-
دخول

عرض كامل الموضوع : جي دو موبسان


achelious
16/01/2009, 11:38
في ضوء القمر ..

"اكتسب الأب "مارينيان" بحق اسم " جندي الله " كان قساً طويلاً نحيلا ًمتعصباً إلى حد ما. و لكنه كان ‏عادلاً وذا نفس متسامية و كانت معتقداته ثابتة لا تتغير و لا تتبدل فهو يعتقد انه يفهم الله فهماً واعياً كاملاً ‏و انه محيط بخططه و رغباته و نواياه. ‏
و كان أحيانا يتساءل و هو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل بها فيها " لماذا فعل الله ‏ذلك ؟" و يفكر جاهداً و يرض عن نفسه في اغلب الأحيان إذ يجد الجواب و لم يكن الأب
‏" مارينيان " من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع " إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها ‏مدارك الرجال " بل كان يقول " أنا خادم الله و علي أن أعرف السبب في أفعاله أو أن أتبين السبب إن لم ‏اعرفه " و خيل إليه أن كل شيء في الطبيعة قد خلق بمنطق مطلق جدير بالإعجاب، و أن هناك دائماً توازناً ‏بين الأشياء و مسبباتها، فالشروق وجد ليبعث البهجة في نفس الإنسان و هو يستيقظ، و النهار وجد لينضج ‏المحاصيل، و الأمطار لترويها، و الأمسيات ليستعد الإنسان للنوم و الليل الحالك للنوم، و الفصول الأربعة ‏تتفق تماماً و حاجيات الزراعة . و كان من المستحيل أن يداخل الشك الأب " مارينيان " في أن الطبيعة لا ‏هدف لها. و أن كل كائن حي هو الذي يكيف نفسه وفقا للظروف القاسية للفصول و الأجواء و المادة ذاتها.‏
و لكنه كان يكره النساء . كان يكرهن من أعماقه، و يحتقرهن بالغريزة، و كان دائماً يردد قول المسيح
‏" مالي و لك يا امرأة " و كان يضيف قائلاً أن الإنسان يستطيع القول إن الله ذاته غير راض عن المراة ‏التي خلقها.و كانت المرأة بالنسبة إليه هي الغاوية التي أغوت الإنسان الأول و ما زالت تزاول نشاطها ‏الملعون، و هي المخلوق الضعيف الخطير الذي يسبب قلقاً خفياً. و كان يكره روحها المتعطشة إلى الحب ‏أكثر مما يكره جمالها المسموم و كثيراً ما شعر بحنان النساء يداهمه فيضيق بذلك الحب الذي ينتفض دائماً ‏و أبداً في صدورهن رغم انه يعرف انه منه في حصن حصين.‏
و كان يعتقد أن الله خلق المراة لتغوي الرجل و تختبره و أن على الرجل ألا يقربها إلا و هو متسلح بالحرص ‏الذي يتسلح به و هو مقبل على كمين، فالمرأة في الواقع ليست إلا مصيدة بذراعيها الممدودتين و بشفتيها ‏المفتوحتين في انتظار الرجل. ‏
و كان الأب " مارينيان " لا يحترم ألا الراهبات اللاتي جردهن القسم من الهوى و مع ذلك كان يعاملهن ‏معاملة قاسية. إذ يلمح هذا الحنان الخالد الذي يخفق حتى في أعماق هذه القلوب الطاهرة يخفق دائماً و ‏يخفق حتى هو له و هو القس.‏
و كانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله و كان قد صمم على أن يجعل منها ‏راهبة. و كانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. و عندما يعظ تضحك و عندما يغضب تقبله في حرارة و ‏تضمه إلى قلبها بينما يسعى هو بلا وعي إلى تخليص نفسه من بين ذراعيها ومع ذلك كانت تلك الضمة تثير ‏في نفسه إحساسا حلواً، كان توقظ في قلبه ذلك الشعور الراقد في أعماق كل رجل. ‏
و كثيراً ما حدثها عن الله، عن ربه و هو يمشي إلى جوارها في الحقول و نادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر ‏إلى السماء و إلي العشب و إلى الزهور و عيناها تلمعان بفرحة الحياة و كانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ‏ثم تعود بها و هي تصيح " أنظر انظر يا خالي كم هي جميلة بودي أن اقبلها" و كانت هذه الرغبة من جانب ‏الفتاة في تقبيل الفراش و الزهور تزعج الأب و تضايقه و تثيره فقد رأي فيها دليلا على ذلك الحنان الدائم ‏الذي ينبض في قلب كل امرأة.‏
و في يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت الأب " مارينيان " أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها حبيباً.‏
و عانى الأب إحساسا مؤلما. وقف مختنقا و الصابون يغطي وجهه و هو يحلق و عندما استعاد القدرة على ‏الكلام صاح :‏
‏- كذب كذب .. أنت تكذبين يا " مالينا"‏
و لكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها و قالت :‏
‏- ليعاقبني الله أن كنت أكذب يا سيدي القس أنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك و هما يتقابلان بجانب ‏النهر، و ما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة و منتصف الليل و ستراها بنفسك.‏
و توقف الأب عن حك ذقنه و بدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. و عندما ‏حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاث جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.‏
