من المؤسسات الدولية التي تتابع عادة حالات كهذه)، رجال تحبطهم البطالة فيبدون غير مبالين بالأسئلة، سواء كانت لصحيفة أو لجمعية، فخلال الشهور الماضية «زارنا العالم كله ليسأل عن حالنا، ولم نرَ نتيجة لأجوبتنا»، والنسوة اللواتي كنَّ يفخرن بمبروماتهن الذهبيّة، يشعرن اليوم بالانكسار. تشير إحداهن إلى نفسها قبل أن تردّد: «تسأل عن حالنا... هل أنت أعمى؟».
ويتكامل مشهد الناس مع معالم المعركة الماثلة فوق رؤوسهم أنقاضاً لمنازل ومتاجر وضعوا فيها جنى العمر. أكوام ركام منسي، طرقات شُقّت فوق خريطة المكان القديمة فضيّعت كل الوجهات. ويبدو واضحاً أن من يرمّم منزله إنما يفعل ذلك «بدون نفس»، كأنه، على حد قول أحد الشبان، يتمسك بالحياة غصباً عنه. وبحسب شاب آخر، فإن جيله ولد وترعرع في بيئة محترمة، لكنه فجأة وجد نفسه يواجه إذلالاً سمع من أهله الكثير عنه.
وبحسب الأرقام المتداولة، يتبيّن أنّه من أصل 5250 عائلة هجِّرت من مخيّمي البارد القديم والجديد، عادت حتى اليوم 416 عائلة إلى الوحدات الجديدة التي أنشأتها الأونروا. ويتوزع هؤلاء على ثلاث مجموعات (105 عائلات في تجمّع، 95 عائلة في تجمّع آخر، و216 عائلة في التجمّع الثالث). والمنازل التي يشبّهها أهل المخيّم بعلب السردين لا تشبه المنازل التي يعرفها الناس عادة، فغالبيتها مصنوعة من حديد دون عازل ودون وسائل تدفئة أو تبريد، الأمر الذي يجعلها فائقة الحر صيفاً وشديدة البرودة شتاءً. ومساحة الوحدة (كل 5 أفراد يعيشون في وحدة) 16 متراً. وضمن الوحدة التي تتألف من غرفة واحدة تعيش العائلة كلها، الأب والأم ضمناً، الأمر الذي «يمنع المتزوجين من إقامة علاقات جنسية مثلاً» وسط ترداد الناس أن «الأونروا تمهّد لخصينا». أمّا الكهرباء، فلا تكفي لإضاءة بضع لمبات، ما يضطر معظمهم إلى تسخين المياه للاستحمام وإعداد الطعام على الحطب، وخصوصاً أن ثمن الغاز غير متوافر. ويبقى المشهد الأكثر قسوةً، اصطفاف قرابة ألف رجل وامرأة يوميّاً قبالة أحد مكاتب منظمة التحرير للحصول على وجبة طعام تقدّمها مؤسّسة الحريري.
يوضح مسؤولو الأونروا أنّه يجري الآن وضع اللمسات الأخيرة على وحدات جديدة في منطقة العبدة، يُفترض أن تستقبل 232 عائلة ابتداءً من منتصف شباط المقبل. وقد استحدثت الأونروا أيضاً ثلاث مدارس قريبة من التجمّعات السكانية الثلاثة الأساسية في بحنين، محمرة، والعبدة ينطبق عليها ما ينطبق على المنازل الحديديّة لجهة الحجم.
إضافة إلى سكان الوحدات الجديدة، عادت قرابة ألف عائلة إلى منازل في المخيم الجديد أمكن إصلاح بعض غرفها. وقد عمد فلسطينيّون كثيرون إلى تحويل المخازن إلى مساكن خاصة (يُقدَّر عدد المخازن ــ المساكن بثمانمئة). كذلك استأجرت الأونروا ثلاثة مبانٍ داخل المخيم الجديد ورمّمتها، هي بناية العكي، بناية الأمل، وبناية السيِّد.
وفيما لا يزال هناك 1500 عائلة في مخيم البداوي والمباني المجاورة له، استأجرت 400 عائلة مساكن في مناطق مجاورة لمخيم نهر البارد، وخصوصاً في المنية والمحمرة وبحنين. وتدفع الأونروا بدل الإيجارات، لكن ضمن شروط صارمة. وثمة من يقول إن هناك قرابة سبعين عائلة غادرت الشمال صوب مخيّمات بيروت، وربما مخيمات صيدا وصور أيضاً.
ماذا بعد؟ قاعدة جوية، وربما ملاعب تنس أو ملعب كرة قدم مع مدرجات... المهم أن لا يعود الفلسطينيّون إلى حياتهم السابقة في هذه البقعة من العالم.