achelious
16/01/2009, 11:38
في ضوء القمر ..
"اكتسب الأب "مارينيان" بحق اسم " جندي الله " كان قساً طويلاً نحيلا ًمتعصباً إلى حد ما. و لكنه كان عادلاً وذا نفس متسامية و كانت معتقداته ثابتة لا تتغير و لا تتبدل فهو يعتقد انه يفهم الله فهماً واعياً كاملاً و انه محيط بخططه و رغباته و نواياه.
و كان أحيانا يتساءل و هو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل بها فيها " لماذا فعل الله ذلك ؟" و يفكر جاهداً و يرض عن نفسه في اغلب الأحيان إذ يجد الجواب و لم يكن الأب
" مارينيان " من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع " إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال " بل كان يقول " أنا خادم الله و علي أن أعرف السبب في أفعاله أو أن أتبين السبب إن لم اعرفه " و خيل إليه أن كل شيء في الطبيعة قد خلق بمنطق مطلق جدير بالإعجاب، و أن هناك دائماً توازناً بين الأشياء و مسبباتها، فالشروق وجد ليبعث البهجة في نفس الإنسان و هو يستيقظ، و النهار وجد لينضج المحاصيل، و الأمطار لترويها، و الأمسيات ليستعد الإنسان للنوم و الليل الحالك للنوم، و الفصول الأربعة تتفق تماماً و حاجيات الزراعة . و كان من المستحيل أن يداخل الشك الأب " مارينيان " في أن الطبيعة لا هدف لها. و أن كل كائن حي هو الذي يكيف نفسه وفقا للظروف القاسية للفصول و الأجواء و المادة ذاتها.
و لكنه كان يكره النساء . كان يكرهن من أعماقه، و يحتقرهن بالغريزة، و كان دائماً يردد قول المسيح
" مالي و لك يا امرأة " و كان يضيف قائلاً أن الإنسان يستطيع القول إن الله ذاته غير راض عن المراة التي خلقها.و كانت المرأة بالنسبة إليه هي الغاوية التي أغوت الإنسان الأول و ما زالت تزاول نشاطها الملعون، و هي المخلوق الضعيف الخطير الذي يسبب قلقاً خفياً. و كان يكره روحها المتعطشة إلى الحب أكثر مما يكره جمالها المسموم و كثيراً ما شعر بحنان النساء يداهمه فيضيق بذلك الحب الذي ينتفض دائماً و أبداً في صدورهن رغم انه يعرف انه منه في حصن حصين.
و كان يعتقد أن الله خلق المراة لتغوي الرجل و تختبره و أن على الرجل ألا يقربها إلا و هو متسلح بالحرص الذي يتسلح به و هو مقبل على كمين، فالمرأة في الواقع ليست إلا مصيدة بذراعيها الممدودتين و بشفتيها المفتوحتين في انتظار الرجل.
و كان الأب " مارينيان " لا يحترم ألا الراهبات اللاتي جردهن القسم من الهوى و مع ذلك كان يعاملهن معاملة قاسية. إذ يلمح هذا الحنان الخالد الذي يخفق حتى في أعماق هذه القلوب الطاهرة يخفق دائماً و يخفق حتى هو له و هو القس.
و كانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله و كان قد صمم على أن يجعل منها راهبة. و كانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. و عندما يعظ تضحك و عندما يغضب تقبله في حرارة و تضمه إلى قلبها بينما يسعى هو بلا وعي إلى تخليص نفسه من بين ذراعيها ومع ذلك كانت تلك الضمة تثير في نفسه إحساسا حلواً، كان توقظ في قلبه ذلك الشعور الراقد في أعماق كل رجل.
و كثيراً ما حدثها عن الله، عن ربه و هو يمشي إلى جوارها في الحقول و نادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر إلى السماء و إلي العشب و إلى الزهور و عيناها تلمعان بفرحة الحياة و كانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها و هي تصيح " أنظر انظر يا خالي كم هي جميلة بودي أن اقبلها" و كانت هذه الرغبة من جانب الفتاة في تقبيل الفراش و الزهور تزعج الأب و تضايقه و تثيره فقد رأي فيها دليلا على ذلك الحنان الدائم الذي ينبض في قلب كل امرأة.
و في يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت الأب " مارينيان " أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها حبيباً.