و ظل طول اليوم ساكناً و قد امتلأ غضباً و ثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي للحب شعر أن كرامته قد أهينت ‏كأب و معلم و كراعي نفوس، شعر أن طفلة قد خدعته و سخرت منه و سلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن ‏الأناني الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهم ابنتهما أنها اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما و ضد ‏المشورة.‏
و بعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً و لكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة و ازداد غضبا على غضب. و ‏عندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه و هي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً ‏لزيارة المرضى و ابتسم و هو يراقب العصا الغليظة و قد استقرت في قبضة يده القوية. و أدار العصا في ‏الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة و هو يجز بأسنانه و انهال على كرسي فحطم ظهره.‏
و فتح باب بيته ليخرج و لكنه توقف عند بابه منبهراً . كان بهاء القمر رائعاً روعة نادرة، و استجابت روحه ‏السامية لما حوله و شعر فجأة أن جمال الليل الشاحب و جلاله و بهاؤه قد حرك قلبه. و في حديقته الصغيرة ‏التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب ‏تكسوها الخضرة و من الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوه علقت كروح عطرة بالليل ‏الدافئ الصحو. ‏
و بدأ يتنفس تنفساً عميقاً و يحتسي الهواء كما يحتسي السكير الخمر و سار ببطء مسحوراً مبهوراً حتى كاد ‏ينسى ابنة أخته و عندما وصل إلى بقعة عالية وقف يراقب الوادي أجمعه و قد امتد تحت بصره و بهاء ‏القمر يحتضنه و سحر الليل الهادئ الحنون يغرقه و نقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة و البلابل عن ‏بعد أشجاها القمر فتغنت و اختلط غناؤها في موسيقي لا تثير الفكر و إنما تثير الأحلام.‏
و استمر الأب يمشي و هو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو أن التعب و الإرهاق قد تسربا ‏إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على ما صنعت يداه.‏
و تحت بصره و حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار و فوق شطي النهر سبحت سحابة خفيفة ‏بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة و بريقها.‏
و توقف الأب من جديد و قد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد و استولى عليه دون شك القلق و شعر أن ‏سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور في عقله.‏
لماذا فعل ذلك الله ! إذا كان الليل للنوم، للإغفاء ، للراحة، للعدم ، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، و أحلى ‏من الغروب و الشروق ؟ و هذا الكوكب المبطئ الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، و الذي يضئ ‏الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال ؟ و لم لا يأوي البلبل ‏الصداح إلى النوم كغيره من الطيور و لم هذا الحس الذي يتسلل إلى الروح و هذا الخمول الذي يغزو الجسد ‏؟؟ و لم هذا الوشاح الذي ينبسط على الأرض، و هذا السحر الذي لا ينعم به الإنسان إذ يأوي إلى فراشه ‏بالليل ؟؟ لمن خلق الله هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ و لم يجد الأب ‏لهذه الأسئلة التي ثارت في نقسه جواباً.‏
و في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.‏
و كان الرجل هو الأطول، و قد التفت ذراعه حول عنق حبيبته و من وقت لآخر كان يقبلها في جبينها. و ‏فجأة دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهم و كأنها إطار الهي صنع خصيصاً من اجلهم و بدا ‏الشخصان و وكأنهما كائن واحد. الكائن الذي خلق من اجله الليل الهادئ الساكن، و اقتربا من القس كإجابة ‏حية على سؤاله أجابه بعث بها إليه ربه الأعلى.‏
وقف الأب مصعوقاً و قلبه ينبض بشدة. و تمثل قصص الإنجيل كقصة حب روث ‏Ruth‏ و بوز ‏Boaz‏ و ‏إرادة الله تتحقق في القصص الجليلة التي وردت في الكتاب المقدس. و في رأس القس ترددت آيات نشيد ‏الإنشاد، الصرخات الوالهة و نداء الجسد و الشعر الجميل في هذه القصيدة التي تتأجج حناناً و حباً و قال ‏لنفسه " ربما خلق الله مثل هذه الليلة إطاراً لمثله الأعلى ... لحب الإنسان"‏
و تراجع بعيداً عن الحبيبين اللذين تقدما يداً في يد كانت فعلا ابنة أخته . و كان الأب " مارينيان" يتساءل ‏الآن ... الم يكن على وشك الخروج على طاعة الله ؟ فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك ‏الإطار من الجمال.‏
و هرب الأب مندهشاً و هو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلاً مقدساً لا حق له في اجتيازه.‏

