self directive
26/01/2009, 16:31
بقلم : self directive
إنّ الإنسان مذ كان جنيناً , يعيش نظام علاقاتٍ يعرّف ذاته و يحدّد هويّته من خلالها , فهي تحدّد توجّهات حاجاته و رغباته العاطفيّة و الجنسيّة و تحدّد مستوى نضجها . فالنضج العاطفيّ و القدرة على الإرتباط الوثيق الذي يحمل الرضى و التوافق , و النضج الجنسيّ الذي يحمل الإشباعات و يعزّز الرباط الزوجيّ , ليسا مسألتين حتميّتين تُعطَيان بيولوجيّاّ و يكفي مجرّد النضج الجسمي لضمان نجاحهما و فاعليّتهما . إنّهما نتاج الصحّة الجسميّة بالطبع , إلاّ أنّهما يتشكّلان في سوائهما و اضطرابهما بالتاريخ الشخصيّ بكلّ محمولاته العلائقيّة . فمستوى الرشد العاطفيّ – الجنسيّ هو مسألة تتعرّض للعديد من المتغيّرات و الخبرات الوجدانيّة و العلائقيّة في إيجابيّاتها و سلبيّاتها , و تكون في فرادتها الشخصيّة محصّلةً لها .
لا يصدق ذلك على الإنسان وحده , بما هو كائنٌ اجتماعيّ ينشأ و ينمو و ينشط في علاقاتٍ , بل يصدق أيضاً و بنفس المقدار على الحيوانات العليا التي تُعتبَر محكومة بالغريزة و إمكانات الرصيد الوراثيّ و خصائصه . فهي تعيش خبرات حسّيّة حركيّة تواصليّة تفاعليّة توصلها إلى نضجها الجنسيّ و قدرتها على التكاثر و التزاوج و الإنتماء . و لقد تعدّدت التجارب التي ُفصل فيها الصغار عن أمّهاتهم منذ ميلادهم , و توافقت نتائج تلك التجارب على أنّ هذا الإنفصال يهدّد حياتها ذاتها , كما ينعكس اضطراباً على سلوكها التزاوجيّ حين الوصول إلى مرحلة النضوج الجسميّ . و إذا كان هذا شأن الثديّات فإنّه من البديهيّ أن يكون شأن الإنسان المنخرط في علاقات أكثر غنى و تعقيداً بما لا يُقاس .
من المعروف أنّ الرباط الزوجيّ قادر على تصحيح و علاج الكثير من الإضطرابات الطفيفة , و ذلك إن حدث تكامل بين دوافع و رغبات الزوجين . كما أنّ هذا الرباط ذاته قد يفاقم من هذه الإضطرابات إذا لم يحدث مثل هذا التلاقي في الدوافع و الرغبات بين الطرفين .
و هذا يفسّر لنا لماذا يفشل رباط زوجيّ بين شخصين ناضجين جسميّاً و عاطفيّاً , بينما ينجح رباطٌ آخر مع شخص آخر .
قام العلماء بدراسة النضج العاطفيّ الجنسيّ و قواه المحرّكة و اتّجاهاته المتباينة من خلال نظريّتين هما النظريّة السيكوديناميّة , و نظريّة التعلّق , اللتان وضّحتا تكوّن الرباط الإنسانيّ و نضج العلاقات العاطفيّة- الجنسيّة و اضطراباتهما , و ما يسندهما من رغبات و هوامات و دلالات و ديناميّات .
نظريّة التعلّق :
تبيّن الأهمّيّة المحوريّة للرباط العاطفيّ مع الأمّ في مرحلة الطفولة الأولى في النضج النفسيّ . فإذا حظي الطفل بالقبول غير المشروط و الرعاية في علاقةٍ وثيقة و مستقرّة مع الأمّ , تتكوّن لديه الطمأنينة القاعديّة, و ينمو المفهوم الإيجابيّ عن الذّات و العلاقات و الدنيا عموماً . فيصبح بذلك قادراً على الإنفتاح الإيجابيّ على العالم , و يبدي المبادرة و يتمكّن من الوصول إلى الإستقلاليّة, كما تنمو ثقته بنفسه و بالآخرين . و هو ما يُطلِق عمليّة نموّه العاطفيّ و الإجتماعيّ و المعرفيّ سواءٌ بسواء . و بالتالي فإنّ متانة الروابط الأوّليّة مع الأمّ ثمّ مع الوالدين و الأهل التي تصنع أسس النضج النفسيّ ’ هي ذاتها التي توفّر شروط النضج العاطفيّ الجنسيّ , باعتبارهما ارتباط إنسانيّ في المقام الأوّل .
