-
دخول

عرض كامل الموضوع : اللؤلؤة.. الكاتب جون شتاينبك


achelious
06/01/2009, 06:10
في تلك المدينة كان الجميع يعرفون هذه الحكاية...وكانوا يحكونها مئات المرات بكل تفاصيلها وأحداثها...ويقولون أشياء كثيرة عن "كينو" صياد السمك وزوجته "جوانا" وابنهما "كويوتيتو" ...وهم من الهنود الحمر الفقراء الذين يعيشون عند أطراف بلدة صغيرة في المكسيك...

يقولون أن "كينو" وأسرته كانوا فقراء جداً .. بل ومن أفقر الفقراء في هذا العالم .. يعيشون في كوخ ضيق مبني بسيقان الأعشاب وأغصان الشجر...ويحرقون القش لإنضاج أرغفة الخبز التي تصنعها الزوجة "جوانا" عند كل وجبة ...وكانوا يحمدون الله كلما استطاعوا الحصول على حفنات من الحبوب التي يصنعون منها هذا الخبز ..

لم يكن الكوخ العشبي الذي تعيش فيه هذه الأسرة مختلفاً عن بقية الأكواخ المجاورة التي يعيش فيها الصيادون الهنود الفقراء الذين يحصلون على قوت يومهم يوماً بيوم .. والذين يعيشون تحت تهديد الجوع ...ويعتبرونه عدواً يتربص بهم ليفترسهم آخر النهار
..
كانت هذه الأكواخ الفقيرة المتهالكة متباعدة عن بعضها ومتقاربة إلى بعضها في الوقت نفسه...وتتناثر على رمال شاطئ الخليج المفتوح على البحر العريض الواسع...وكان سكان تلك الأكواخ يعيشون حياة متماثلة متشابهة يدوسها الفقر بكل قوته...ويملأها الخوف من وطأة الجوع التي قد تؤدي إلى الموت..

حتى البحر الذي يعيشون على شاطئه ، كان فقيراً هو الآخر فهجرته الأسماك، عدا القليل من الأسماك الصغيرة الضئيلة الحجم والوزن ، والتي كانت تؤدي رسالتها النبيلة – دون أن تدري – في سد رمق الجوع في بطون هؤلاء الفقراء ، وتبعد عنهم شبح الموت الذي يهدد الجميع في كل حين..

ومن الغريب أن هؤلاء الصيادين الفقراء قد توارثوا عن آبائهم وأجدادهم مهنة صيد اللآلئ ...ويجيدون كتم أنفاسهم والغوص في قاع البحر للبحث عن المحارات التي قد تحتوي محارة منها على لؤلؤة صغيرة ، يبيعونها في المدينة لتجار اللؤلؤ المجتمعين في أحد الشوارع الضيقة ، والذين يقدرون البضاعة بأبخس الأثمان ، ولا يدفعون أقل القليل
..
كانت تجارة اللآلئ في تلك المدينة خدعة كاملة ...فجميع هؤلاء التجار تابعون لتاجر كبير واحد ....ويتظاهرون بالتنافس في زيادة أسعار الشراء ...ومع ذلك فقد كان أعلى سعر يعرضه أحدهم يقل عن القيمة الحقيقية للآلئ بأكثر من خمسمائة وألف مرة ..!

شقشق الفجر واستيقظ "كينو" الصياد على الصوت الخفيض الذي كانت تحدثه حركات زوجته "جوانا" حين كانت تحاول إشعال النار في بعض أعواد القش الموضوعة بداخل حفرة عند باب الكوخ لتعد خبز الصباح..

فتح "كينو" عينيه وأخذ يتأمل في نور الفجر الذي بدأ يتسلل خلال شقوق الكوخ ..وأرهف أذنيه ليتسمع صوت الكائنات عندما تستيقظ كل صباح ...هاهي زقزقة العصافير وغيرها من الطيور وقد بدأت عملية الامتزاج الهادئ مع حفيف أمواج البحر المتكسرة على رمال الشاطئ ....وهاهي الأنغام الكونية وقد بدأت تتردد في صدى عميق بداخل "كينو" وتدغدغ أحاسيسه ومشاعره..