جي دو موبسان

personita
16/01/2009, 13:12
فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك ‏الإطار من الجمال.


فعلا، سؤال محيِّر!!;)
:D

achelious
17/01/2009, 01:46
فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك ‏الإطار من الجمال.


فعلا، سؤال محيِّر!!;)
:D
ابقى معنا:D

achelious
17/01/2009, 17:27
جى دو موبسان
(Guy de Maupassant) (1850- 1893 )

كاتب و روائي فرنسي ، و أحد آباء القصة القصيرة الحديثة. و كان عضوا في ندوة إميل زولا.

ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا ، و كان له أب من سلالة أرستقراطية تدهورت إلى مباءة الافلاس , كان أبوه اباحيا يخالط سامي النساء و دانيهن . أما أمه من سلالة من العامة سمت إلى الخلق الفني و كانت ترثى دوما ذكرى أخيها الشاعر و تطمح في ان ينشأ ابنها كرجل سوي.

درس موباسان القانون ، و التحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية . و قابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص ، و قد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء : لاحظ ، لاحظ ، ثم لاحظ.

من أشهر قصصه : "كرة الشحم" ، "بيير و جان" و من أهم قصصه القصيرة: " العقد" ، "الآنسة فيفي".
و قد كان يقول : " ان هناك من الحقائق ما يساوي الناس عداً.فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. و هو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته .. كخداع الجمال و هو تقليد انساني .. و خداع الدمامة و هو فكرة متغيرة .. و خداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين. و كبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الانسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة"

كان موباسان الرسام الأكبر للعبوس البشري و دوما ما كان يصاب بصداع و كان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891 و مات في احدى المصحات.

-تعتبر قصة الحلية "The jewel" لـ جي دي موباسان والتي ترجمها :احمد الزيات وكتبها : وسيم بركه
الأنموذج الكامل للقصة القصيرة
. وقد اجتمعت آراء النقاد في العالم علي أن هذه القصة هي الأنموذج الكامل للقصة القصيرة ذات النهاية المفاجئة,التي تتوافر فيها العناصر الأساسية للقصة القصيرة : الشخوص , والمكان والزمان , والمسوغات المنطقية للأحداث , والنهاية , كما تتوافر فيها عناصر أخرى مثل : التشويق , والمصادفة المعقولة , والتصوير الدرامي , والتدرج لبلوغ النهاية.
:mimo:

achelious
17/01/2009, 17:55
الحلية
لـ جى دو موبسان


كانت من أولئك الفتيات الأنيقات اللاتي يحسبن و لادتهن في أسرة من اسر الموظفين مصيبة ،لم يكن لديها صداق (1) يحقق الزواج السعيد،ولا رجاء يضمن العيش الرغيد،ولا وسيلة تكشفها للناس فتعرف وتفهم وتحب وتتزوج من رجل غني ثري امثل ؛فتركت قيادها للخط ، فزوجها بموظف ضعيف من موظفي وزارة المعارف العمومية.


كانت بسيطة الهندام ،لانها لم تجد زينتها وكانت معذبة النفس لانها لم تعايش طبقتها، والنساء ليس لهن طبقة و لا جنس،و إنما يقوم لهن الجمال والظرف والفتنة مقام الأصل والأسرة ،فلا تري فيهن من تفاوت ، ولا تمايز، الا بالرقة الفطرية، والأناقة الغريزية،والذهن المتصرف المرن فهي التي تجعل من سواسية بنات الشعب سيدات و عقائل.


