Marooshe
19/01/2009, 18:45
أليس مستهجناً وقبيحاً وسخيفاً أن هناكَ مَن يستطيع أن يملك الشجاعة الهائلة لكي يخرج على الناس صارخاً ومنتقداً ومهاجماً ولاعناً وشاتماً ومشترطاً وموجهاً وموبخاً ونابذاً، وفوق ذلك يأتي ناصحاً ومرشداً وهادياً ومصلحاً ومنقذاً، ولكنه في الوقت نفسه يعجز عن أن يملك ذرة من الشجاعة لكي يسمع أو يتحمل أو يتقبل الرأي الآخر أو الصوت المختلف.!؟
هكذا هم المتعصبون لدينهم ومذهبهم وطائفيتهم وأيديولوجيتهم، وهكذا هم الغارقون في تعصبهم الديني والمذهبي والطائفي والأيديولوجي حد الجهالة والعُمي، فهم لا يستطيعون أن يروا في هذا العالم سوى أنفسهم ودينهم وتاريخهم ومذهبيتهم، ويأتون إلى الناس صارخين عليهم بكل البغض والعداء والكراهية والاقصاء والنبذ، فهؤلاء نموذجهم في الحياة واقعٌ من خلاصة التعصب والتحزب والطائفية يتمثل في البغض والعداء والنبذ والكراهية، وكل هذه القباحات هي نموذجهم الأمثل، لأنها تتمثل فيهم وتنطلق منهم، ولأنها يستحيل ألا تكون موجودة في طريقتهم وتفسيراتهم وأسلوبهم وتفكيرهم ومسلكياتهم، ولأنهم في مقابل ذلك يجيدون اقتراف كل تلك الشرور والقباحات والبذاءات وربما لا يجيدون سواها، ولأنهم يعانون منها في ذواتهم، يعانون من عقدها وضغوطاتها وافرازاتها فلابد أن يواجهونها بالتأكيد عليها وبالتمسك بها وبالتشبع منها، ولذلك فإنّ التعصب والطائفية والتمذهب وجود منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ولأنه أصبح وجوداً فإنه يصبح تبعاً لذلك نموذجاً، نموذجاً يتماثل ويتماهى مع وجودها ووجودهم، نموذجاً أوحد ومكتملاً وكاملاً يُبقيهم وجوداً حاضراً وشاخصاً وناطقاً ومتفجراً على قيد الكراهية والعداء، يستحضرونه دائماً ويتباهون به ويطبقونه ويتداخلون معه بذواتهم، فهل يمنحهم أو يعلمهم التعصب والتمذهب الطائفي الديني سوى أن يتعلموا ويلتزموا بالغبض والكراهية والحقد والعداء لغيرهم المختلف عنهم ديناً أو مذهباً أو عرقاً أو لغةً، أو المختلف عنهم معتقداً أو فكراً أو منهجاً، وهل تعلمهم وتمنحهم الطائفية والتعصب المذهبي والديني أن يمتلكوا الشجاعة لكي يكونوا في مستوى التسامح مع الآخر المختلف وفي مستوى التهذيب والأخلاق الإنسانية..
إن مَن يفتقد الأخلاق، أخلاق الذات المتسامحة، أخلاق الشجاعة العالية في أن يكون متسامحاً، سيفقد إنسانيته، سينحاز للتعصب والجهالة والطائفية والعنف الديني، وسينحاز لتاريخه النموذج ولأطره النابذة ولمرجعياته الحاقدة ولتعصباته المذهبية والدينية، فماذا منحتهم تعاليمهم الطائفية والدينية والتحزبية غير أن يكونوا أعداءً لهذا أو لذاك، يبغضون ويحتقرون ويكرهون وينبذون ويتعالون ويتكبرون ويحاربون ويقاتلون، وهل تشترط عليهم تعاليمهم وأدبياتهم غير أن يكونوا حاقدين ومبغضين وكارهين ونابذين ومتعالين، وهل تلزمهم تعاليمهم الطائفية والهوياتية الدينية بغير أن يلتزموا تماماً بأحقادهم وكراهياتهم وعداواتهم وتاريخهم ونموذجهم..
