-
دخول

عرض كامل الموضوع : الأسد بين قمّة وأخرى: خطاب المقاوم أم المساوم؟


ayhamm26
23/01/2009, 17:25
رغم عشرات الأقوال المأثورة التي كرّرها والده حافظ الأسد حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومسائل الحرب والسلام، شاء بشار الأسد الذهاب إلى ميراث الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، واختار العبارة الأشهر والأكثر جرياً على الألسن، فأعلن في قمة الدوحة أنّ 'ما أخذ بالقوّة لا يسترد بغير القوّة'. قبل عبد الناصر، كان الأسد قد لجأ إلى الحديث النبوي (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، ثمّ سفر 'الخروج' في العهد القديم (العين بالعين والسنّ بالسنّ)، مشدّداً على أنّ البادىء أظلم...

والحال أنّ خطاب الدوحة هذا يذكّر بخطاب آخر، ألقاه بشار الأسدفي قمة أخرى ـ عمّان، ربيع 2001 ـ ولم يكن آنذاك قد أكمل سنته الأولى في وراثةالسلطة، حين استفاض في تقريع أخوته أصحاب السيادة والجلالة والسموّ لأنهم يسيرونبالأمّة العربية من ضعف إلى ضعف. ولقد حثّهم، وكان أصغرهم سنّاً وأحدثهم عهداًبالحكم، على 'زيادة الإيجابيات على حساب السلبيات، وتعزيز نقاط القوة مقابل تقليصنقاط الضعف التي ما تزال كثيرة وعلى رأسها سوء التقدير وعدم قراءة الأحداث بشكلهاالصحيح'.

ما هو البديل؟ هنا اقتراح الأسد، بالحرف: 'نحن ثلاثمائة مليون عربي،وعندما نتخذ القرار الجريء والواضح فالثلاثمائة مليون سيدعموننا مادياً ومعنوياً،وعدا ذلك لن يقف معنا لا عربي ولا غير عربي، وسننتقل من ضعف إلى ضعف. فإذاً يجب أننكون واعين لعدم الوقوع في فخ ربط مواقفنا وسياساتنا تجاه قضايانا بالأشخاص فيإسرائيل، بل يجب ربط هذه المواقف والسياسات بالشارع الإسرائيلي الذي يظهر يوما بعديوم أنه ضدّ السلام. نربط هذه المواقف بالشارع الإسرائيلي وهذا يعني أن كلّإسرائيلي مسؤول عن كلّ شبر من الأرض العربية. كلّ إسرائيلي مسؤول عن روح كل مواطنعربي أو عن روح كلّ مواطن عربي يمكن أن تزهق أو تزهق الآن. بالتالي فان الربط، ربطهذه المواقف بالأشخاص، هو ربط مؤقت، وهذا يعني انه كلما أتى شخص نختلف على تقييمهوبالتالي علينا أن نلتقي أو نفترق حسب تبدل الحكومات والأشخاص، وهذا لايجوز'.

لا يجوز، بالفعل، وينطبق على القائل قبل السامع، سيّما وأنّ أشهر معدوداتكنت قد سبقت رهان النظام السوري على حكومة إيهود باراك، في البيت الأبيض كما فيجنيف، قبل أن ينزل بالأخير عقاب الشارع الإسرائيلي دون سواه، فيأتي بجنرال مجزرةصبرا وشاتيلا، بيروت 1982، على حساب جنرال مجزرة فردان، بيروت 1973. ولم تكنالملايين العربية الثلاثمئة، وهي الآن تقارب نصف المليار بحمد الله، تنتظر أمراًقدر انتظارها ذلك 'القرار الجريء' من نظام أحلّ السلام في بطاح الجولان المحتلّوهضابه، حتى قبل، ودون، توقيع اتفاقية سلام نهائية!

بيد أنّ خطبة الأسد كانتأقرب إلى كلمة حقّ يُراد منها ذرّ الرماد في العيون، كما برهنت الأشهر القليلة التيأعقبت هذا الخطاب، حين ذهبت مفرداته أدراج الرياح، سريعاً، بل أسرع ممّا انتظرأصحاب السيادة والجلالة والسموّ، ممّن أنصتوا إلى الوريث الشابّ يتلو عليهم مزاميرسمعوها من قبل، وملّوا من اختراع أمثالها أو اجترارها. لقد بدأ بمزيد من إضعافالداخل السوري، أو ما تسمّيه عقيدة حزب البعث 'الجبهة الداخلية'، فبطش بـ 'ربيعدمشق' وزجّ العشرات في المعتقلات، قبل إحالتهم إلى محاكم/مهازل قضائية؛ وأعاد طرائقالقمع إلى أطوار بلغ بعضها في السوء درجات أشدّ ممّا كانت عليه أثناء حكم أبيه؛وأطلق الذئاب الكاسرة، وليس القطط السمان وحدها، كي تعيث في البلد فساداً ونهباً. أمّا على صعيد 'الجبهة الخارجية'، إذا جاز الإشتقاق من المصطلح البعثي، فإنّ مسلسلالمفاوضات السرّية والعلنية، المباشرة أو غير المباشرة أو عن طريق الوسطاء، كانأكثر وضوحاً من أن يحتجب أو يُحجب.