كان الألم يلح عليها عنيفا كلما شعرت بأنها خلقت للنعيم والترف ،وهي إنما تعيش في هذا المسكن الحقير بين هذه الجدران العاطلة ،والمقاعد الحائلة،والقماش الزري (2) . كانت هذه الأشياء التي لا تفطن إليها امرأة أخري في طبقتها تحرق نفسها بالألم , وتوقد صدرها بالغضب. وكان منظر الخادمة الصغيرة البريوتية (3) التي تقوم على تدبير بيتها المتواضع و توقد في قلبها الحسرات اللاذعة والأحلام الحائرة. كانت تحلم بالاواوين (4) الصامتة تدبجها الطنافس (5) الشرقية, وتضيئها المصابيح البرنزية , وبالخادمين الفارهين في السراويل القصيرة,يرقدان في المقعد الوسيع .

وكانت تحلم بالبهو الفخم يغشية الديباج القديم , وبالاثاث الدقيق. يجمله الرياش الكريم , و بالصالون الانيق العطر يجعل لأحاديث العصر مع اخص الأصدقاء وانبه الكبراء , ممن تشتهي النساء استقبالهم.


ولما جلست إلى العشاء على المائدة المستديرة امام زوجها , وقد رفع غطاء الحساء , وقال في وجه منبسط ولهجة راضية :"الله ! ما أطيب هذا اللحم ! أني لم أشهي منه ولا ألذ , كانت هي تفكر في الأعشية الناعمة الجامعة و وفي الأدوات الفضية الامعة ,
وفي نسائج الوشي تزين الجدار بصور الاعلام البارزة في التاريخ, والاطيار الغريبة في غابة. من غاب عبقر ! كانت تفكرفي الألوان الشهية تقدم في الصحاف العجيبة و وفي الملاطفات الغزلة الهامسة وهي تأكل لحم السمك المورد و او الدراج (6) المسمن.


لم تكن تملك زينة ولا حلية ولا شيئا مما تتزين به المرأة ,وهي لا تريد إلا ذلك, و لا تظن نفسها خلقت لغير ذلك. وطالما ودت أن تكون موضع الإعجاب والغبطة , ومنتجع العيون والافئدة.


وقد كان لها صديقة غنية من رفيقات الدراسة , فكانت تكره ان تزورها , لان الالم الممض كان يرافقها وهي عائدة . وربما ظلت الايام الطوال تسفح الدموع الغزار إجابة لدواعي الأسف واليأس والحزن.


ففي ذات مساء عاد زوحها وعلى وجهه سمة الجلال , وفي يده غلاف عريض و قال : خذي ! هاك شيئا لك. ثم فض الغلاف بقوة وأخرج منه بطاقة مطبوعة كتب فيها :


" وزير المعارف العمومية وعقيلته يرجوان السيد (لوازيل) وعقيلته أن يشرفاهما بحضور الحفلة الساهرة التي ستقام في ديوان الوزارة يوم الاثنين الثامن عشر من كانون الثاني " .


ولكنها بدل أن تنبسط وتغتبط وتدهش كما كان يرجو زوجها رمت البطاقة على المائدة في غضب وسخط وهي تقول :

- ماذا تريد ان اصنع بهذه ؟
- و لكنني ظننت انك تسرين بهذا. إنك لا تخرجين ابدا , وهذه فرصة جميلة , حقا جميلة ! ولقد احتملت في سبيل الحصول على هذه البطاقة مالا تتصورين من الجهد والمشقة . كل الناس يرغبون فيها كل الرغبة , ويسعون لها كل السعي. وهم لا يعطون الموظفين منها إلا بقدر. سترين هناك العام الرسمي كله, فنظرت اليه نظرة الغضب , ثم انفجرت قائلة :

- ماذا تريد ان اضع علي جسمي هذه الحفلة ؟
لم يكن الزوج قد فكر في هذا, ولكنه أجاب في خفوت وغمغمة:
- عندك الثوب الذي تذهبين بت الي المسرح , إنه على ما أرى ملائم كل الملائمة ...

ثم أخذه الدهش و والتوى عليه الكلام حين رأى زوجته تبكي و أبصر دمعتين غليظتين تنحدران من زاويتي عينيها إلى زاويتي فمها , وقال في تمتمة :


- ماذا بك ؟! ماذا بك ؟!