كان "كينو" مثل بني جنسه ، يتصور أن الكون عبارة عن مجموعة من النغمات ...وأن لكل شأن من شؤون الحياة نغمة خاصة تميزه ...هناك لحن يتردد بداخل النفس ليجعل للصبر مكاناً في زوايا القلوب ، وهناك ألحان للفرح وألحان للحزن والعذاب ...وحتى عندما يواجه الإنسان شراً يهدد حياته أو عدواً مسلحاً بأسباب الأذى ، فسوف يسمع في أعماقه لحناً صاخباً مختلط النغمات السيئة النشاز...اسمه لحن العدو أو لحن الشر..!
وبينما كان "كينو" غارقاً في تأملاته ...تسللت إلى أذنه الداخلية نغمات من لحن الشر ، فشعر على الفور بإحساس غامض بقرب وقوع شر مستطير على وشك أن يحدث ...بل وحدث فعلاً أمام عينيه..

كان ابنه الرضيع "كويوتيتو" راقداً في صندوق صغير قرب مدخل الكوخ ...وفجأة حدث شيء فظيع هز كيان "كينو" وخلع قلب زوجته "جوانا" ...لقد شاهدا عقرباً ترفع ذنبها المسموم وتمشي فوق غطاء الطفل الرضيع الذي كان قد استيقظ وبدأ يحرك يديه كما او كان يريد الإمساك بهذا الموت المقترب الذي أرسله الشر..

وفي لمح البصر نهض "كينو" على قدميه ، وبمنتهى السرعة ليزيح هذا الشر عن ابنه الرضيع ، ولكن العقرب كانت أسرع منه وضربت ضربتها ولدغت الطفل المسكين في كتفه ...وعلا صراخ الطفل من شدة الألم ، بينما كان أبوه قد أمسك بالعقرب وبدأ يفركها بين أصابعه حتى أصبحت كالمعجون ثم ألقاها على الأرض وبدأ يهرسها بقدمه العارية حتى أصبحت أشلاء متناثرة..
وبتلقائية الأم الملتاعة ، رفعت "جوانا" ابنها المسكين بين ذراعيها ، وقربته إلى صدرها...ومدت شفتيها نحو الثقب الأحمر الذي أحدثته اللدغة ، وبدأت تمتص السم بكل قواها وتبصقه على الأرض.

***

تردد صراخ الطفل الجريح بين جنبات الأكواخ ...وشعر كل الجيران بالمأساة التي حدثت ...وبدأوا يتجمعون حول الكوخ صامتين لا ينطق أحدهم بكلمة ...ولكن مشاعر الحزن كانت صارخة في كل وجوه جميع الرجال والنساء والأولاد والبنات الذين كانوا لا يملكون شيئاً للمساعدة في تلك المحنة...
وبعد أن اعتقدت الأم "جوانا" أنها قد امتصت كل السم الذي نفثته العقرب في كتف ابنها...رفعت عينيها إلى زوجها وتوسلت إليه بصوت متهدج مختلط بالدموع : الطبيب...لابد أن يحضر الطبيب ليراه..!

وسرت مشاعر الدهشة بين الجيران وبدأوا يتساءلون : كيف يحضر الطبيب إلى أكواخ هؤلاء المعدمين المفلسين ...من الأفضل أن تذهبوا إلى الطبيب بأنفسكم لعل وعسى....
وحمل "كينو" طفله الملدوغ ...وسارت الأم "جوانا" خلفه وهي تتمتم بكلمات سحرية لطلب الرحمة وإبعاد الشر...ومن خلف الزوجين انضم جميع الجيران إلى الموكب الحزين...تتردد في أعماق نفوسهم أنغام الحزن والأسى التي يعرفونها جيداً...ومع ذلك فلم يكن هناك صوت يسمع ، سوى الأنفاس اللاهثة ووقع الأقدام المسرعة فوق حبات الرمل...
وصل الموكب إلى أسوار البيت الذي يقيم به الطبيب ...وكان الطبيب من الجنس الأبيض الذين ينظرون إلى مثل هؤلاء الهنود الحمر كما ينظرون إلى حيوانات جرباء ...وأسرع خادمه الهندي بإبلاغه بأن هؤلاء الناس يطلبون علاج طفل رضيع لدغه عقرب...فأمر الطبيب خادمه بألا يفتح لهم باب البيت إلا بعد أن يتأكد من أنهم يحملون نقوداً ليدفعوا أجر العلاج...
وأخرج "كينو" من بين طيات ملابسه لفافة من الورق كانت بها ثماني لآلئ صغيرة ...ولكنها كانت صغيرة جداً ورديئة وكالحة اللون ، وقدمها إلى الخادم ليعرضها على الطبيب كأجر للعلاج ...ولكن الخادم عاد بالورقة المطوية بعد لحظات ، وقال ل "كينو" ومن معه أن الطبيب قد خرج ليعالج مريضاً في المدينة ولن يعود الآن ...وفهم الجميع أن الطبيب رفض الأجر المتواضع المعروض عليه ، ورفض بالتالي علاج الطفل الملدوغ..