و في المقابل فحالات الإنفصال عن الأمّ في سنوات العمر الأولى الحرجة , أو تدنّي نوعيّة العلاقة العاطفيّة معها و مع الأشخاص الذين يعتنون بالطفل , تبيّن الآثار اللاحقة على مستوى النضج العاطفيّ الجنسيّ . إذ يتّضح ذلك من الدراسة الإكلينيكيّة للأطفال الذين نشأوا في ملاجئ لا توفّر الروابط المتينة مع بدائل الأمّ . و يُلاحَظ على هؤلاء استمرار حالة من التبعيّة الطفليّة حين يكبرون تبعاً لدرجة الحرمان . كما يُلاحَظ عليهم قصورٌ في قدرتهم على إقامة روابط عاطفيّة و جنسيّة ناضجة و راشدة . و يتّخذ الحرمان العاطفيّ خلال سنوات المراهقة إمّا طابع عدم الإكتراث الملفت للنظر بالأمور الجنسيّة و الرغبة في المعرفة حولها , أو على العكس يتّخذ طابع الإفراط في الإثارة الجنسيّة التي تهدف في المقام الأوّل إلى البحث عن تلقّي الحنان و العطف و الإهتمام , إضافةً إلى ما توفّره هذه الإثارة من عزاء و سلوى تعوض عن الفراغ الوجوديّ الملازم لقلق الإنفصال .
هنا نحن بصدد إثارة قهريّة تبحث عن التعويض العاطفيّ . و هو مايجعل هؤلاء الناشئين ضحايا جنسيّة محتمَلة من قِبَلِ المستغلّين ليس بدافع الإشباع الجنسيّ , بل بدافع البحث عن الحبّ . و هذا قصورٌ في النضج أكثر ممّا هو نضجٌ مبكّر , تنعكس آثاره على الرباط الزوجيّ لاحقاً .
كما أنّ التعرّض لصدماتٍ عاطفيّة في الطفولة من مثل الفقدان المفجع لأحد الوالدين , أو التعرّض لحالات العنف الزوجيّ بين الوالدين و النزاعات النفسيّة بينهما و ما يحيط بها من تهديدٍ لأمن الطفل و طمأنينته النفسيّة , قد تدفع بعض الفتيات و الصبية إلى المحاكاة بتكرار الدّور لاحقاً في حياتهم , أو العدول عن فكرة الإرتباط و إدارة الظهر لها و إن تمّ الزواج بشكلٍ إجرائيّ فقد يعجزون عن القيام بأعباء الدّور العاطفيّ – الجنسيّ بتأثيرٍ من الدفاعات النفسيّة ضدّ قلق الإعتداء الدفين على أمنهم و طمأنينتهم . و تتّخذ مثل هذه الحالات أشكالاً عدّة كالساديّة أو المازوخيّة أو العجز... و ما إلى ذلك من علل , تقوم بخلخلة نموّ الهويّة الجنسيّة و الخواص الشعوريّة العاطفيّة بدرجاتٍ متفاوتة , ممّا يعيق عمليّة النضج العاطفيّ – الجنسيّ ’ و القدرة على إقامة علاقات زوجيّة مستقرّة , توفِّر الإرضاء و الإشباع للطرفين .
النظريّة السيكوديناميّة :
تطرح هذه النظريّة من جانبها العديد من القضايا المتعلّقة بالصحّة العاطفيّة – الجنسيّة , و من أبرزها تعثّر الإستقلال النفسيّ عن الوالدين او أحدهما من خلال استمرار مختلف حالات التعلّق الطفليّ.
فالأمّ التملّكيّة على سبيل المثال تحول دون استقلال ابنها عنها , و تجهد من خلال إغراقه العاطفيّ و إغداق الرعاية و العناية عليه . و هذا ما يُبقيه في حالة من التبعيّة الطفليّة على الصعيد العاطفيّ , حتّى لو تقدّم في مراحل الرشد الإجتماعيّ . و تحول هذه التبعيّة دونه و دون إقامة رباط عاطفيّ – جنسيّ مستقلّ و راشد . إذ يقوم بالبحث بشكلٍ لا واعٍ عن قرين على غرار صورة الأمّ , أو قرين يتعيّن عليها أن تمثّل الأم في خصائصها و سلوكها . و بالتالي فالرباط الزوجيّ يظلّ في هذه الحالة رهيناً لذلك التعلّق اللاواعي بالأمّ , و هو ما يؤدّي إلى مختلف ألوان سوء التوافق العاطفيّ – الجنسيّ , حيث لا يمكن للبديل أن يحلّ فعليّاً محلّ الأصيل .