فتحاملت على نفسها بالجهد العنيف , وأجابتة بصوت هادئ وهي تمسح الدمع علي خديها:
- لا شئ غير انني لا أملك ما أتزين به , ولذلك لا أستطيع الذهاب الى الحفلة , فأعط هذه البطاقة زميلا من زملائك تكون امرأته أحسن مني جهازا, وأتم أهبة. فابتأس الزوج وقال : لننظر في الأمر يا ماتيلدة ! كم تكلفنا الزينة البسيطة الملاءمة التي تغنيك في مثل هذه المناسبة؟ ففكرت بضع ثوان تحرر الحساب , وتتحرى المبلغ الذي اذا طلبته لا يثير دهش الموظف الصغير , ولا يوجب رفض الزوج المقتصد, ثم أجابت جواب المتردد :

- لا أعرف ذلك على وحه الدقة, وأظن اربعمئة فرنك تبلغ بي الى هذه الغاية!

اصفر وجه الزوج قليلا, لانه كان ادخر هذه المبلغ بتمامه ليشتري به بندقية يصطاد بها في الصيف مع بعض الاصدقاء في سهل (ننتير), ومع ذلك قال لامرأته:

ليكن! سأعطيك أربعمئة فرنك. فاجتهدي أن يكون لك منها ثوب جميل.
دنا يوم الحفل, وهيئت زينة السيدة لوازيل ,ولكنها لا تزال كما يظهر حزينة مهمومة قلقة. فقال لها زوجها ذات ليلية :


- ماذا تجدين؟ إنك منذ ثلاثة أيام في حال غريبة.


فأجابته:أني ليحزنني ألا تكون لي حلية. فلا أملك مما تتحلي به النساء شيئا من معدن أو حجر , وسأكون أسوأ من في الحفل زيا وهيئة , وأرى من الخير ألا أذهب في هذه الأمسية
فعقب علي قولها بقوله:


تتحلين بالزهور الطبيعية. ذلك أجمل شئ وأطرفه في هذا الفصل. وبعشرة فرنكات تبتاعين وردتين او ثلاث من اندر انواع الورد. فلم يند هذا الكلام على كبدها القريحة وقالت :كلا, فإن أشد الأشياء هوانا وضراعة أن نظهر في محضر الأغنياء بمظهر الفقراء.

ولكن زوجها صاح بها قائلا: ما أشد غباءك! اذهبي إلى صديقتك السيدة فورستييه فاستعيري منها بعض الحلي, فإن بينكما من قديم الصداقة ووثيق العلاقة ما يتسع لمثل ذلك, فصاحت صيحة فرح وقالت: هذا صحيح! ومن العجب انه لم يجر على بالي.

وفي صبيحة الغد ذهبت إلى صديقتها ,فقصت عليها ما همها وغمها. فلم تكد تسمع شكوتها حتى أسرعت الى خزانتها فأخرجت منها صندوقا عريضا وفتحته, وقدمتة الى السيدة لوازيل وهي تقول .. اختاري يا عزيزتي.

فوقع بصرها أول ما وقع على الأساور , ثم على عقد من اللؤلؤ, ثم على صليب بندقي من الذهب قد رصعته بالحجارة يد صناع. فجربت على نفسها الحلي في المرأة , ثم أخذتها حيرة فلم تقطع العزم على ما تأخذ وما تدع و فقالت لصديقتها: ألم يعد لديكي شئ آخر؟

فأجابتها : بلى! ابحثي. فإني لا أعرف ماذا يعجبك؟ وعلى حين بغتة وجدت في علبة من الديباج الاسود قلادة فاخرة من الماس, فخفق قلبها خفوق الرغبة الملحة, ثم تناواتها بيد مضطربة,
وتقلدتها على ثوبها المجهز فإذا هي على ما صورت في الخيال وما قدرت في الامل . فسألت صديقتها غي تردد وقلق: اتستطيعين أن تعيريني هذه القلادة! لا شئ إلا هذه القلادة فاجابتها صديقتها: نعم ولا شك. فأهوت على نحرها تقبله في حمية وطرب, ثم ولت مسرعة بهذا الكنز.

***

achelious
17/01/2009, 17:59
أقيمت الحفلة الساهرة , ونجحت السيدة لوازيل , فكانت أكثر من حضرها من النساء رشاقة ولباقة وبهجة .