فأيُّ هلاك وتدمير وخراب وضياع ينتظر الإنسان حينما تفرض عليه تعاليمه الطائفية والتحزبية والدينية أن يكون مبغضاً وكارهاً وحاقداً وشاتماً ولاعناً ومهدداً ومتوعداً ومستفرغاً بالوقاحات والبذاءات، فمن الذي أعطاه كل تلك المزايا، ومَن منحه كل تلك القباحة والدمامة، ومَن أوجدَ فيه كل تلك الأخلاق البذيئة، ومَن ألزمهُ بها واشترط عليه التحلي بها ومَن هددهُ وأخافهُ من عدم التمسك بها، أليس هو ذلك التعصب الديني القابع في أعماقه بكل تفاسيره ونصوصه الطائفية وحمولاته التراثية ومنقولاته التاريخية وبكل منابره الوعظية والخطابية وطقوسه الدينية الممسرحة..
إن شتم الآخرين والانتقاص منهم والتشنيع عليهم واحتقارهم ولعنهم واستبشاعهم لهو الغذاء المفضّل لدى المتعصبين والطائفيين والمؤدلجين دينياً وفكرياً، فهو الذي يُطعم مشاعرهم وأخلاقهم ونفسياتهم بالكراهية والحقد والبغض والعداوات، وهو الغذاء الذي يتحول في ذواتهم إلى مشاعرَ بغيضة وأخلاق قبيحة ونفسيات كارهة وحاقدة، فهل تصورتم كيف سيكون عليه حال هؤلاء لو لم يجدوا أحداً يشتمونه أو يلعنونه أو يحتقرونه أو يتهمونه بالمؤامرة والتخريب والفساد، لو لم يجدوا أحداً بالتأكيد سيلعنون (الشيطان) كعادتهم دوماً لأنه الوحيد الذي يستطيع بكرمه الباذخ أن يملأ فراغ حياتهم بلعناتهم وشتائمهم وسبابهم له..
ومَن يستطيع أن يكون عاشقاً للجمال وصانعاً له وداعياً إليه ومحلقاً في ملكوته، ومَن يستطيع أن يكون عاشقاً للتسامح والحب والأخلاق النظيفة، هو ذلك الإنسان الذي استطاع أن ينتصر لإنسانيته التي تطهّرت من أوساخ التعصبات الدينية ومن لوثة المذهبيات الطائفية، وهو ذلك الإنسان الذي استطاع أن يخرج متعافياً من تخندقاته الماضوية ومن أحقاده التاريخية ومن موروثاته التراثية الاحترابية، ومَن لا يستطيع أن يخرج من تعصباته الدينية ومن جهالاته الطائفية ومن اكراهاته المذهبية الفكرية والعقائدية، فهو إنسان لم يستطع أو يتصور أو يتخيّل أن يجد نفسه في يوم ما خارج تلك الأطر والمرجعيات والمنظومات، لأنه من غيرها سيجد نفسه واقعاً في الفراغ والتيه وفي اللاهدف، لأنها صاغته وشكلته تلقينياً وبيئياً ونفسياً وشعورياً وثقافياً على أن يبقى وفياً لها ولتعاليمها، ومخلصاً لأهدافها وبرمجياتها ونصوصها ومشاريعها وأوصيائها وقادتها، وهي غذاؤه الفاسد الذي يقتات منه وجوده الطائفي والتحزبي والديني..
ومن السهل جداً ومن دون أي جهد منكَ أو عناء أو تفكير أن تؤمنَ بتعاليمك التراثية وبنصوصك وببرمجياتك المذهبية والطائفية والتعصبية والتحزبية، لأن الإيمان بها لا يحتاج منك سوى الرغبة بالإيمان بها من دون أن تأتي بدليل عقلي أو إثبات منطقي، بينما أن تكون في مستوى الشجاعة والنبل والتسامح والمحبة والأخلاق والنظافة الذاتية، وأن تكون في مستوى الفكر الإنساني الحر الرافض لكل تلك الأطر والمرجعيات والثوابت، فكل ذلك يحتاج منك جهداً كبيراً وعناءً مضاعفاً وتعباً ذاتياً فكرياً وتفكيرياً ونفسياً، وحتى حينما تذهب لكي تؤدي طقوسكَ العظيمة لا يحتاج الأمر منك إلا بعضاً من الجهد الجسدي والعضلي، بينما أن ترتفع إلى مستويات الأمانة والصدق والتسامح والحب والأخلاق الإنسانية الشجاعة، فالأمر في هذه الحالة يحتاج منكَ جهداً أخلاقياً ونفسياً وإنسانياً كبيراً لكي ترقى إلى هذه المستويات..