و تقابل العلاقة بالأبّ ذات المأزق و الإحتمالات بالنسبة للبنت إذا لم يتح الأب لها الإستقلال العاطفيّ عنه .
و من هذه الحالات يفتح باب الإحتمالات كالرضوخ للشريك , و بالتالي رفض الآخر لإنعدام التكافؤ معه , فهو أيضاً بحاجة الأخذ و ليس فقط العطاء .
كما يحول التسلّط المفرط على الأبناء دون الوصول إلى بناء كيانٍٍ مستقلّ يتيح لهم القيام بأعباء الحياة الزوجيّة الراشدة , ليس حياتيّاً فقط , بل عاطفيّاً – جنسيّاً كذلك .
و تحمل حالات الإجداب العاطفيّ في علاقات الوالدين بالأبناء إمكانيّة إعادة إنتاجها عند هؤلاء حين يكبرون , و بالتالي ينجم تدنّي القدرة على التبادل العاطفيّ أخذاً و عطاءً .
فعمليّة الفطام و النظافة عند الطفل هي بذور عرقلة النضج العاطفيّ – الجنسيّ , فالرضاعة بالإضافة لكونها عمليّة إشباع الحاجة الفيزيولوجيّة للطعام , فهي تجربة وجوديّة كلّيّة يرتبط فيها الحليب بالحبّ و الإحساس بالدفء و الرعاية و التواصل المكثّف جسديّاً و لغويّاً بين الأمّ و الطفل , فهي تجربة غنيّة علائقيّاً تهيّء الطفل على المستوى العاطفيّ – الجنسيّ للولوج بثقة في العالم في سنّ الرشد . فقد يولّد الفطام المبكّر و المفاجئ حالةً من التثبيت على المرحلة الفميّة , و التي لم تحظَ بالإشباع الكافي الذي يهيّئ المجال لتجاوزها . و هنا يبقى الشخص و لو أصبح راشداً متعطّشاً للتعلّق الطفليّ بدور المتلقّي و بذلك يفقد أهليّته لتوفير شروط التبادليّة في العطاء التي يتطلّبها الرباط الزوجيّ . كما يولّد التدريب المتسرّع و المتشدّد على النظافة عند الطفل من قِبَل الأهل , نمطاً من الشخصيّة الوسواسيّة الكماليّة التي لا قدرة لها على العطاء العاطفيّ .
تشكّل حالات الإنشطار ما بين العاطفة و الرغبة الجنسيّة حالة بارزة من حالات قصور النضج على هذا المستوى , ففي حالات الصحّة النفسيّة يتكامل هذان البعدان في توجّه واحد نحو علاقة واحدة مع قرين من الجنس الاخر , تتصف بالإستقرار و القدرة على توفير كلّ من الإرضاء العاطفيّ و إشباع الحاجات الجنسيّة . إلاّ أنّ هذا التكامل قد لا يتحقق خلال عمليّة النموّ و الدخول في مرحلة الرشود .
و نجد عندها أنفسنا بإزاء حالات ينشط فيها كل من بعدي العلاقة باستقلال متفاوت في مقاديره عن البعد الاخر , فالشخص من الجنس الآخر الذي يمكن أن يستقطب العاطفة و الحبّ , ليس هو الشخص عينه الذي يشكّل موضوع الرغبة الجنسيّة , و قد يحدث أن يحبّ الواحد من هؤلاء شخصاً معيّناً و يشعر بعلاقات عاطفيّة رقيقة , بينما هو ينجذب جنسيّاً إلى شخص آخر ذي خصائص مغايرة كليّاً .
ويغلب أن يرتبط زوجيّاً بشخص من النوع الأوّل على أساسٍ عاطفيّ أو أجتماعيّ أو عقلانيّ , بينما تظلّ الرغبة الجنسيّة غير مشبعة بما يكفي و هو يفتح بالطبع مختلف ألوان إزدواجيّة في السلوك , و احتمال تعدّد العلاقات ممّا يلغّم الرباط الزوجيّ . نحن هنا إزاء حالة التناقض ما بين الواقع و الرغبة .