تدفقت في السرور متأنقة متألقة , فاسترعت الأنظار, واستهوت القلوب , فتسابق الرجال خاصة موظفي مجلس الوزراء إلى السؤال عنها, والتعرف إليها ,والرقص معها.حتي الوزير نفسه ألقى إليها باله.

كانت ترقص في نشوة من الغبظة , وقد امحى من ذهنها كل شئ, فلم تعد تفكر إلا في انتصار جمالها ,وفي مجد انتصارها, وفي ظل رقيق من ظلال السعادة بسطته عليها التحيات التي قدمت إليها , والإعجاب الذي انهال عليها, والرغبات التي تيقظت فيها, والفوز الكامل الذي يبهج بسحره فؤاد المرأة.

تركت الحفل زهاء الساعة الرابعة من الصباح, وكان زوجها منذ منتصف الليل قد غلبه النوم فأخذ مرقده في بهو صغير خلا من الناس هو وثلاثة من المدعوين كان نسؤهم لا يزلن يقصفن (7)
في نشاط ومرح. فلما همت هي وهو بالانصراف ألقى على كتفيها الثياب التي اعدها للخروج, وهي ثياب متواضعة مبتذلة تتنافر بحقارتها مع أناقة ما تلبس من زينة المرقص. وقد شعرت هي بذلك فأرادت ان تتسلل حتى لا يلمحها النساء الأخر وهن يرتدين معاطف الفراء الفاخر . غير أن زوجها اعتاقها قائلا: انتظري ,فقد يصيبك البرد, وسأطلب عربة . ولكنها تصامت(8) كلامه , وانحدرت مسرعة علي السلم. فلما صارا في الشارع لم يجدا مركبة فمشيا, وكلما ابصرا على البعد حوذيا صاحا بت, فلا يقف.


أخذا سبيلهما إلى(السين) هابطين قانطين يقرقفان (9) من البرد, فوجدا بعد لأي (10) على رصيفه مركبة عتيقة من تلك المراكب التي تسير وهي نائمة, ثم لا تري في باريس إلا تحت الليل كأنما تخزى أن تظهر مهانتها في وضح النهار.

ركباها إلى دارهما في شارع (الشهداء) ودخلاها حزينين.

أما هي فلأنها تتحسر على انقضاء ما كانت فيه, أما هو فلأنه يتذكر أن من واجبه أن يكون في ديوان الوزارة الساعة العاشرة. نضت عن كتفيها امام المراة الثياب التي تدثرت بها حتي تنظر الي نفسها مرة اخيرة وهي في مجدها .


ولم تكد تجيل اللحظ في جيدها حتي صاحت صيحة منكرة ! إنها لم تجد على نحرها تلك الفلادة!
فأقبل عليها زوجها في نصف ثيابه يسألها ماذا أصابها فالتفتت إليه هالعة تقول: أنا .. أنا .. لا أجد قلادة السيدة فورستييه! فانتفض قائما وقد هفا قلبه من الجزع.

- ماذا ؟ كيف ؟ لا يمكن أن يكون هذا!


و طفقا يبحثان في ثنايا الثوب ، وفي طوايا المعطف ، وفي جيوب هذا وذاك ، وفي كل مكان هنا وهناك ،فلم يجداها . فقال الزوج للزوجة : أأنت على يقين من أن القلادة كانت في عنقك ساعة تركت المرقص؟ فأجابته : نعم ، ولقد لمستها بيدي وأنا في دهليز الوزارة .فقال لها: ولكنك لو فقدتها ونحن في الشارع لكنا سمعنا وقعها حين سقطت , فلا بد أن تكون في المركبة . فقالت له:نعم . هذا جائز . فهل تذكر رقم المركبة ؟ فأجابها كلا , وأنت ألم تلحظيها؟ فأجابته كلا , فرنا إليها , ورنت إليه , وكلاهما لا يملك فؤاده من الجزع .

وأخيرا , مضى لوازيل فلبس ثيابه وقال : سأرجع في الطريق التي قطعناها على الأقدام فلعلي أجدها . ثم خرج وترك امرأته في ثياب السهرة , وقد استلقت من الخور علي أحد المقاعد , لا تشتهي النوم , ولا تطلب الدفء , ولا تملك الفكر . ثم عاد في الساعة السابعة دون ان يجد شيئا . وما لبث أن ارتد إلى دائرة الشرطة يسجل المفقود , ثم إلى إدارات الصحف يعلن المكافأة , ثم إلى شركة العربات الصغيرة ينشد المركبة , ثم إلى كل مكان يهديه إليه بصيص من الأمل .