و عانى الأب إحساسا مؤلما. وقف مختنقا و الصابون يغطي وجهه و هو يحلق و عندما استعاد القدرة على الكلام صاح :
- كذب كذب .. أنت تكذبين يا " مالينا"
و لكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها و قالت :
- ليعاقبني الله أن كنت أكذب يا سيدي القس أنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك و هما يتقابلان بجانب النهر، و ما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة و منتصف الليل و ستراها بنفسك.
و توقف الأب عن حك ذقنه و بدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. و عندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاث جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.
و ظل طول اليوم ساكناً و قد امتلأ غضباً و ثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي للحب شعر أن كرامته قد أهينت كأب و معلم و كراعي نفوس، شعر أن طفلة قد خدعته و سخرت منه و سلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن الأناني الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهم ابنتهما أنها اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما و ضد المشورة.
و بعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً و لكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة و ازداد غضبا على غضب. و عندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه و هي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى و ابتسم و هو يراقب العصا الغليظة و قد استقرت في قبضة يده القوية. و أدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة و هو يجز بأسنانه و انهال على كرسي فحطم ظهره.
و فتح باب بيته ليخرج و لكنه توقف عند بابه منبهراً . كان بهاء القمر رائعاً روعة نادرة، و استجابت روحه السامية لما حوله و شعر فجأة أن جمال الليل الشاحب و جلاله و بهاؤه قد حرك قلبه. و في حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة و من الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوه علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.
و بدأ يتنفس تنفساً عميقاً و يحتسي الهواء كما يحتسي السكير الخمر و سار ببطء مسحوراً مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته و عندما وصل إلى بقعة عالية وقف يراقب الوادي أجمعه و قد امتد تحت بصره و بهاء القمر يحتضنه و سحر الليل الهادئ الحنون يغرقه و نقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة و البلابل عن بعد أشجاها القمر فتغنت و اختلط غناؤها في موسيقي لا تثير الفكر و إنما تثير الأحلام.
و استمر الأب يمشي و هو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو أن التعب و الإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على ما صنعت يداه.
و تحت بصره و حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار و فوق شطي النهر سبحت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة و بريقها.
و توقف الأب من جديد و قد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد و استولى عليه دون شك القلق و شعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور في عقله.
لماذا فعل ذلك الله ! إذا كان الليل للنوم، للإغفاء ، للراحة، للعدم ، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، و أحلى من الغروب و الشروق ؟ و هذا الكوكب المبطئ الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، و الذي يضئ الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال ؟ و لم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور و لم هذا الحس الذي يتسلل إلى الروح و هذا الخمول الذي يغزو الجسد ؟؟ و لم هذا الوشاح الذي ينبسط على الأرض، و هذا السحر الذي لا ينعم به الإنسان إذ يأوي إلى فراشه بالليل ؟؟ لمن خلق الله هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ و لم يجد الأب لهذه الأسئلة التي ثارت في نقسه جواباً.
و في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.
و كان الرجل هو الأطول، و قد التفت ذراعه حول عنق حبيبته و من وقت لآخر كان يقبلها في جبينها. و فجأة دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهم و كأنها إطار الهي صنع خصيصاً من اجلهم و بدا الشخصان و وكأنهما كائن واحد. الكائن الذي خلق من اجله الليل الهادئ الساكن، و اقتربا من القس كإجابة حية على سؤاله أجابه بعث بها إليه ربه الأعلى.
وقف الأب مصعوقاً و قلبه ينبض بشدة. و تمثل قصص الإنجيل كقصة حب روث Ruth و بوز Boaz و إرادة الله تتحقق في القصص الجليلة التي وردت في الكتاب المقدس. و في رأس القس ترددت آيات نشيد الإنشاد، الصرخات الوالهة و نداء الجسد و الشعر الجميل في هذه القصيدة التي تتأجج حناناً و حباً و قال لنفسه " ربما خلق الله مثل هذه الليلة إطاراً لمثله الأعلى ... لحب الإنسان"
و تراجع بعيداً عن الحبيبين اللذين تقدما يداً في يد كانت فعلا ابنة أخته . و كان الأب " مارينيان" يتساءل الآن ... الم يكن على وشك الخروج على طاعة الله ؟ فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك الإطار من الجمال.
و هرب الأب مندهشاً و هو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلاً مقدساً لا حق له في اجتيازه.