و الحقّ يقال أنّ هناك أسباب عديدة لحالات الإنشطار هذه , إلا أنّ أحد الأوجه, قصور النضج على هذا المستوى . ففي حالات النضج العاطفيّ الجنسيّ المميّزة للصحّة النفسيّة , يمثّل كلّ من الزوجين عدّة أدوار و يشبع عدّة رغبات للآخر في الآن عينه , و على التوالي . فالزوجة هي القرين و الشريك و الأمّ و الطفلة . و الزوج كذلك مزيج من هذا كلّه تبعاً للظروف و لحاجات الطرف الآخر و تطوّر العلاقة الزوجيّة .
تعدّد الأدوار هذا يسبغ على الحياة العاطفية الجنسية تنوّعها و غناها و قدرتها على تجديد الإشباع و توثيق الروابط .
إن تكامل الرغبات و الأدوار يحتاج إلى مستوى معيّن من الصحّة النفسّية و النضج, مما لا يتوفّر للكثيرين. و هو ما يجعل في الحالات العادية الاختيار الزوجيّ غير كامل. و يحتاج بالتالي إلى جهدٍ هامّ لصيانة استمراريّة الرباط الزوجيّ و تعزيزه و إغنائه. من هنا القول بأن الوفاق الزوجيّ ليس أمراً يُعطى بل هو جدارةٌ تُبنى
انطلاقاً من مستوى النضج و القدرة على الإشباع المتبادل و مروراً بإرادة التوافق مع الآخر و التنبّه لأوضاعه و حاجاته و مراعاتها. و هكذا فإنّ الرباط الزوجي في حالات توافقه كما أزماته مسيرة دينامية أبعد ما تكون عن الجمود . إنّه حالة من التكون الدائم في اتجاه الاستقرار و النماء أو التدهور تشكل حصيلة تفاعل و تضافر المتغيّرات الخارجيّة و العلائقيّة و الذاتيّة في اتّجاه التعزيز المتبادل أو التعديل المتبادل . و يعود ذلك بالطبع
إلى تنوّع الظروف الخارجيّة التي تشكّل بيئة العلاقة الزوجيّة و تغيّرها من ناحية و إلى تنوّع الحاجات
و التوقّعات و التوازنات الذاتيّة و تحوّلاتها خلال مسيرة الحياة من ناحية ثانية .
و من الطبيعي أن يحدث تغيّر الهرميّة و الأولويات في الحاجات و المتطلّبات كالحاجات الجنسيّة و العاطفيّة
عندما يتم التركيز عليها أولاً فسيتتبعها شبع مؤقّت يفسح المجال لظهور حاجاتٍ أخرى كالمكانة و إثبات الذات
و تنشأ الأزمات حين لا يتيسّر للرباط الزوجيّ مرونة كافية لمراعاة هذا التحوّل في الأولويات . و يتمّم هذه
الديناميّات و التحوّلات حالة الازدواجيّة و التجاذب التي تميّز الرباط الزوجيّ , فالمسألة ليست مجرّد وفاق و انسجام , أو تعارض و تناقض , بل هي ذات درجات و مستويات في كلٍّ من التوافق و التعارض في الآن عينه.
هناك دوماً توافق ولقاء على مستوياتٍ و تعارض و تناقض على أخرى , هناك تعّلقٌ و ارتباط في جوانب
و إحباطات و صراعات في جوانب أخرى , و هو ما يجعل العلاقة مع الآخر نوعاً من مزيجٍ فريدٍ من إمكانات
الّلقاء و الإرضاء , و إمكانات التباين و الإحباط .
كلّ من الزوجين يتعّلق بالآخر و يندفع إليه في جوانب و يعيش كإحباط له و كعقبة وجوديّة إزاء تحقيق رغباته في جانب أخر ..... فكيف ستتطوّر هذه الحالة ؟
قد يتم التطوّر اتّجاه التسويات و التوافقات مما يحجّم التباينات و التناقضات و الإحباطات , أو هي تتطوّر باتّجاه تصعيد التناقض مما يبطل فاعليّة و قدرة قوى الجذب و الارتباط , أو هي تؤجّج ملفّ الصراعات على قاعدة حدٍّ أدنى من العيش المشترك تبعاً للقيود الذاتيّة و الخارجيّة المفروضة على حركيّة كلّ من الطرفين .
