sona78
11/01/2009, 23:12
من حسن حظّ الصهيونيّة، أن الفضائيّات والإنترنت لم تكن موجودة في عام 1948. كان خداعُنا أسهل. ربما كانت الشعوب العربيّة شاهدت بأم العين درجة التواطؤ العربيّة، كما تراها اليوم بأم العين على وجه أحمد أبو الغيط الكالح
أسعد أبو خليل*
كانت الصهيونيّة في الماضي، قادرة على التأثير (مباشرة أو بصورة غير مباشرة) على الرأي العام العربي عبر عدد قليل من المطبوعات والإذاعات. والمراجع العبريّة تذكر عدداً من المطبوعات العربيّة التي كانت تتلقّى رشى، بما فيها جريدة «الهدى» النيويوركيّة ــــ اللبنانيّة. والياس ربابي كان مُكَرّساً لتلقّي المال الإسرائيلي، قبل أعوام من قصة جوزف أبو خليل المُضحِكة عن المركب عبر البحر للاتصال بإسرائيل، وكأن الحلف الكتائبي ــــ الصهيوني بدأ في خضم الحرب الأهليّة. الحرب النفسيّة كانت دائماً عنصراً أساسيّاً في الخطة الصهيونيّة للسيطرة على فلسطين ولإخضاع العالم العربي برمّته في ما بعد. لكن العالم العربي كان منصرفاً لما هو أهم آنذاك: كنّا منشغلين بوضع الأغاني والأناشيد عن فلسطين، كما كنّا نَعِدُ العدوّ بقوّة خارقة لا تُقهر من الجيوش العربيّة، كي نضمن قتالاً شديداً من قِبَلِهم: قُل إنها الحرب العربيّة النفسيّة، لكن لمصلحة إسرائيل. كيف يمكن، مثلاً، تصنيف تصريحات حسن البنّا عن «رمي اليهود في البحر» عام 1948؟ ألم تكن العبارة من أكبر الخدمات للدعاية الصهيونيّة، إلى درجة أن الصهيونية عزتها زوراً بعد ذلك إلى أحمد الشقيري وجمال عبد الناصر؟ لكن قدرة العدو في السيطرة على وسائل الإعلام تناقصت رغم دلائل تشجيعيّة للعدو في وسائل الإعلام العربيّة.
كيف تصنّف إصرار محطة ورثة الملك فهد (لا يزال رضوان السيّد يبكيه بحرقة بالغة) على تذكير الرأي العام بعدد طائرات العدو وغوّاصاته من دون توقّف؟ كيف تفسّر نشر موقع سعودي إباحي ــــ سوقي لمقالة بعنوان «الجيش الإسرائيلي يسحق عملاء إيران في غزة»، ثم يعود ذلك الموقع للتسويغ عبر القول إنه «محايد» حيال ما يجري في غزة؟ وماذا عن نفحة التعاطف مع البيانات العسكريّة الإسرائيليّة في نشرة آل الحريري؟ كيف تصنّف، مثلاً، إصرار مواقع سعودية وحريريّة على وضع المقاومة في وضع لا يمكنها فيه أن تنجح: فهي مُلامة إذا انتصرت لأنها دَفّعت البلاد أثماناً باهظة، وهي مُلامة إذا خسرت، لأن الكفاح المسلّح لا فائدة له؟ وموقع لصحافي في نشرة آل الحريري يلوم حزب الله إذا لوّح بمساعدة «حماس»، ثم يلومه لعدم فعل شيء لمساعدة «حماس»؟
وعندما ترى المقالات الطوال في الإعلام العبري عن تحضيرات قبل شهور لغزو غزة، تتيقّن أن إثارة الفتنة السنيّة ــــ الشيعيّة كانت من أجل إقناع الرأي العام العربي بأن إيران هي العدو، وليس إسرائيل. ولكن عندما ترى مشاهد التظاهرات في طول العالم العربي وعرضه، (لا) تأسف لضياع الملايين من دولارات الدعاية في موازنة آل سعود. كيف تحلّل مقولة «عضو قيادي» في حركة يساريّة متحالفة مع آل سعود عندما يحدّثك عن «الفكر الغيبي» لـ «حماس»، فيما تنهال الصواريخ والقنابل فوق رؤوس الأطفال في غزة؟ ماذا تفعل بأقنية فضائيّة عربيّة تصرّ على استضافة مهذّبة لأبواق جيش الاحتلال، وكأن الإعلام الأميركي الذي يتمثّلون به كان يستضيف ممثلي الأعداء في خضمّ الحروب؟