وقبل أن يستدير الجميع إلى طريق العودة وهم يجرون أذيال الخيبة ويتجرعون مرارة الإهانة ، ضرب "كينو" بوابة بيت الطبيب الحديدية عدة مرات حتى نزف الدم من يديه....
وعندما وصلوا إلى منطقة الأكواخ العشبية التي يقيمون فيها ، تفرق كل منهم إلى حال سبيله ، ليواجه المتاعب التي تدبرها الحياة الشاقة لكل من يعيش على هذا الشاطئ ...وتوجه "كينو" وزوجته التي كانت تحمل الرضيع المسكين إلى قارب الصيد ...وهذا هو الشيء الوحيد الذي يمتلكانه في هذا العالم..

وعندما أرقدت "جوانا" ابنها "كويوتيتو" على بطانية بقاع القارب ، لاحظت أن الأورام الحمراء قد زحفت إلى أعلى رقبته وتحت أذنيه ...وأن وجهه البريء قد خلا من الابتسامة وتورم وانتفخ ...وبطريقة تلقائية جمعت "جوانا" بعض الطحالب البنية الرخوة التي كانت طافية على سطح البحر ، وصنعتها على شكل لبخة غطت بها الأورام الحمراء وهي تدعو في سرها بصلوات الشفاء..

ولكنها تذكرت فجأة ألحان أغنية اللؤلؤة ...ونغماتها التي يرددها الهنود الصيادون لتحقيق الأمنيات الطيبة وأمل العثور على "لؤلؤة العالم" التي تبعد عنهم شبح الجوع وتغنيهم مدى الحياة..

ومن الغريب أن صدى نغمات هذه الأغنية كان يتردد أيضاً في أعماق "كينو" ويهز مشاعره...وأصبح من الواضح تماماً أن العثور على "لؤلؤة العالم" هو الأمل الوحيد لتوفير العلاج وإنقاذ الطفل المسكين...
خففت الأقدار من قبضتها وابتسم الحظ ابتسامة رائعة ، وعثر "كينو" على محارة ضخمة في أول غطسة له إلى قاع البحر ، فخلصها من الصخور التي كانت ملتصقة بها ، وصعد فوراً إلى القارب المتأرجح فوق سطح الماء ، حيث كانت زوجته تترقب وتنتظر..

وكانت اللحظات التالية من أسعد اللحظات ...فما أن استخدم "كينو" سكينه لفتح المحارة الضخمة وإزالة لحمها ، حتى وجد اللؤلؤة العظيمة ...كبيرة وضاءة في حجم البيضة ...مستوية الأسطح ولا شائبة فيها ...وكأنها القمر في ليلة تمامه بدراً ..

تماسكت "جوانا" وتحكمت في مشاعر الفرحة العظمى التي هزتها...وكأنها كانت متأكدة من أن الحظ حتماً سيبتسم ، وسيمد يده الحانية لينقذ طفلها من بلواه ...أما "كينو" فلم يستطع التماسك أو التحكم في مشاعره فأخذ يصرخ في هستيرية : لقد عثرت على "لؤلؤة العالم" ...!!! هاهي "لؤلؤة العالم" في يدي..!