جي دو موبسان
"اكتسب الأب "مارينيان" بحق اسم " جندي الله " كان قساً طويلاً نحيلا ًمتعصباً إلى حد ما. و لكنه كان عادلاً وذا نفس متسامية و كانت معتقداته ثابتة لا تتغير و لا تتبدل فهو يعتقد انه يفهم الله فهماً واعياً كاملاً و انه محيط بخططه و رغباته و نواياه.
و كان أحيانا يتساءل و هو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل بها فيها " لماذا فعل الله ذلك ؟" و يفكر جاهداً و يرض عن نفسه في اغلب الأحيان إذ يجد الجواب و لم يكن الأب
" مارينيان " من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع " إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال " بل كان يقول " أنا خادم الله و علي أن أعرف السبب في أفعاله أو أن أتبين السبب إن لم اعرفه " و خيل إليه أن كل شيء في الطبيعة قد خلق بمنطق مطلق جدير بالإعجاب، و أن هناك دائماً توازناً بين الأشياء و مسبباتها، فالشروق وجد ليبعث البهجة في نفس الإنسان و هو يستيقظ، و النهار وجد لينضج المحاصيل، و الأمطار لترويها، و الأمسيات ليستعد الإنسان للنوم و الليل الحالك للنوم، و الفصول الأربعة تتفق تماماً و حاجيات الزراعة . و كان من المستحيل أن يداخل الشك الأب " مارينيان " في أن الطبيعة لا هدف لها. و أن كل كائن حي هو الذي يكيف نفسه وفقا للظروف القاسية للفصول و الأجواء و المادة ذاتها.
و لكنه كان يكره النساء . كان يكرهن من أعماقه، و يحتقرهن بالغريزة، و كان دائماً يردد قول المسيح
" مالي و لك يا امرأة " و كان يضيف قائلاً أن الإنسان يستطيع القول إن الله ذاته غير راض عن المراة التي خلقها.و كانت المرأة بالنسبة إليه هي الغاوية التي أغوت الإنسان الأول و ما زالت تزاول نشاطها الملعون، و هي المخلوق الضعيف الخطير الذي يسبب قلقاً خفياً. و كان يكره روحها المتعطشة إلى الحب أكثر مما يكره جمالها المسموم و كثيراً ما شعر بحنان النساء يداهمه فيضيق بذلك الحب الذي ينتفض دائماً و أبداً في صدورهن رغم انه يعرف انه منه في حصن حصين.
و كان يعتقد أن الله خلق المراة لتغوي الرجل و تختبره و أن على الرجل ألا يقربها إلا و هو متسلح بالحرص الذي يتسلح به و هو مقبل على كمين، فالمرأة في الواقع ليست إلا مصيدة بذراعيها الممدودتين و بشفتيها المفتوحتين في انتظار الرجل.
و كان الأب " مارينيان " لا يحترم ألا الراهبات اللاتي جردهن القسم من الهوى و مع ذلك كان يعاملهن معاملة قاسية. إذ يلمح هذا الحنان الخالد الذي يخفق حتى في أعماق هذه القلوب الطاهرة يخفق دائماً و يخفق حتى هو له و هو القس.
و كانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله و كان قد صمم على أن يجعل منها راهبة. و كانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. و عندما يعظ تضحك و عندما يغضب تقبله في حرارة و تضمه إلى قلبها بينما يسعى هو بلا وعي إلى تخليص نفسه من بين ذراعيها ومع ذلك كانت تلك الضمة تثير في نفسه إحساسا حلواً، كان توقظ في قلبه ذلك الشعور الراقد في أعماق كل رجل.
و كثيراً ما حدثها عن الله، عن ربه و هو يمشي إلى جوارها في الحقول و نادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر إلى السماء و إلي العشب و إلى الزهور و عيناها تلمعان بفرحة الحياة و كانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها و هي تصيح " أنظر انظر يا خالي كم هي جميلة بودي أن اقبلها" و كانت هذه الرغبة من جانب الفتاة في تقبيل الفراش و الزهور تزعج الأب و تضايقه و تثيره فقد رأي فيها دليلا على ذلك الحنان الدائم الذي ينبض في قلب كل امرأة.
و في يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت الأب " مارينيان " أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها حبيباً.