أما عن التوافق والتطابق والتكامل والتناغم بين خطاب 14 آذار ومصالح إسرائيل المُعلنة والمخفيّة، فعليكَ ألا تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة، أو التحالف بين الطرفيْن، حتى لو رأيت صورةً لجائزة درع الأرز التي تسلّمها جون بولتون، الذي يقع على يمين أرييل شارون في مروحة التيّارات الصهيونيّة. ثم كيف تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة وهناك نظريّة «صاءبت» ـــــ أي أن الصدفة وحدها تفسّر التوافق بين الحركتين؟
أستطيع أن أبدأ في حديث تقارير «التنمية البشرية» التي صمّت آذاننا منذ اندلاع عقيدة بوش. هل هي صدفة؟ نحن نعلم أن كل مصاريف الأمم المتحدة تخضع لموافقة وإذن أميركيين منذ وافقت الولايات المتحدة بشروط على دفع ما توجب عليها من متأخّرات للأمم المتحدة في التسعينيات. وتقارير التنمية وحدها تخضع لكرم أميركي غير معهود بوجود تقتير أميركي في كل نفقات الأمم المتحدة. وتقارير التنمية تهدف ليس فقط إلى التحقير الذاتي (أننا متخلّفون) بل إلى الإلهاء: أي أنه علينا ترجمة كتب برنارد لويس وتوماس فريدمان بدلاً من التفكير بمقاومة العدو وبالكفاح من أجل العدالة الاجتماعية (والهدفان غائبان تماماً عن أولويّات تقارير التنمية المُجترّة باستثناء كلام عام ومبهم في الديباجة عن «ضرر الاحتلالات»، وكفى القراء شرّ المقاومة وشرّ المساواة الطبقيّة). ومؤسّسة «فكرية» تابعة للأمير خالد الفيصل (هل يجتمع الفكر بالنفط؟ إلا عندنا، وهل تستطيع أن تمزج الفكر بالنفط من دون أن تلوّثَه؟) سارت على صراط تقارير التنمية وعاجَلَتنا بتقارير كئيبة عن عدد القراء العرب. وبثت محطات فضائية التقارير تلو التقارير عن قلة القراء العرب، وهم دائماً يستشهدون بما قاله دايان عن العرب.
أولاً، لم يقل دايان هذا الكلام. ثانياً، وما همّ لو قاله ديان؟ هل أصبح دايان خبيراً في الثقافة العربيّة وفي المطالعة؟ وثالثاً، لماذا دائماً نأخذ الحكمة من أفواه... الصهاينة؟ ما هي مكامن العقدة المُتحكمة التي تدفع بالصحافيّين والسياسيّين والأكاديميّين للاستشهاد الدائم بإسرائيليّين؟ وهناك من لا يزال يستشهد بزئيف شيف، وهو في القبور. رابعاً، من قرّر هكذا، على غرار الإعلام المُعادي، أن دايان كان عبقرياً، حتى عسكريّاً؟ ليس من عبقريّته، وإنما من مزايا أعدائه من طراز زعماء كمجيد أرسلان (مع بعكوره) ومصطفى طلاس ــــ مصطفى طلاس يا محسنين ومحسنات ــــ وعبد الحكيم عامر. أي جندي في أي جيش كان أكثر كفاءة من هؤلاء الثلاثة (أو من الياس المرّ). (ونحن نفعل الشيء نفسه في المبالغة حول كفاءة أرييل شارون العسكريّة، مع أن القائد في الجانب الآخر كان الحاج إسماعيل ــــ الحاج إسماعيل يا محسنين ومحسنات). خامساً، من يصدِّق أن هناك إحصاءات موثوقة عن نسبة القراءة والقرّاء في العالم العربي؟ هذه تخمينات أقرب إلى الخزعبلات، وقد نشر الصحافي البريطاني بريان ويتاكر (وهو رصين وقدير رغم تأليفه كتاباً فضائحياً غير رصين عن المثليّين في العالم العربي) نقداً مُقنعاً لتقارير التنمية (الاستعمارية ــــ يجب القول).