المراجع :
سيكيولوجيّة الإنفصال (جون بولبي) ترجمة عبد الهادي عبد الرحمن
الصحّة النفسيّة من أجل جودة الحياة (طلعت نمصور)
الصحّة النفسيّة (مصطفى حجازي)
إنّ الإنسان مذ كان جنيناً , يعيش نظام علاقاتٍ يعرّف ذاته و يحدّد هويّته من خلالها , فهي تحدّد توجّهات حاجاته و رغباته العاطفيّة و الجنسيّة و تحدّد مستوى نضجها . فالنضج العاطفيّ و القدرة على الإرتباط الوثيق الذي يحمل الرضى و التوافق , و النضج الجنسيّ الذي يحمل الإشباعات و يعزّز الرباط الزوجيّ , ليسا مسألتين حتميّتين تُعطَيان بيولوجيّاّ و يكفي مجرّد النضج الجسمي لضمان نجاحهما و فاعليّتهما . إنّهما نتاج الصحّة الجسميّة بالطبع , إلاّ أنّهما يتشكّلان في سوائهما و اضطرابهما بالتاريخ الشخصيّ بكلّ محمولاته العلائقيّة . فمستوى الرشد العاطفيّ – الجنسيّ هو مسألة تتعرّض للعديد من المتغيّرات و الخبرات الوجدانيّة و العلائقيّة في إيجابيّاتها و سلبيّاتها , و تكون في فرادتها الشخصيّة محصّلةً لها .
لا يصدق ذلك على الإنسان وحده , بما هو كائنٌ اجتماعيّ ينشأ و ينمو و ينشط في علاقاتٍ , بل يصدق أيضاً و بنفس المقدار على الحيوانات العليا التي تُعتبَر محكومة بالغريزة و إمكانات الرصيد الوراثيّ و خصائصه . فهي تعيش خبرات حسّيّة حركيّة تواصليّة تفاعليّة توصلها إلى نضجها الجنسيّ و قدرتها على التكاثر و التزاوج و الإنتماء . و لقد تعدّدت التجارب التي ُفصل فيها الصغار عن أمّهاتهم منذ ميلادهم , و توافقت نتائج تلك التجارب على أنّ هذا الإنفصال يهدّد حياتها ذاتها , كما ينعكس اضطراباً على سلوكها التزاوجيّ حين الوصول إلى مرحلة النضوج الجسميّ . و إذا كان هذا شأن الثديّات فإنّه من البديهيّ أن يكون شأن الإنسان المنخرط في علاقات أكثر غنى و تعقيداً بما لا يُقاس .
من المعروف أنّ الرباط الزوجيّ قادر على تصحيح و علاج الكثير من الإضطرابات الطفيفة , و ذلك إن حدث تكامل بين دوافع و رغبات الزوجين . كما أنّ هذا الرباط ذاته قد يفاقم من هذه الإضطرابات إذا لم يحدث مثل هذا التلاقي في الدوافع و الرغبات بين الطرفين .
و هذا يفسّر لنا لماذا يفشل رباط زوجيّ بين شخصين ناضجين جسميّاً و عاطفيّاً , بينما ينجح رباطٌ آخر مع شخص آخر .
قام العلماء بدراسة النضج العاطفيّ الجنسيّ و قواه المحرّكة و اتّجاهاته المتباينة من خلال نظريّتين هما النظريّة السيكوديناميّة , و نظريّة التعلّق , اللتان وضّحتا تكوّن الرباط الإنسانيّ و نضج العلاقات العاطفيّة- الجنسيّة و اضطراباتهما , و ما يسندهما من رغبات و هوامات و دلالات و ديناميّات .
نظريّة التعلّق :
تبيّن الأهمّيّة المحوريّة للرباط العاطفيّ مع الأمّ في مرحلة الطفولة الأولى في النضج النفسيّ . فإذا حظي الطفل بالقبول غير المشروط و الرعاية في علاقةٍ وثيقة و مستقرّة مع الأمّ , تتكوّن لديه الطمأنينة القاعديّة, و ينمو المفهوم الإيجابيّ عن الذّات و العلاقات و الدنيا عموماً . فيصبح بذلك قادراً على الإنفتاح الإيجابيّ على العالم , و يبدي المبادرة و يتمكّن من الوصول إلى الإستقلاليّة, كما تنمو ثقته بنفسه و بالآخرين . و هو ما يُطلِق عمليّة نموّه العاطفيّ و الإجتماعيّ و المعرفيّ سواءٌ بسواء . و بالتالي فإنّ متانة الروابط الأوّليّة مع الأمّ ثمّ مع الوالدين و الأهل التي تصنع أسس النضج النفسيّ ’ هي ذاتها التي توفّر شروط النضج العاطفيّ الجنسيّ , باعتبارهما ارتباط إنسانيّ في المقام الأوّل .