و عانى الأب إحساسا مؤلما. وقف مختنقا و الصابون يغطي وجهه و هو يحلق و عندما استعاد القدرة على الكلام صاح :
- كذب كذب .. أنت تكذبين يا " مالينا"
و لكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها و قالت :
- ليعاقبني الله أن كنت أكذب يا سيدي القس أنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك و هما يتقابلان بجانب النهر، و ما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة و منتصف الليل و ستراها بنفسك.
و توقف الأب عن حك ذقنه و بدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. و عندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاث جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.
و ظل طول اليوم ساكناً و قد امتلأ غضباً و ثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي للحب شعر أن كرامته قد أهينت كأب و معلم و كراعي نفوس، شعر أن طفلة قد خدعته و سخرت منه و سلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن الأناني الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهم ابنتهما أنها اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما و ضد المشورة.
و بعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً و لكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة و ازداد غضبا على غضب. و عندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه و هي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى و ابتسم و هو يراقب العصا الغليظة و قد استقرت في قبضة يده القوية. و أدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة و هو يجز بأسنانه و انهال على كرسي فحطم ظهره.
و فتح باب بيته ليخرج و لكنه توقف عند بابه منبهراً . كان بهاء القمر رائعاً روعة نادرة، و استجابت روحه السامية لما حوله و شعر فجأة أن جمال الليل الشاحب و جلاله و بهاؤه قد حرك قلبه. و في حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة و من الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوه علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.
و بدأ يتنفس تنفساً عميقاً و يحتسي الهواء كما يحتسي السكير الخمر و سار ببطء مسحوراً مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته و عندما وصل إلى بقعة عالية وقف يراقب الوادي أجمعه و قد امتد تحت بصره و بهاء القمر يحتضنه و سحر الليل الهادئ الحنون يغرقه و نقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة و البلابل عن بعد أشجاها القمر فتغنت و اختلط غناؤها في موسيقي لا تثير الفكر و إنما تثير الأحلام.
و استمر الأب يمشي و هو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو أن التعب و الإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على ما صنعت يداه.
و تحت بصره و حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار و فوق شطي النهر سبحت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة و بريقها.
و توقف الأب من جديد و قد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد و استولى عليه دون شك القلق و شعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور في عقله.
لماذا فعل ذلك الله ! إذا كان الليل للنوم، للإغفاء ، للراحة، للعدم ، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، و أحلى من الغروب و الشروق ؟ و هذا الكوكب المبطئ الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، و الذي يضئ الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال ؟ و لم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور و لم هذا الحس الذي يتسلل إلى الروح و هذا الخمول الذي يغزو الجسد ؟؟ و لم هذا الوشاح الذي ينبسط على الأرض، و هذا السحر الذي لا ينعم به الإنسان إذ يأوي إلى فراشه بالليل ؟؟ لمن خلق الله هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ و لم يجد الأب لهذه الأسئلة التي ثارت في نقسه جواباً.
و في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.
و كان الرجل هو الأطول، و قد التفت ذراعه حول عنق حبيبته و من وقت لآخر كان يقبلها في جبينها. و فجأة دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهم و كأنها إطار الهي صنع خصيصاً من اجلهم و بدا الشخصان و وكأنهما كائن واحد. الكائن الذي خلق من اجله الليل الهادئ الساكن، و اقتربا من القس كإجابة حية على سؤاله أجابه بعث بها إليه ربه الأعلى.
وقف الأب مصعوقاً و قلبه ينبض بشدة. و تمثل قصص الإنجيل كقصة حب روث Ruth و بوز Boaz و إرادة الله تتحقق في القصص الجليلة التي وردت في الكتاب المقدس. و في رأس القس ترددت آيات نشيد الإنشاد، الصرخات الوالهة و نداء الجسد و الشعر الجميل في هذه القصيدة التي تتأجج حناناً و حباً و قال لنفسه " ربما خلق الله مثل هذه الليلة إطاراً لمثله الأعلى ... لحب الإنسان"
و تراجع بعيداً عن الحبيبين اللذين تقدما يداً في يد كانت فعلا ابنة أخته . و كان الأب " مارينيان" يتساءل الآن ... الم يكن على وشك الخروج على طاعة الله ؟ فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك الإطار من الجمال.
و هرب الأب مندهشاً و هو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلاً مقدساً لا حق له في اجتيازه.
جي دو موبسان