وأولئك الذين يخرجون دوماً على الناس شاتمينَ وكارهين ومبغضين وحاقدين ولاعنين، إنهم في حقيقة الأمر يستنفرون كل أساليبهم الدفاعية والاستحكامية للدفاع والذود عن تعاليمهم ونصوصهم ومنقولاتهم وحمولاتهم الثقافية والأيديولوجية، لأنهم يؤمنون في أعماقهم وفي مشاعرهم أن (الآخر) الذي يشتمونه ويلعنونه ويترصدونه بالكراهية والبغض متفوق عليهم، ويتفوق عليهم دائماً في كل شيء ربما، ولذلك يعتبرونه خطراً داهماً عليهم وعلى تعاليمهم وأدبياتهم ووجودهم، يجدونه خطراً يهدد دينهم وتاريخهم وتراثهم وانجازاتهم وقيمهم، وربما أيضاً حينما يكرهون ويقاتلون ويبغضون (الآخر) ليس لأنه يختلف عنهم، بل لأنه يحرز دائماً تفوقاً عظيماً عليهم، ولذلك تتحول كل عمليات الشتم واللعن والكراهية والبغض لديهم إلى أساليب وقنوات دفاعية استحكامية وهجومية أيضاً، فحينما يعجزون أن يكونوا في مستوى التفوق والانتصار والحضارة والإنسانية تصبح الشتائم واللعنات والكراهيات هويتهم وأداتهم في معركة التنافس، وتعكس في النهاية مسلكهم وشعورهم ونفسيتهم وفكرهم وثقافتهم وأخلاقهم..
وأولئك الذين يعتلون منابر الدفاع عن دينهم وتعاليمهم ومذاهبهم وطائفيتهم وتاريخهم بكل أسلحتهم الخطابية الفتاكة المحرضة على الكراهية والبغض والنبذ، وبكل صراخهم النابذ للآخر والمهمّش له والمتعالي عليه، إنهم في حقيقة الأمر يستحضرون مخزون ثقافتهم التلقينية والشفهية، ويلقون بها في هذا الطريق، إنهم يستفرغونها تعصباً وجهالة وحقداً وكراهية، إنهم ملتزمون تجاه تعاليمهم بما ألزمتهم من فروض وبرمجيات تلقينية وشفهية من دون أن يفكروا فيها ومن دون أن يملكوا حق اختيارها أو رفضها، بل وجدوها فيهم وكبروا معها تلقينياً وشفهياً وبرمجةً وانصياعاً، وكلما كانت ثقافة التلقين هائلة وصارمة ومتجذرة فيهم، كانوا أكثر شراسة في الدفاع عن تعاليمهم وتعصباتهم المذهبية والدينية والأيديولوجية، فكل ذلك التلقين والبرمجة يتحول فيهم إلى عقائدَ ومعتقدات ومذاهب ومسلكيات يساوي في زخمه وشراسته وسطوته واستمراريته، مقدار ما فيه من قوةٍ وزخم مستمر في التلقين الديني وفي ثقافة الشفاهة الخطابية وفي عمليات البرمجة العقائدية..
ولطالما أجدني في هذا السياق أتساءل: كيف لا يستشعر المتعصبون والطائفيون والمؤدلجون دينياً ومذهبياً فداحة ما هم فيه من تعصب وجهالة ونبذ واقصاء للآخرين، ولكل مَن لا يوافقهم أو لا يستحسن عالمهم أو لا يستعذِب روعة تعاليمهم، وكيف لا يستقبحون مسلكهم هذا وأخلاقهم هذه، ولا يرون في ثقافتهم وأفعالهم القباحة والبذاءة، إنهم يبقون ويستمرون هكذا، لأنهم يخافون من مجرد التفكير في التخلي عن تعصبهم وطائفيتهم وأيديولوجيتهم المذهبية والدينية، لأن الخروج على كل ذلك يفقدهم نموذجهم وتاريخهم ووجودهم وماضيهم وحاضرهم وغذاءهم، ولأنه يفقدهم سلاحهم وصراخهم واستعراضاتهم الخطابية والهتافية والشعاراتية، ولأن الخروج على كل ذلك يجعلهم في مواجهة حقيقتهم الخاوية والفارغة والهشة..