فبأيّ قوّة، يسأل المرء أوّلاً إذْ يتابعحماسة الأسد في قمة الدوحة، يمكن للنظام السوري أن يستردّ الجولان المحتلّ؟ إنها،بالتأكيد، ليست القوّة العسكرية، إلا إذا كان الأسد يستغفل ملايين شعبه بادىء ذيبدء، ثمّ مئات ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، وهذه تعرف البئر وغطاءه حول ماحلّ بالجيوش العربية عموماً، والجيش السوري خاصة، على أيدي أنظمة الإستبدادوالوراثة والفساد. وفي كلّ حال، لقد خضعت 'قوّة' النظام العسكرية إلى امتحاناتعديدة في الآونة الأخيرة: الإنزال الأمريكي داخل العمق السوري في منطقة البوكمال،قصف موقع 'الكبر' العسكري، تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الإستراحة الرئاسية فياللاذقية، قصف معسكر 'عين الصاحب' غرب دمشق، لكي لا نعود بالذاكرة إلى اجتياح بيروتسنة 1982...

أم هي 'قوّة' سياسية، عمادها أوراق النظام الراهنة في العلاقة معإيران، ثمّ 'حزب الله' و'حماس'، فضلاً عن الورقة الأهمّ المتمثلة في حرص الدولةالعبرية، والولايات المتحدة أساساً، على عدم المساس بما يسمّونه 'الإستقرارالمجتمعي' في سورية الراهنة، تفادياً لفتح ساحة صراع جديدة لن تكون أولى عواقبهاإلا فتح الأبواب على مصارعيها أمام انقضاض منظمات مثل 'القاعدة' على أرض خصبة حتىإذا كانت اليوم في حال من السبات؟ غير أنّ هذه الأوراق، جميعها، هي للنظام مرّة،مثلما هي عليه مرّة أخرى، طبقاً لما يستجدّ أو يتبدّل من موازين قوى ومعادلات جيو ـسياسية، ولأن السياسة في الشرق الأوسط، وفي إطارات إقليمية أوسع نطاقاً، لم تعدتقبل الكثير من الإصطفافات القصوى، البيضاء أو السوداء فقط، وغير الرمادية فيالمطلق.

وفي هذا السياق بدت المصالحات العربية وكأنها تجبّ ما قبلها بصدد خلافاتاتضح أنها ليست في الجوهر إلا تكتيكات متباينة، وحدّتها سريعاً عمليات 'تبويسالشوارب' كما في التعبير الشعبي البليغ، أو ردّتها إلى حجمها الطبيعي الذي لا يعلوعلى الشأن الأعلى للحاكم العربي: أي الإستقواء على شعبه، قبل الخصم أو العدوّ. وفيالجانب الجدلي من المسألة، كان لا بد أن يعكس البيان الختامي للقمّة زيف تلكالمصالحات في ما يخصّ الشأن الراهن العاجل، أي الهمجية الإسرائيلية ضدّ أهل غزّة،وترحيل عجز النظام العربي الرسمي إلى المنطقة الوحيدة التي لا مراء في التوافقعليها: اللفظ الأجوف الطنّان الرنان!

ومن الثابت، في المنطق الحسابي البسيط قبلذاك السياسي الذرائعي، أنّ ما تجنيه إيران أو 'حزب الله' أو 'حماس' من مغانمتكتيكية أو ستراتيجية جرّاء هذه أو تلك من آثار الإحتقان أو المقاومة أو الوفاق فيالمنطقة، لن يصبّ إلا جزئياً في رصيد النظام السوري، أو بالأحرى لن تكون حصّةالنظام منه إلا ثانوية، لاحقة وجانبية بالقياس إلى الحصص الأصلية التي تصنعهاالأطراف بنفسها، لنفسها. وهذه حصة لا تقيم أود النظام إلا مؤقتاً، واقعة بواقعة،واصطفافاً باصطفاف، وما هو مطلوب لا يقلّ البتة عن ضمان أمن النظام في المدىالبعيد، وعلى غرار راسخ لا توفّره جهة إقليمية أفضل من الدولة العبرية، ولا قوّةكونية سوى الولايات المتحدة (ومن هنا إصرار الأسد على أن تكون أمريكا هي راعيةالمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية).