ثم لماذا تعطّشت الدول الغربيّة لتقارير التنمية هكذا فجأة في عهد بوش عندما كان يعدُّ للحرب على العراق؟ ولماذا سارع توماس فريدمان (مؤلف مبادرة الملك عبد الله للتطبيع مع إسرائيل) إلى الترويج للتقارير، الواحد تلو الآخر؟ هل هي الصدفة مرّة أخرى؟ وكيف يمكن تعداد الكتب؟ وهل هناك من أخبرَ معدّي (ومعدّات) التقارير أننا في العالم العربي (وفي كل الأصقاع الفقيرة) نلجأ إلى قرصنة كل شيء، لفخرِ الفقراء؟ والقرصنة غائبة عن التعداد التنموي. هل يمكن، مثلاً، أن نرصد مدى استهلاك برامج الكومبيوتر في العالم العربي عبر رصد المبيعات فقط، فيما معظم البرامج المُستعمَلة مُقرصنة وغير خاضعة للدراسة ولأرقام الإحصاءات؟ ثم طبيعة القراءة في العالم العربي تختلف عنه في الغرب؟ الكتاب الواحد في قرية واحدة يتناقله أبناء البلدة الواحدة وبناتها. الكتاب الواحد يشير إلى قارئ واحد في الغرب، لا في الشرق حيث التناقل في غياب المكتبات العامّة مألوف.
لكن الحرب النفسيّة بدأت باكراً في تاريخ الصهيونيّة. علمت الصهيونيّة أنها تحتاج إلى الخداع وإثارة العصبيّات من أجل أن تسود. الكتب العبريّة تتحدّث اليوم عن خطة وُضعت عام 1920 إثر زيارة لحاييم وايزمان (الصديق لعدد من القادة العرب آنذاك، بمن فيهم رياض الصلح) لأرض فلسطين. وضع جهاز الاستخبارت الصهيوني خطة للتأثير (عبر المال) على الصحافة العربيّة، بالإضافة إلى «إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين» (راجع كتاب هيليل كوهين، «جيش من الظلال»، ص. 17). وقد يكون الإنجاز الأكبر للصهيونيّة هو في إقناع الرأي العام العربي بعمق معرفة الاستخبارات الإسرائيليّة بشؤوننا وشجوننا إلى درجة أشعرتنا بالعجز واليأس معاً. أراد الصهاينة أن يقنعوا العربي (والعربيّة) بأنهم موجودون في مخادعنا، يعرفون عنّا أكثر ما نعرفه عن أنفسنا.
إن نجاح الاستخبارات الإسرائليّة هو في الترويج لنفسها بيننا، لا في نجاحاتها أو إنجازاتها. لا يعلم العربي إلا القليل القليل عن إنجازات استخبارات أبو أياد، مثلاً، فيما هو يبالغ في علمه (غير المبني على حقائق) عن نجاح إسرائيل. قصة إيلي كوهين شغلت أكثر من قصّاص (وكتاب «رَجُلنا في دمشق» تُرجم إلى أكثر من لغة) وحَبَكت أكثر من فيلم في الغرب. لكن نجاح الجاسوس المذكور مُبالغ فيه. جعلوا منه أهم رجل في البلاد، وصديقاً شخصياً لأمين الحافظ (واختلق الصهاينة معرفة بين الحافظ وكوهين في الأرجنتين فيما لم يتزامن الرجلان هناك). لكن فشل الموساد الذريع لم يلقَ أي اهتمام في الغرب.