بقلم محمود كرم / كاتب كويتي
هكذا هم المتعصبون لدينهم ومذهبهم وطائفيتهم وأيديولوجيتهم، وهكذا هم الغارقون في تعصبهم الديني والمذهبي والطائفي والأيديولوجي حد الجهالة والعُمي، فهم لا يستطيعون أن يروا في هذا العالم سوى أنفسهم ودينهم وتاريخهم ومذهبيتهم، ويأتون إلى الناس صارخين عليهم بكل البغض والعداء والكراهية والاقصاء والنبذ، فهؤلاء نموذجهم في الحياة واقعٌ من خلاصة التعصب والتحزب والطائفية يتمثل في البغض والعداء والنبذ والكراهية، وكل هذه القباحات هي نموذجهم الأمثل، لأنها تتمثل فيهم وتنطلق منهم، ولأنها يستحيل ألا تكون موجودة في طريقتهم وتفسيراتهم وأسلوبهم وتفكيرهم ومسلكياتهم، ولأنهم في مقابل ذلك يجيدون اقتراف كل تلك الشرور والقباحات والبذاءات وربما لا يجيدون سواها، ولأنهم يعانون منها في ذواتهم، يعانون من عقدها وضغوطاتها وافرازاتها فلابد أن يواجهونها بالتأكيد عليها وبالتمسك بها وبالتشبع منها، ولذلك فإنّ التعصب والطائفية والتمذهب وجود منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ولأنه أصبح وجوداً فإنه يصبح تبعاً لذلك نموذجاً، نموذجاً يتماثل ويتماهى مع وجودها ووجودهم، نموذجاً أوحد ومكتملاً وكاملاً يُبقيهم وجوداً حاضراً وشاخصاً وناطقاً ومتفجراً على قيد الكراهية والعداء، يستحضرونه دائماً ويتباهون به ويطبقونه ويتداخلون معه بذواتهم، فهل يمنحهم أو يعلمهم التعصب والتمذهب الطائفي الديني سوى أن يتعلموا ويلتزموا بالغبض والكراهية والحقد والعداء لغيرهم المختلف عنهم ديناً أو مذهباً أو عرقاً أو لغةً، أو المختلف عنهم معتقداً أو فكراً أو منهجاً، وهل تعلمهم وتمنحهم الطائفية والتعصب المذهبي والديني أن يمتلكوا الشجاعة لكي يكونوا في مستوى التسامح مع الآخر المختلف وفي مستوى التهذيب والأخلاق الإنسانية..
إن مَن يفتقد الأخلاق، أخلاق الذات المتسامحة، أخلاق الشجاعة العالية في أن يكون متسامحاً، سيفقد إنسانيته، سينحاز للتعصب والجهالة والطائفية والعنف الديني، وسينحاز لتاريخه النموذج ولأطره النابذة ولمرجعياته الحاقدة ولتعصباته المذهبية والدينية، فماذا منحتهم تعاليمهم الطائفية والدينية والتحزبية غير أن يكونوا أعداءً لهذا أو لذاك، يبغضون ويحتقرون ويكرهون وينبذون ويتعالون ويتكبرون ويحاربون ويقاتلون، وهل تشترط عليهم تعاليمهم وأدبياتهم غير أن يكونوا حاقدين ومبغضين وكارهين ونابذين ومتعالين، وهل تلزمهم تعاليمهم الطائفية والهوياتية الدينية بغير أن يلتزموا تماماً بأحقادهم وكراهياتهم وعداواتهم وتاريخهم ونموذجهم..