و في المقابل فحالات الإنفصال عن الأمّ في سنوات العمر الأولى الحرجة , أو تدنّي نوعيّة العلاقة العاطفيّة معها و مع الأشخاص الذين يعتنون بالطفل , تبيّن الآثار اللاحقة على مستوى النضج العاطفيّ الجنسيّ . إذ يتّضح ذلك من الدراسة الإكلينيكيّة للأطفال الذين نشأوا في ملاجئ لا توفّر الروابط المتينة مع بدائل الأمّ . و يُلاحَظ على هؤلاء استمرار حالة من التبعيّة الطفليّة حين يكبرون تبعاً لدرجة الحرمان . كما يُلاحَظ عليهم قصورٌ في قدرتهم على إقامة روابط عاطفيّة و جنسيّة ناضجة و راشدة . و يتّخذ الحرمان العاطفيّ خلال سنوات المراهقة إمّا طابع عدم الإكتراث الملفت للنظر بالأمور الجنسيّة و الرغبة في المعرفة حولها , أو على العكس يتّخذ طابع الإفراط في الإثارة الجنسيّة التي تهدف في المقام الأوّل إلى البحث عن تلقّي الحنان و العطف و الإهتمام , إضافةً إلى ما توفّره هذه الإثارة من عزاء و سلوى تعوض عن الفراغ الوجوديّ الملازم لقلق الإنفصال .
هنا نحن بصدد إثارة قهريّة تبحث عن التعويض العاطفيّ . و هو مايجعل هؤلاء الناشئين ضحايا جنسيّة محتمَلة من قِبَلِ المستغلّين ليس بدافع الإشباع الجنسيّ , بل بدافع البحث عن الحبّ . و هذا قصورٌ في النضج أكثر ممّا هو نضجٌ مبكّر , تنعكس آثاره على الرباط الزوجيّ لاحقاً .
كما أنّ التعرّض لصدماتٍ عاطفيّة في الطفولة من مثل الفقدان المفجع لأحد الوالدين , أو التعرّض لحالات العنف الزوجيّ بين الوالدين و النزاعات النفسيّة بينهما و ما يحيط بها من تهديدٍ لأمن الطفل و طمأنينته النفسيّة , قد تدفع بعض الفتيات و الصبية إلى المحاكاة بتكرار الدّور لاحقاً في حياتهم , أو العدول عن فكرة الإرتباط و إدارة الظهر لها و إن تمّ الزواج بشكلٍ إجرائيّ فقد يعجزون عن القيام بأعباء الدّور العاطفيّ – الجنسيّ بتأثيرٍ من الدفاعات النفسيّة ضدّ قلق الإعتداء الدفين على أمنهم و طمأنينتهم . و تتّخذ مثل هذه الحالات أشكالاً عدّة كالساديّة أو المازوخيّة أو العجز... و ما إلى ذلك من علل , تقوم بخلخلة نموّ الهويّة الجنسيّة و الخواص الشعوريّة العاطفيّة بدرجاتٍ متفاوتة , ممّا يعيق عمليّة النضج العاطفيّ – الجنسيّ ’ و القدرة على إقامة علاقات زوجيّة مستقرّة , توفِّر الإرضاء و الإشباع للطرفين .
النظريّة السيكوديناميّة :
تطرح هذه النظريّة من جانبها العديد من القضايا المتعلّقة بالصحّة العاطفيّة – الجنسيّة , و من أبرزها تعثّر الإستقلال النفسيّ عن الوالدين او أحدهما من خلال استمرار مختلف حالات التعلّق الطفليّ.
فالأمّ التملّكيّة على سبيل المثال تحول دون استقلال ابنها عنها , و تجهد من خلال إغراقه العاطفيّ و إغداق الرعاية و العناية عليه . و هذا ما يُبقيه في حالة من التبعيّة الطفليّة على الصعيد العاطفيّ , حتّى لو تقدّم في مراحل الرشد الإجتماعيّ . و تحول هذه التبعيّة دونه و دون إقامة رباط عاطفيّ – جنسيّ مستقلّ و راشد . إذ يقوم بالبحث بشكلٍ لا واعٍ عن قرين على غرار صورة الأمّ , أو قرين يتعيّن عليها أن تمثّل الأم في خصائصها و سلوكها . و بالتالي فالرباط الزوجيّ يظلّ في هذه الحالة رهيناً لذلك التعلّق اللاواعي بالأمّ , و هو ما يؤدّي إلى مختلف ألوان سوء التوافق العاطفيّ – الجنسيّ , حيث لا يمكن للبديل أن يحلّ فعليّاً محلّ الأصيل .