انتشر الخبر كهبوب الرياح بين جميع الأكواخ العشبية المتناثرة على رمال الشاطئ ، وأصبح حديثاً يلوك كلماته جميع الرجال والنساء من الجيران ، الكبار منهم والصغار ...ثم وصل إلى أطراف المدينة ذات البيوت المبنية بالحجر ...ثم تخلل الخبر شوارع المدينة وطرقاتها وبيوتها ومحلاتها ، ووصل إلى أسماع القسيس والطبيب والشحاذين الذين يقفون عند باب الكنيسة ، ثم وصل أخيراً إلى المحلات الصغيرة التي يجلس فيها تجار اللآلئ ...لقد عثر صياد هندي فقير على "لؤلؤة العالم"...هل هذا معقول..؟!

achelious
06/01/2009, 06:11
وبعد العصر بقليل وصل القسيس إلى الكوخ الذي يعيش فيه "كينو" وزوجته وابنه ...وبارك لهم على عطية الله التي رزقهم بها رب السماوات....وطلب من "كينو" وزوجته أن يقدما الشكر إلى الله وأن يتبرعا لتدعيم الكنسية ...وسألهما القسيس عما سوف يفعلانه بتلك الثروة..

أجابت "جوانا" بصوت خفيض : لقد كنا عاجزين عن دفع تكاليف مراسم زواجنا الديني أمام الكنيسة...ولكننا أصبحنا قادرين الآن على دفع التكاليف ...وسوف نحضر لنتزوج أمامك .. وسوف نجري مراسم التعميد لابننا "كويوتيتو" بعد أن يشفى من لدغة العقرب...
وانصرف القسيس تشيعه كلمات الشكر والدعاء التي كان يتمتم بها الجيران المتجمعون خارج الكوخ...

وقبل غروب الشمس بقليل وصل الطبيب يتقدمه خادمه الهندي العجوز يحمل فانوساً في يده ...وسأل الطبيب عن حال الطفل الملدوغ ، فأجاب "كينو" بأن الطفل قد توقف عن الصراخ من شدة الألم ويبدو أنه في طريقه إلى الشفاء....
وسخر الطبيب من تلك الإجابة ولكن بكلمات هادئة : أنت لا تعرف أكثر مني بمفعول السم في جسم الإنسان...إن هذا الهدوء يسبق الموت...خصوصاً بالنسبة لطفل ضعيف حديث الولادة ...احمد الله لأن طفلك ما زال حياً حتى الآن...لقد أرسلتني العناية السماوية لكي أنقذه وأكون سبباً في شفائه....
وأخرج الطبيب من حقيبته بعض المساحيق البيضاء ووضعها في فم الطفل وهو يقول : خلال ساعة من الآن سيتخلص الطفل من جميع السموم وبقاياها...ولن يبقى سوى أثر الجرح الذي أحدثته اللدغة ...وسوف يزول هذا الأثر بمرور الوقت...والآن كيف ستدفع لي فاتورة العلاج..؟!

قال "كينو" بحزم : غداً سأبيع اللؤلؤة وسوف أعطيك الأجر الذي تطلبه...
وافتعل الطبيب شيئاً من الدهشة وكأنه يسمع خبر اللؤلؤة لأول مرة: حقاً ...هل لديك لؤلؤة يكفي ثمنها لدفع أجري؟
فقال أحد الجيران : لقد عثر "كينو" على "لؤلؤة العالم"..

وهنا توجه الطبيب بكلامه إلى "كينو" لكي ينصحه : إذا كنت قد عثرت على "لؤلؤة العالم" ..فكيف لا تخاف عليها ولا تخاف على نفسك ...وكيف تظن أن اللؤلؤة ستظل معك حتى الصباح دون أن يطمع فيها الطامعون ..أعطني إياها لأحفظها لك عندي..ولتحضر في الصباح لتأخذها وتبيعها وتعطيني أجري...

ولكن "كينو" قال ليطمئنه : لا تخشى شيئاً أيها الطبيب ...لقد خبأت اللؤلؤة في مكان آمن لن يصل إليه أحد..

وانصرف الطبيب وهو يتمتم بكلام لم يسمعه أحد....وهبط ظلام الليل سريعاً ....وانصرف الجيران إلى أكواخهم....وتلاشت كل الأصوات إلا من حفيف الأمواج الهادئة وهي تتكسر في صوت هامس على رمال الشاطئ ..