فأيُّ هلاك وتدمير وخراب وضياع ينتظر الإنسان حينما تفرض عليه تعاليمه الطائفية والتحزبية والدينية أن يكون مبغضاً وكارهاً وحاقداً وشاتماً ولاعناً ومهدداً ومتوعداً ومستفرغاً بالوقاحات والبذاءات، فمن الذي أعطاه كل تلك المزايا، ومَن منحه كل تلك القباحة والدمامة، ومَن أوجدَ فيه كل تلك الأخلاق البذيئة، ومَن ألزمهُ بها واشترط عليه التحلي بها ومَن هددهُ وأخافهُ من عدم التمسك بها، أليس هو ذلك التعصب الديني القابع في أعماقه بكل تفاسيره ونصوصه الطائفية وحمولاته التراثية ومنقولاته التاريخية وبكل منابره الوعظية والخطابية وطقوسه الدينية الممسرحة..
إن شتم الآخرين والانتقاص منهم والتشنيع عليهم واحتقارهم ولعنهم واستبشاعهم لهو الغذاء المفضّل لدى المتعصبين والطائفيين والمؤدلجين دينياً وفكرياً، فهو الذي يُطعم مشاعرهم وأخلاقهم ونفسياتهم بالكراهية والحقد والبغض والعداوات، وهو الغذاء الذي يتحول في ذواتهم إلى مشاعرَ بغيضة وأخلاق قبيحة ونفسيات كارهة وحاقدة، فهل تصورتم كيف سيكون عليه حال هؤلاء لو لم يجدوا أحداً يشتمونه أو يلعنونه أو يحتقرونه أو يتهمونه بالمؤامرة والتخريب والفساد، لو لم يجدوا أحداً بالتأكيد سيلعنون (الشيطان) كعادتهم دوماً لأنه الوحيد الذي يستطيع بكرمه الباذخ أن يملأ فراغ حياتهم بلعناتهم وشتائمهم وسبابهم له..
ومَن يستطيع أن يكون عاشقاً للجمال وصانعاً له وداعياً إليه ومحلقاً في ملكوته، ومَن يستطيع أن يكون عاشقاً للتسامح والحب والأخلاق النظيفة، هو ذلك الإنسان الذي استطاع أن ينتصر لإنسانيته التي تطهّرت من أوساخ التعصبات الدينية ومن لوثة المذهبيات الطائفية، وهو ذلك الإنسان الذي استطاع أن يخرج متعافياً من تخندقاته الماضوية ومن أحقاده التاريخية ومن موروثاته التراثية الاحترابية، ومَن لا يستطيع أن يخرج من تعصباته الدينية ومن جهالاته الطائفية ومن اكراهاته المذهبية الفكرية والعقائدية، فهو إنسان لم يستطع أو يتصور أو يتخيّل أن يجد نفسه في يوم ما خارج تلك الأطر والمرجعيات والمنظومات، لأنه من غيرها سيجد نفسه واقعاً في الفراغ والتيه وفي اللاهدف، لأنها صاغته وشكلته تلقينياً وبيئياً ونفسياً وشعورياً وثقافياً على أن يبقى وفياً لها ولتعاليمها، ومخلصاً لأهدافها وبرمجياتها ونصوصها ومشاريعها وأوصيائها وقادتها، وهي غذاؤه الفاسد الذي يقتات منه وجوده الطائفي والتحزبي والديني..
ومن السهل جداً ومن دون أي جهد منكَ أو عناء أو تفكير أن تؤمنَ بتعاليمك التراثية وبنصوصك وببرمجياتك المذهبية والطائفية والتعصبية والتحزبية، لأن الإيمان بها لا يحتاج منك سوى الرغبة بالإيمان بها من دون أن تأتي بدليل عقلي أو إثبات منطقي، بينما أن تكون في مستوى الشجاعة والنبل والتسامح والمحبة والأخلاق والنظافة الذاتية، وأن تكون في مستوى الفكر الإنساني الحر الرافض لكل تلك الأطر والمرجعيات والثوابت، فكل ذلك يحتاج منك جهداً كبيراً وعناءً مضاعفاً وتعباً ذاتياً فكرياً وتفكيرياً ونفسياً، وحتى حينما تذهب لكي تؤدي طقوسكَ العظيمة لا يحتاج الأمر منك إلا بعضاً من الجهد الجسدي والعضلي، بينما أن ترتفع إلى مستويات الأمانة والصدق والتسامح والحب والأخلاق الإنسانية الشجاعة، فالأمر في هذه الحالة يحتاج منكَ جهداً أخلاقياً ونفسياً وإنسانياً كبيراً لكي ترقى إلى هذه المستويات..