و تقابل العلاقة بالأبّ ذات المأزق و الإحتمالات بالنسبة للبنت إذا لم يتح الأب لها الإستقلال العاطفيّ عنه .
و من هذه الحالات يفتح باب الإحتمالات كالرضوخ للشريك , و بالتالي رفض الآخر لإنعدام التكافؤ معه , فهو أيضاً بحاجة الأخذ و ليس فقط العطاء .
كما يحول التسلّط المفرط على الأبناء دون الوصول إلى بناء كيانٍٍ مستقلّ يتيح لهم القيام بأعباء الحياة الزوجيّة الراشدة , ليس حياتيّاً فقط , بل عاطفيّاً – جنسيّاً كذلك .
و تحمل حالات الإجداب العاطفيّ في علاقات الوالدين بالأبناء إمكانيّة إعادة إنتاجها عند هؤلاء حين يكبرون , و بالتالي ينجم تدنّي القدرة على التبادل العاطفيّ أخذاً و عطاءً .
فعمليّة الفطام و النظافة عند الطفل هي بذور عرقلة النضج العاطفيّ – الجنسيّ , فالرضاعة بالإضافة لكونها عمليّة إشباع الحاجة الفيزيولوجيّة للطعام , فهي تجربة وجوديّة كلّيّة يرتبط فيها الحليب بالحبّ و الإحساس بالدفء و الرعاية و التواصل المكثّف جسديّاً و لغويّاً بين الأمّ و الطفل , فهي تجربة غنيّة علائقيّاً تهيّء الطفل على المستوى العاطفيّ – الجنسيّ للولوج بثقة في العالم في سنّ الرشد . فقد يولّد الفطام المبكّر و المفاجئ حالةً من التثبيت على المرحلة الفميّة , و التي لم تحظَ بالإشباع الكافي الذي يهيّئ المجال لتجاوزها . و هنا يبقى الشخص و لو أصبح راشداً متعطّشاً للتعلّق الطفليّ بدور المتلقّي و بذلك يفقد أهليّته لتوفير شروط التبادليّة في العطاء التي يتطلّبها الرباط الزوجيّ . كما يولّد التدريب المتسرّع و المتشدّد على النظافة عند الطفل من قِبَل الأهل , نمطاً من الشخصيّة الوسواسيّة الكماليّة التي لا قدرة لها على العطاء العاطفيّ .
تشكّل حالات الإنشطار ما بين العاطفة و الرغبة الجنسيّة حالة بارزة من حالات قصور النضج على هذا المستوى , ففي حالات الصحّة النفسيّة يتكامل هذان البعدان في توجّه واحد نحو علاقة واحدة مع قرين من الجنس الاخر , تتصف بالإستقرار و القدرة على توفير كلّ من الإرضاء العاطفيّ و إشباع الحاجات الجنسيّة . إلاّ أنّ هذا التكامل قد لا يتحقق خلال عمليّة النموّ و الدخول في مرحلة الرشود .
و نجد عندها أنفسنا بإزاء حالات ينشط فيها كل من بعدي العلاقة باستقلال متفاوت في مقاديره عن البعد الاخر , فالشخص من الجنس الآخر الذي يمكن أن يستقطب العاطفة و الحبّ , ليس هو الشخص عينه الذي يشكّل موضوع الرغبة الجنسيّة , و قد يحدث أن يحبّ الواحد من هؤلاء شخصاً معيّناً و يشعر بعلاقات عاطفيّة رقيقة , بينما هو ينجذب جنسيّاً إلى شخص آخر ذي خصائص مغايرة كليّاً .
ويغلب أن يرتبط زوجيّاً بشخص من النوع الأوّل على أساسٍ عاطفيّ أو أجتماعيّ أو عقلانيّ , بينما تظلّ الرغبة الجنسيّة غير مشبعة بما يكفي و هو يفتح بالطبع مختلف ألوان إزدواجيّة في السلوك , و احتمال تعدّد العلاقات ممّا يلغّم الرباط الزوجيّ . نحن هنا إزاء حالة التناقض ما بين الواقع و الرغبة .