أسعد أبو خليل*
كانت الصهيونيّة في الماضي، قادرة على التأثير (مباشرة أو بصورة غير مباشرة) على الرأي العام العربي عبر عدد قليل من المطبوعات والإذاعات. والمراجع العبريّة تذكر عدداً من المطبوعات العربيّة التي كانت تتلقّى رشى، بما فيها جريدة «الهدى» النيويوركيّة ــــ اللبنانيّة. والياس ربابي كان مُكَرّساً لتلقّي المال الإسرائيلي، قبل أعوام من قصة جوزف أبو خليل المُضحِكة عن المركب عبر البحر للاتصال بإسرائيل، وكأن الحلف الكتائبي ــــ الصهيوني بدأ في خضم الحرب الأهليّة. الحرب النفسيّة كانت دائماً عنصراً أساسيّاً في الخطة الصهيونيّة للسيطرة على فلسطين ولإخضاع العالم العربي برمّته في ما بعد. لكن العالم العربي كان منصرفاً لما هو أهم آنذاك: كنّا منشغلين بوضع الأغاني والأناشيد عن فلسطين، كما كنّا نَعِدُ العدوّ بقوّة خارقة لا تُقهر من الجيوش العربيّة، كي نضمن قتالاً شديداً من قِبَلِهم: قُل إنها الحرب العربيّة النفسيّة، لكن لمصلحة إسرائيل. كيف يمكن، مثلاً، تصنيف تصريحات حسن البنّا عن «رمي اليهود في البحر» عام 1948؟ ألم تكن العبارة من أكبر الخدمات للدعاية الصهيونيّة، إلى درجة أن الصهيونية عزتها زوراً بعد ذلك إلى أحمد الشقيري وجمال عبد الناصر؟ لكن قدرة العدو في السيطرة على وسائل الإعلام تناقصت رغم دلائل تشجيعيّة للعدو في وسائل الإعلام العربيّة.
كيف تصنّف إصرار محطة ورثة الملك فهد (لا يزال رضوان السيّد يبكيه بحرقة بالغة) على تذكير الرأي العام بعدد طائرات العدو وغوّاصاته من دون توقّف؟ كيف تفسّر نشر موقع سعودي إباحي ــــ سوقي لمقالة بعنوان «الجيش الإسرائيلي يسحق عملاء إيران في غزة»، ثم يعود ذلك الموقع للتسويغ عبر القول إنه «محايد» حيال ما يجري في غزة؟ وماذا عن نفحة التعاطف مع البيانات العسكريّة الإسرائيليّة في نشرة آل الحريري؟ كيف تصنّف، مثلاً، إصرار مواقع سعودية وحريريّة على وضع المقاومة في وضع لا يمكنها فيه أن تنجح: فهي مُلامة إذا انتصرت لأنها دَفّعت البلاد أثماناً باهظة، وهي مُلامة إذا خسرت، لأن الكفاح المسلّح لا فائدة له؟ وموقع لصحافي في نشرة آل الحريري يلوم حزب الله إذا لوّح بمساعدة «حماس»، ثم يلومه لعدم فعل شيء لمساعدة «حماس»؟
وعندما ترى المقالات الطوال في الإعلام العبري عن تحضيرات قبل شهور لغزو غزة، تتيقّن أن إثارة الفتنة السنيّة ــــ الشيعيّة كانت من أجل إقناع الرأي العام العربي بأن إيران هي العدو، وليس إسرائيل. ولكن عندما ترى مشاهد التظاهرات في طول العالم العربي وعرضه، (لا) تأسف لضياع الملايين من دولارات الدعاية في موازنة آل سعود. كيف تحلّل مقولة «عضو قيادي» في حركة يساريّة متحالفة مع آل سعود عندما يحدّثك عن «الفكر الغيبي» لـ «حماس»، فيما تنهال الصواريخ والقنابل فوق رؤوس الأطفال في غزة؟ ماذا تفعل بأقنية فضائيّة عربيّة تصرّ على استضافة مهذّبة لأبواق جيش الاحتلال، وكأن الإعلام الأميركي الذي يتمثّلون به كان يستضيف ممثلي الأعداء في خضمّ الحروب؟