وأولئك الذين يخرجون دوماً على الناس شاتمينَ وكارهين ومبغضين وحاقدين ولاعنين، إنهم في حقيقة الأمر يستنفرون كل أساليبهم الدفاعية والاستحكامية للدفاع والذود عن تعاليمهم ونصوصهم ومنقولاتهم وحمولاتهم الثقافية والأيديولوجية، لأنهم يؤمنون في أعماقهم وفي مشاعرهم أن (الآخر) الذي يشتمونه ويلعنونه ويترصدونه بالكراهية والبغض متفوق عليهم، ويتفوق عليهم دائماً في كل شيء ربما، ولذلك يعتبرونه خطراً داهماً عليهم وعلى تعاليمهم وأدبياتهم ووجودهم، يجدونه خطراً يهدد دينهم وتاريخهم وتراثهم وانجازاتهم وقيمهم، وربما أيضاً حينما يكرهون ويقاتلون ويبغضون (الآخر) ليس لأنه يختلف عنهم، بل لأنه يحرز دائماً تفوقاً عظيماً عليهم، ولذلك تتحول كل عمليات الشتم واللعن والكراهية والبغض لديهم إلى أساليب وقنوات دفاعية استحكامية وهجومية أيضاً، فحينما يعجزون أن يكونوا في مستوى التفوق والانتصار والحضارة والإنسانية تصبح الشتائم واللعنات والكراهيات هويتهم وأداتهم في معركة التنافس، وتعكس في النهاية مسلكهم وشعورهم ونفسيتهم وفكرهم وثقافتهم وأخلاقهم..
وأولئك الذين يعتلون منابر الدفاع عن دينهم وتعاليمهم ومذاهبهم وطائفيتهم وتاريخهم بكل أسلحتهم الخطابية الفتاكة المحرضة على الكراهية والبغض والنبذ، وبكل صراخهم النابذ للآخر والمهمّش له والمتعالي عليه، إنهم في حقيقة الأمر يستحضرون مخزون ثقافتهم التلقينية والشفهية، ويلقون بها في هذا الطريق، إنهم يستفرغونها تعصباً وجهالة وحقداً وكراهية، إنهم ملتزمون تجاه تعاليمهم بما ألزمتهم من فروض وبرمجيات تلقينية وشفهية من دون أن يفكروا فيها ومن دون أن يملكوا حق اختيارها أو رفضها، بل وجدوها فيهم وكبروا معها تلقينياً وشفهياً وبرمجةً وانصياعاً، وكلما كانت ثقافة التلقين هائلة وصارمة ومتجذرة فيهم، كانوا أكثر شراسة في الدفاع عن تعاليمهم وتعصباتهم المذهبية والدينية والأيديولوجية، فكل ذلك التلقين والبرمجة يتحول فيهم إلى عقائدَ ومعتقدات ومذاهب ومسلكيات يساوي في زخمه وشراسته وسطوته واستمراريته، مقدار ما فيه من قوةٍ وزخم مستمر في التلقين الديني وفي ثقافة الشفاهة الخطابية وفي عمليات البرمجة العقائدية..
ولطالما أجدني في هذا السياق أتساءل: كيف لا يستشعر المتعصبون والطائفيون والمؤدلجون دينياً ومذهبياً فداحة ما هم فيه من تعصب وجهالة ونبذ واقصاء للآخرين، ولكل مَن لا يوافقهم أو لا يستحسن عالمهم أو لا يستعذِب روعة تعاليمهم، وكيف لا يستقبحون مسلكهم هذا وأخلاقهم هذه، ولا يرون في ثقافتهم وأفعالهم القباحة والبذاءة، إنهم يبقون ويستمرون هكذا، لأنهم يخافون من مجرد التفكير في التخلي عن تعصبهم وطائفيتهم وأيديولوجيتهم المذهبية والدينية، لأن الخروج على كل ذلك يفقدهم نموذجهم وتاريخهم ووجودهم وماضيهم وحاضرهم وغذاءهم، ولأنه يفقدهم سلاحهم وصراخهم واستعراضاتهم الخطابية والهتافية والشعاراتية، ولأن الخروج على كل ذلك يجعلهم في مواجهة حقيقتهم الخاوية والفارغة والهشة..
بقلم محمود كرم / كاتب كويتي