وانزوى "كينو" إلى جانب "جوانا" وتأهبا للنوم ...ولكن أحداً منهما لم يغمض له جفن ولا تسلل النوم إلى عينيه ....وظلا مستيقظين طول الليل...لقد كانا يظنان أن الجميع يشاركونهما في الفرحة بالعثور على "لؤلؤة العالم" ...ولكنهما الآن بدا يتسمعان أصداء نغمات واضحة من أغنية الشر تهز مشاعرهما بذبذبات الخوف..

وبعد منتصف الليل سمعا حركات كالهمس ، ودبيب أقدام تزحف بحذر فوق الرمل .. وأنصتا جيداً وتمنيا أن يكون الصوت خداعاً للسمع...ولكنهما تأكدا في النهاية ..أن الشر قد جاء فعلاً ويحوم حول الكوخ..وبكل حذر وهدوء تحسس "كينو" نصل سكينه الحاد ، وأمسك بالمقبض جيداً ، وهب واقفاً متحفزاً للهجوم، واندفع إلى خارج الكوخ في لمح البصر ، وانقض على العدو ..وسمع وقع أقدام تهرب ..وظلال سوداء كانت تتحرك ..ولكن سكينه انغرست في كتف شبح أسود..وعندما سحب السكين وتأهب للطعنة الثانية ، كان الشبح قد انفلت هارباً دون أن تصدر منه صرخة ألم ، وبلعه الظلام ، وعاد السكون مرة أخرى..

وظل "كينو" واقفاً متأهباً لمواجهة أي هجوم جديد..وكانت زوجته "جوانا" قد أشعلت النار في بعض سيقان القش الجاف ، لتوفر بعض الضوء ..وعندئذ لاحظت أن زوجها قد أصيب في رأسه بجرح بسيط ولكنه كان ينزف دماً..

وهمست "جوانا" في أذن زوجها : هذه اللؤلؤة ستجلب لنا الشر..وقد تجلب لنا الموت ..فلنتخلص منها يا "كينو" ..هيا نسحقها بين الأحجار أو نلقي بها في أعماق البحر..
كانت منفعلة وهي تنطق بهذا الكلام الغريب..لذلك فقد أخذ "كينو" يهدئ من روعها..ويمنيها بالأحلام الطيبة..فغداً سوف تشرق الشمس ..وسيذهب لبيع اللؤلؤة في المدينة مرة أخرى وإلى الأبد ..سيذهب "كويوتيتو" إلى المدرسة ويتعلم القراءة والكتابة..وسيصبح ضابطاً بحرياً يرتدي حلة مصنوعة في الولايات المتحدة.....وسوف يشتريان ملابس جديدة ويسكنان في بيت من حجر..!

ومثل الموكب الذي صاحب "كينو" عند الذهاب إلى الطبيب ، تكون موكب آخر ليصاحب "كينو" في ذهابه إلى المدينة لبيع اللؤلؤة..

ولكن التجار الماكرين خسفوا قدر اللؤلؤة وقيمتها ، وعرضوا عليه ثمناً بخساً قائلين أنها كبيرة ولن يجدوا من يشتريها ، وإنها عبارة عن شيء نادر ، ولكنها لا تساوي أكثر من ألف بيزو ..
وغضب "كينو" من مكر التجار وتآمرهم عليه ، وصاح فيهم جميعاً : إنكم غشاشين تريدون أن تحصلوا على "لؤلؤة العالم" بأبخس ثمن ...إنها تساوي أكثر من خمسين ألف بيزو ..لن أبيعكم إياها.....وسأذهب لأبيعها في العاصمة أو في إحدى المدن الكبرى....

وعاد الموكب خائباً ...وانقسم الجيران بين مؤيد ل "كينو" في موقفه ، وبين معارض يلوم "كينو" على رفضه للألف بيزو....لأن الألف بيزو هي في حقيقة الأمر ثروة كبيرة لم يشاهد "كينو" مثلها من قبل.... لا هو ولا آباؤه وأجداده..