أما عن التوافق والتطابق والتكامل والتناغم بين خطاب 14 آذار ومصالح إسرائيل المُعلنة والمخفيّة، فعليكَ ألا تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة، أو التحالف بين الطرفيْن، حتى لو رأيت صورةً لجائزة درع الأرز التي تسلّمها جون بولتون، الذي يقع على يمين أرييل شارون في مروحة التيّارات الصهيونيّة. ثم كيف تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة وهناك نظريّة «صاءبت» ـــــ أي أن الصدفة وحدها تفسّر التوافق بين الحركتين؟
أستطيع أن أبدأ في حديث تقارير «التنمية البشرية» التي صمّت آذاننا منذ اندلاع عقيدة بوش. هل هي صدفة؟ نحن نعلم أن كل مصاريف الأمم المتحدة تخضع لموافقة وإذن أميركيين منذ وافقت الولايات المتحدة بشروط على دفع ما توجب عليها من متأخّرات للأمم المتحدة في التسعينيات. وتقارير التنمية وحدها تخضع لكرم أميركي غير معهود بوجود تقتير أميركي في كل نفقات الأمم المتحدة. وتقارير التنمية تهدف ليس فقط إلى التحقير الذاتي (أننا متخلّفون) بل إلى الإلهاء: أي أنه علينا ترجمة كتب برنارد لويس وتوماس فريدمان بدلاً من التفكير بمقاومة العدو وبالكفاح من أجل العدالة الاجتماعية (والهدفان غائبان تماماً عن أولويّات تقارير التنمية المُجترّة باستثناء كلام عام ومبهم في الديباجة عن «ضرر الاحتلالات»، وكفى القراء شرّ المقاومة وشرّ المساواة الطبقيّة). ومؤسّسة «فكرية» تابعة للأمير خالد الفيصل (هل يجتمع الفكر بالنفط؟ إلا عندنا، وهل تستطيع أن تمزج الفكر بالنفط من دون أن تلوّثَه؟) سارت على صراط تقارير التنمية وعاجَلَتنا بتقارير كئيبة عن عدد القراء العرب. وبثت محطات فضائية التقارير تلو التقارير عن قلة القراء العرب، وهم دائماً يستشهدون بما قاله دايان عن العرب.
أولاً، لم يقل دايان هذا الكلام. ثانياً، وما همّ لو قاله ديان؟ هل أصبح دايان خبيراً في الثقافة العربيّة وفي المطالعة؟ وثالثاً، لماذا دائماً نأخذ الحكمة من أفواه... الصهاينة؟ ما هي مكامن العقدة المُتحكمة التي تدفع بالصحافيّين والسياسيّين والأكاديميّين للاستشهاد الدائم بإسرائيليّين؟ وهناك من لا يزال يستشهد بزئيف شيف، وهو في القبور. رابعاً، من قرّر هكذا، على غرار الإعلام المُعادي، أن دايان كان عبقرياً، حتى عسكريّاً؟ ليس من عبقريّته، وإنما من مزايا أعدائه من طراز زعماء كمجيد أرسلان (مع بعكوره) ومصطفى طلاس ــــ مصطفى طلاس يا محسنين ومحسنات ــــ وعبد الحكيم عامر. أي جندي في أي جيش كان أكثر كفاءة من هؤلاء الثلاثة (أو من الياس المرّ). (ونحن نفعل الشيء نفسه في المبالغة حول كفاءة أرييل شارون العسكريّة، مع أن القائد في الجانب الآخر كان الحاج إسماعيل ــــ الحاج إسماعيل يا محسنين ومحسنات). خامساً، من يصدِّق أن هناك إحصاءات موثوقة عن نسبة القراءة والقرّاء في العالم العربي؟ هذه تخمينات أقرب إلى الخزعبلات، وقد نشر الصحافي البريطاني بريان ويتاكر (وهو رصين وقدير رغم تأليفه كتاباً فضائحياً غير رصين عن المثليّين في العالم العربي) نقداً مُقنعاً لتقارير التنمية (الاستعمارية ــــ يجب القول).