ومن جانب آخر، ما الذي قدّمه النظام لحركة 'حماس' على سبيل المثال، سوى الخطاب اللفظي، وإيواء خالد مشعل ورفاقه في إقامة ليستدائماً مأمونة العواقب (كما في اغتيال عز الدين الشيخ خليل في قلب دمشق، خريف 2004،لكي لا يقتبس المرء المثال الثاني الأوضح: اغتيال القيادي في 'حزب الله' عمادمغنية)؟ ومَن الذي يضمن تلك الإقامة أصلاً، إذا توجّب أن يوقّع النظام اتفاقية سلاممع إسرائيل، تصرّ الأخيرة أنّ في رأس شروطها فصم العلاقات الراهنة بين النظامو'حماس'، إلى جانب 'حزب الله' وإيران بالطبع؟ وهل يكفي أن يعلن الأسد أنه أوقفالمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل (احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية في غزّة، كمايفهم المرء!)، والكلّ يعلم انّ تلك المفاوضات كانت متوقفة أصلاً؟

وينبغي أن يكونرجالات 'حماس'، أهل المقاومة على الأرض قبل أهل السياسة في القمم، فضلاً عن مئاتملايين العرب، على درجة إستثنائية في السذاجة لكي يصدّقوا أنّ بشار الأسد المؤمنبمبدأ 'ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة' في قمّة الدوحة، هو نفسه بشار الأسدالذي قال قبل أيام قليلة إنّه يبني مع الإسرائيليين عمارة سلام. وكما يعلم الجميع،في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الكرواتي، قال الأسد بالحرف: 'من الطبيعي أن ننتقل،في مرحلة لاحقة، إلى المفاوضات المباشرة. فنحن ليس بوسعنا تحقيق السلام عبرالمفاوضات غير المباشرة فقط.' وشبّه عملية السلام بمشروع إشادة مبنى، قائلاً إنإسرائيل وسورية 'تضعان الآن الأساس للسلام من خلال المحادثات غير المباشرة عبرالوسيط التركي'.


والذي يعتبر مبادرة السلام العربية في حكم الميتة، ويريد نقلهامن سجلّ الأحياء إلى سجلّ الأموات، ماذا يقول عن مبادراته هو للسلام مع الدولةالعبرية؟ هل يكتفي فقط بإيقاف مفاوضاته غير المباشرة، المتوقفة أصلاً، أم يعلنالإنسحاب النهائي من أيّ وكلّ مفاوضات مع دولة يصفها بنفسه هكذا: 'هذا العدو الذيبنى وجوده على المجازر، وكرّس استمراره على الاغتصاب والتدمير ورسم مستقبله علىالإبادة الجماعية، هو عدو لا يتحدث سوى لغة الدم، وبالتالي فهو لا يفهم سوى لغةالدم'؟ ولماذا فاوض هذا العدو أصلاً، وهو يقول التالي في توصيف المفاوضات: 'كانتعملية السلام بالنسبة لنا مجرد محاولات لم تتطور لتصل إلى عملية سلام حقيقية، لأنّالإسرائيليين يعانون من رهاب حقيقي تجاه السلام'؟


وقد يخال المرء أنّ الأسد قدغيّر مواقفه تلك، ولم يعد مؤمناً بالسلام، والتغيير سنّة الكون، وسبحان الذي يغيّرولا يتغيّر. غير أنه، بعد قمّة الدوحة مباشرة، وفي حديث مع مجلة دير شبيغل' الألمانية، عاد إلى نقيض أقواله في فلسفة القوّة، فأكد مجدداً على خيار السلام (وهو، منطقياً، نقيض مقولة القوّة التي وحدها تعيد ما أخذ بالقوّة)، بل أوضح دونجلاء أنه ما يزال يعقد الأمل على حكومة أفضل في إسرائيل. والذي وبّخ أخوته أصحابالسيادة والجلالة والسموّ في قمّة عمّان سنة 2001، لأنهم يعقدون الآمال علىالحكومات الإسرائيلية أو على الشارع الإسرائيلي، وقال بالأمس في قمّة الدوحة إنأرباب إسرائيل اعتبروا الدماء العربية بمثابة 'الوقود الضروري لآلتهم في مراحل قيامالدولة اليهودية الصافية'، كيف يقول الآن: 'نحن نريد طرفاً قوياً على الجانب الآخرمن الطاولة لكي نصنع السلام'؟


أخيراً، الذي وصف بعض الحكام العرب بأنهم أشباهرجال، ذات يوم غير بعيد، كيف سارع إلى مقرّ إقامتهم في قمّة الكويت الإقتصادية،فتبادل معهم المصافحة والعناق والقبلات، هكذا... دون أي اكتراث بإبلاغ مئات ملايينالعرب، الذين ينتظرون منه ومن سواه 'القرار الجريء والواضح'، أنّ الأشباه عادوارجالاً من جديد؟ وهل هذا، في الإجمال، بين قمّة وأخرى، خطاب المؤمن القويّ، أمالمؤمن الضعيف، أم المقاوم، أم المساوم؟


صبحي حديدي- موقع الحقيقة