وكانت هي تنتظر طول النهار علي حالها الأليمة من الذهول والوله . وفي المساء عاد لوازيل ساهم الوجه , كاسف البال , لأنه لم يكتشف شيئا. ولما أعياه الأمر قال لزوجته : لا بد أن تكتبي إلى صديقتك تخبرينها ان مشبك القلادة انكسر , وأنك بسبيل تصليحه . ذلك يعطينا المهلة لنتخذ تدبيرا آخر . فكتبت ما أملاه عليها .

وفي آخر الأسبوع وقفت أمالها على شفا اليأس , فأعلن لوازيل أنه لا بد من وسيلة لشراء قلادة بدل القلادة.

وفي صباح الغد أخدا علبة الحلية , وذهبا بها إلى الجوهري الذي كتب اسمه عليها فسألاه عنها . فقال بعد أن رجع إلى سجلاته : لست أنا يا سيدتي الذي صنع القلادة , وإنما صنعت هذه العلبة فقط . فذهبا يضطربان في سوق الجواهر ينتقلان من صائغ إلى صائغ يسألان , ويبحثان وجدا آخر الأمر في دكان من الدكاكين قلادة من الماس تشبه في نظرهما القلادة المفقودة كل الشبه... كان ثمنها أربعين ألف فرنك , ولكن الجوهري رضي أن ينزل عنها بستة وثلاثين ألفا . فرجوا منه ألا يبيعها لأحد قبل ُثلاثة أيام , وشرطا عليه أن يعود فيشتريها منهما بأربعة وثلاثين ألف فرنك إذا هما وجدا القلادة الأولى آخر شباط .


كان لوازيل يملك ثمانية عشر ألف فرنك تركها له أبوه , فلا مناص من أن يقترض الباقي . اقترض ألفا من هذا و خمسمئة من ذاك , وخمس ليرات من هنا وثلاثا من هناك .


كتب على نفسه الصكوك المحرجة , وتردد على كل مراب , واختلف إلى كل مقرض .


عرض آخرة عمرة للخطر ,وغامر بإمضائه وهو لا يضمن الوفاء بما التزم . وفي حال يرجف لها القلب فرقا (11) , مما يتجرعه من هموم المستقبل , وما يتوقعه من بؤس العيش , وما يخشاه من حرمان الجسم ولوعة القلب , ذهب يشتري القلادة الجديدة . وضع علي منضدة الجوهري ستة وثلاثين ألف فرنك ؟
ولما أخذت السيدة فورستييه الحلية من السيدة لوازيل , قالت في هيئة من غاضبة ولهجة عاتبة : لقد كان ينبغي أن ترديها قبل ذلك , فقد كنت بحاجة إليها .

ثم رفعت العلبة من دون ان تفتحها , فكفت بذلك صديقتها ما كانت تخشاه . فلقد كانت تقول لنفسها : ماذا عسى ان تظن السيدة فورستييه إذا لحظت أن القلادة غير القلادة ؟ إلا تحسبني لصة ؟!

***

ذاقت السيدة لوازيل عيش المعوزين المر الخشن , وحملت نصيبها من ذلك دفعة واحدة في بسالة وقوة.

كان لا بد من قضاء هذا الدين الفادح وستقضيه . استغنت عن الخادم , وانتقلت من المنزل , واستأجرت غرفة على أحد السطوح , وزاولت الأعمال الغليظة في البيت وباشرت الأمور البغيضة في المطبخ و فغسلت الأطباق وأتلفت أظافرها الوردية في صدأ القدور ودسم الأواني (وصبنت) القذر من الابيضة والأقمصة والخرق ونشرتها على الحبل , ثم هبطت الشارع كل صباح لتصعد بالماء وتقف عند كل طبقة تتنفس الصعداء من التعب , ولبست لباس السوقة , واختلفت إلى الفاكهاني والبقال والجزار وعلى ذراعها السلة , فتساوم ,وتقاوم وتدفع الغبن عن كل (بارة) من نقودها القليلة . فإذا تصرم الشهر وجب عليها أن توفي صكا , وتجدد صكا , وتطلب مهلة .