ثم لماذا تعطّشت الدول الغربيّة لتقارير التنمية هكذا فجأة في عهد بوش عندما كان يعدُّ للحرب على العراق؟ ولماذا سارع توماس فريدمان (مؤلف مبادرة الملك عبد الله للتطبيع مع إسرائيل) إلى الترويج للتقارير، الواحد تلو الآخر؟ هل هي الصدفة مرّة أخرى؟ وكيف يمكن تعداد الكتب؟ وهل هناك من أخبرَ معدّي (ومعدّات) التقارير أننا في العالم العربي (وفي كل الأصقاع الفقيرة) نلجأ إلى قرصنة كل شيء، لفخرِ الفقراء؟ والقرصنة غائبة عن التعداد التنموي. هل يمكن، مثلاً، أن نرصد مدى استهلاك برامج الكومبيوتر في العالم العربي عبر رصد المبيعات فقط، فيما معظم البرامج المُستعمَلة مُقرصنة وغير خاضعة للدراسة ولأرقام الإحصاءات؟ ثم طبيعة القراءة في العالم العربي تختلف عنه في الغرب؟ الكتاب الواحد في قرية واحدة يتناقله أبناء البلدة الواحدة وبناتها. الكتاب الواحد يشير إلى قارئ واحد في الغرب، لا في الشرق حيث التناقل في غياب المكتبات العامّة مألوف.
لكن الحرب النفسيّة بدأت باكراً في تاريخ الصهيونيّة. علمت الصهيونيّة أنها تحتاج إلى الخداع وإثارة العصبيّات من أجل أن تسود. الكتب العبريّة تتحدّث اليوم عن خطة وُضعت عام 1920 إثر زيارة لحاييم وايزمان (الصديق لعدد من القادة العرب آنذاك، بمن فيهم رياض الصلح) لأرض فلسطين. وضع جهاز الاستخبارت الصهيوني خطة للتأثير (عبر المال) على الصحافة العربيّة، بالإضافة إلى «إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين» (راجع كتاب هيليل كوهين، «جيش من الظلال»، ص. 17). وقد يكون الإنجاز الأكبر للصهيونيّة هو في إقناع الرأي العام العربي بعمق معرفة الاستخبارات الإسرائيليّة بشؤوننا وشجوننا إلى درجة أشعرتنا بالعجز واليأس معاً. أراد الصهاينة أن يقنعوا العربي (والعربيّة) بأنهم موجودون في مخادعنا، يعرفون عنّا أكثر ما نعرفه عن أنفسنا.
إن نجاح الاستخبارات الإسرائليّة هو في الترويج لنفسها بيننا، لا في نجاحاتها أو إنجازاتها. لا يعلم العربي إلا القليل القليل عن إنجازات استخبارات أبو أياد، مثلاً، فيما هو يبالغ في علمه (غير المبني على حقائق) عن نجاح إسرائيل. قصة إيلي كوهين شغلت أكثر من قصّاص (وكتاب «رَجُلنا في دمشق» تُرجم إلى أكثر من لغة) وحَبَكت أكثر من فيلم في الغرب. لكن نجاح الجاسوس المذكور مُبالغ فيه. جعلوا منه أهم رجل في البلاد، وصديقاً شخصياً لأمين الحافظ (واختلق الصهاينة معرفة بين الحافظ وكوهين في الأرجنتين فيما لم يتزامن الرجلان هناك). لكن فشل الموساد الذريع لم يلقَ أي اهتمام في الغرب.