و الحقّ يقال أنّ هناك أسباب عديدة لحالات الإنشطار هذه , إلا أنّ أحد الأوجه, قصور النضج على هذا المستوى . ففي حالات النضج العاطفيّ الجنسيّ المميّزة للصحّة النفسيّة , يمثّل كلّ من الزوجين عدّة أدوار و يشبع عدّة رغبات للآخر في الآن عينه , و على التوالي . فالزوجة هي القرين و الشريك و الأمّ و الطفلة . و الزوج كذلك مزيج من هذا كلّه تبعاً للظروف و لحاجات الطرف الآخر و تطوّر العلاقة الزوجيّة .
تعدّد الأدوار هذا يسبغ على الحياة العاطفية الجنسية تنوّعها و غناها و قدرتها على تجديد الإشباع و توثيق الروابط .
إن تكامل الرغبات و الأدوار يحتاج إلى مستوى معيّن من الصحّة النفسّية و النضج, مما لا يتوفّر للكثيرين. و هو ما يجعل في الحالات العادية الاختيار الزوجيّ غير كامل. و يحتاج بالتالي إلى جهدٍ هامّ لصيانة استمراريّة الرباط الزوجيّ و تعزيزه و إغنائه. من هنا القول بأن الوفاق الزوجيّ ليس أمراً يُعطى بل هو جدارةٌ تُبنى
انطلاقاً من مستوى النضج و القدرة على الإشباع المتبادل و مروراً بإرادة التوافق مع الآخر و التنبّه لأوضاعه و حاجاته و مراعاتها. و هكذا فإنّ الرباط الزوجي في حالات توافقه كما أزماته مسيرة دينامية أبعد ما تكون عن الجمود . إنّه حالة من التكون الدائم في اتجاه الاستقرار و النماء أو التدهور تشكل حصيلة تفاعل و تضافر المتغيّرات الخارجيّة و العلائقيّة و الذاتيّة في اتّجاه التعزيز المتبادل أو التعديل المتبادل . و يعود ذلك بالطبع
إلى تنوّع الظروف الخارجيّة التي تشكّل بيئة العلاقة الزوجيّة و تغيّرها من ناحية و إلى تنوّع الحاجات
و التوقّعات و التوازنات الذاتيّة و تحوّلاتها خلال مسيرة الحياة من ناحية ثانية .
و من الطبيعي أن يحدث تغيّر الهرميّة و الأولويات في الحاجات و المتطلّبات كالحاجات الجنسيّة و العاطفيّة
عندما يتم التركيز عليها أولاً فسيتتبعها شبع مؤقّت يفسح المجال لظهور حاجاتٍ أخرى كالمكانة و إثبات الذات
و تنشأ الأزمات حين لا يتيسّر للرباط الزوجيّ مرونة كافية لمراعاة هذا التحوّل في الأولويات . و يتمّم هذه
الديناميّات و التحوّلات حالة الازدواجيّة و التجاذب التي تميّز الرباط الزوجيّ , فالمسألة ليست مجرّد وفاق و انسجام , أو تعارض و تناقض , بل هي ذات درجات و مستويات في كلٍّ من التوافق و التعارض في الآن عينه.
هناك دوماً توافق ولقاء على مستوياتٍ و تعارض و تناقض على أخرى , هناك تعّلقٌ و ارتباط في جوانب
و إحباطات و صراعات في جوانب أخرى , و هو ما يجعل العلاقة مع الآخر نوعاً من مزيجٍ فريدٍ من إمكانات
الّلقاء و الإرضاء , و إمكانات التباين و الإحباط .
كلّ من الزوجين يتعّلق بالآخر و يندفع إليه في جوانب و يعيش كإحباط له و كعقبة وجوديّة إزاء تحقيق رغباته في جانب أخر ..... فكيف ستتطوّر هذه الحالة ؟
قد يتم التطوّر اتّجاه التسويات و التوافقات مما يحجّم التباينات و التناقضات و الإحباطات , أو هي تتطوّر باتّجاه تصعيد التناقض مما يبطل فاعليّة و قدرة قوى الجذب و الارتباط , أو هي تؤجّج ملفّ الصراعات على قاعدة حدٍّ أدنى من العيش المشترك تبعاً للقيود الذاتيّة و الخارجيّة المفروضة على حركيّة كلّ من الطرفين .
المراجع :
سيكيولوجيّة الإنفصال (جون بولبي) ترجمة عبد الهادي عبد الرحمن
الصحّة النفسيّة من أجل جودة الحياة (طلعت نمصور)
الصحّة النفسيّة (مصطفى حجازي)