وكان الزوج في المساء يشتغل بتبييض الحساب لتاجر , وفي الليل بنسخ صور لبعض الأصول , كل صفحة بربع فرنك , ودأب الزوجان على هذه الحال عشرة سنين . وفي نهاية هذه المدة كانا قد أديا الدين كله بسعره الفاحش و وربحه المركب , وكانت السيدة لوازيل قد أخلقت جدتها وبدت في رأسها رواعي المشيب .

وكان من طول قيامها بشؤون المنزل أصبحت قوية غليظة جافية . لا تكاد تراها إلا شعثاء الشعر ,حمراء اليد , مقلوبة الثوب , ترفع صوتها في الكلام , وتغسل ارض الغرف بالماء الغمر , ولكنك تراها في بعض أوقاتها تجلس إلى النافذة حين يجلس زوجها إلى المكتب , فتفكر في تلك الأمسية الذاهبة في تلك الحفلة الساهرة التي كانت فيها مهوى القلوب , ومراد الأعين . ما الذي يحدث لو أن هذه الحلية لم تفقد؟
من يدري ؟ إن الحياة غريبة الأطوار سريعة التقلب ! وإن موتك أو حياتك قد يكونان رهنا بأحقر الأشياء !


***

وفي ذات أحد من الآحاد بينما كانت ماتيلدة ترفه عن نفسها عناء الأسبوع في رياض (الشانزليزيه) وقع بصرها فجأة على السيدة فورستييه ,ومعها طفل تنزهه وتروضه. وكانت لا تزال رفافة البشرة , رائقة الحسن ’ فتانة الملامح ,فاعتراها لدى مرآها اضطراب وقلق . أتذهب إليها فتكلمها! نعم! ولم لا ؟ لقد أدت الآن كل ما عليها , فلم لا تفضي بكل شئ إليها ؟

دنت السيدة لوازيل من صديقتها القديمة وقالت لها:
صباح الخير يا جان!
ولكن صديقتها أنكرتها , وأدهشها أن تسمع امرأة مع عرض الطريق بهذه الألفة , وتناديها من غير كلفة ,فقالت مغمغمة:
ولكن .. سيدتي ... لا بد أن يكون الأمر قد اشتبه عليك . فقالت لها: كلا! أنا ماتيلدة لوازيل .
فصاحت السيدة صيحة الدهش , وقالت : أوه! صديقتي المسكينة ماتيلدة ! لشدة ما تغيرت بعدي !
فقالت: نعم! لقد كابدت برحاء الهموم (12) عانيت بأساء منذ غبت عنك , وذلك كله بسببك .


- بسببي؟ وكيف ذلك؟
- إنك تذكرين ولا شك تلك القلادة الماسية التي أعرتني إياها يوم حفلة الوزارة.
- نعم , وبعد؟
- إنني أضعتها.
- وكيف أضعتها وقد رددتها إلي؟
- لقد رددت إليك قلادة أخرى تشبهها كل الشبه.


وها هي تلك عشرة أعوام قضيناها في أداء ثمنها . وليس ذلك باليسير علينا كما تعلمين, فاليد خالية, والمورد ناضب, والجهد قليل ,وقد انتهى الأمر والحمد لله , وأصبحت على هذه الشدة راضية مغتبطة , فقالت السيدة فورستييه في تؤدة وبطء:
- أتقولين إنك اشتريت قلادة من الماس بدل قلادتي؟
- نعم. ألم تلاحظي ذلك؟ هه ؟ إنها لا تختلف عنها في شئ .

وكانت شفتاها قد افترتا عن ابتسامة تنم على الكبر والسذاجة , ولكن السيدة فورستييه أخذت يديها في يديها , وقالت لها في لهجة الإشفاق والعجب :
- مسكينة يا صديقتي ماتيلدة !
إن قلادتي كانت كاذبة !
وما كان ثمنها يزيد عن خمسمئة فرنك !!


(تمت)..

ترجمها :احمد الزيات
كتبها : وسيم بركه
__________________
(1) مهر الزوجة
(2) المهترئ.
(3) من الجنس البريوتي.
(4) القصور.
(5) البسط.
(6) نوع من الطيور.
(7) يرقصن.
(8) تظاهرت انها صماء.
(9) يرجفان.
(10) مشقة.
(11) خوفا شديدا.
(12) شدة الهموم.