***

وعندما انسدلت أستار الظلام في تلك الليلة ، بدأت أصداء أغنية الشر تتردد مرة أخرى وتكاد أن تشمل الكون كله...ومثلما جاء الشر في الليلة السابقة متستراً بالظلام الأسود ، جاء أيضاً في تلك الليلة ناوياً حسم الأمر والاستيلاء على اللؤلؤة بأية طريقة ولو كانت بالقتل أو بالحرق..

وجرت المعركة بعيداً عن الكوخ بمسافة بعيدة ...وفي أثناء المعركة أخرجت "جوانا" اللؤلؤة من مخبئها وقررت أن تقذف بها في البحر بعد أن عصفت بسلام الأسرة وأحدثت كل هذا الشر المستطير..

وما أن خرجت "جوانا" من باب الكوخ ، توقفت قليلاً لتعود عينيها على الرؤية في هذا الظلام الدامس...وبينما كانت تأخذ طريقها نحو البحر ، شاهدت عن بعد جسدين ممددين على الأرض ...وكان أحدهما لزوجها "كينو" حيث سمعته يئن بأنفاس لاهثة متقطعة ..بينما كان الجسد الثاني خامد الأنفاس تنزف الدماء غزيرة من رقبته ..لقد مات وانتهى أمره..

أسعفت "جوانا" زوجها بسرعة وساعدته على النهوض واقفاً ، وقال لها بصوت واهن : اذهبي إلى الكوخ واحضري "كويوتيتو" لابد من أن نسرع بالهرب ....سأسبقك إلى القارب لأعده للإبحار...

وأسرعت "جوانا" نحو الكوخ وأحضرت ابنهما الرضيع ...وعندما وصلت إلى القارب وجدت زوجها منهاراً بجانب حطام القارب ويقول لها في صوت باك حزين : لقد حطموه وثقبوه ولم يعد صالحاً لشيء..!

ثم جمع قواه وقال بحزم: وبالرغم من كل شيء ..ليس أمامنا سوى الهرب في الجبال
وفي ضوء القمر المتأخر الذي بزغ من خلف الأفق بنور خافت ضئيل ..اتسعت خطوات الزوجين في اتجاه الشمال ..نحو الجبال الوعرة العالية..

تلوى بهما الطريق وارتفع ..واستطاعا من هذا الارتفاع أن يشاهدا منطقة الأكواخ كلها..وشاهدا كوخهما وقد اشتعلت فيه النيران ..وعلى ضوء ألسنة اللهب ، شاهدا رجالاً يحفرون كل شبر في الأرض بحثاً عن اللؤلؤة..وقال "كينو" لزوجته : لن يعثروا عليها....لقد دفناها في مكان لن يصل إليه أحد...

وهنا فقط أبلغت "جوانا" زوجها بأن اللؤلؤة ما زالت معها..وأعطته إياها..فأخذها صامتاً ولم ينطق بكلمة..وواصلا صعود الجبل دون أن يشعرا بأي إرهاق أو تعب..

وظلا يصعدان طول النهار...وهبت عليهما رياح عاصفة فرح لها "كيتو" فرحة عارمة...فهذه الرياح ستزيل الآثار التي تتركها أقدامهما فوق التراب ...ولن يتمكن قصاصو الأثر من تتبع خطواتهما في طريق الهروب..

ولكن قرب الغروب ظهر ثلاثة رجال من قصاصي الأثر..اثنان منهم يسيران على الأقدام وثالثهم كان يركب حصاناً ويحمل بندقية ..كانوا على مسافة قريبة من الصخرة العالية التي احتمى بها "كينو" وزوجته وابنه الرضيع ..ولولا أن الشمس مالت إلى المغيب لوصل إليهم قصاصو الأثر في دقائق معدودات..

وعندما ساد الليل وحل الظلام اختفت أطياف الرجال الثلاثة إلا من وهج شعلات السجائر التي كانوا يدخنونها بين حين وآخر..وطلب "كينو" من زوجته أن يكتما أنفاسهما ولا يأتيان بأية حركة تدل على مخبئهما خلف الصخرة المرتفعة..

وتوغل الليل...وشاهد "كينو" وهج عود ثقاب أشعله أحد الرجال ليدخن سيجارة ...وفي ضوء هذا اللهب الذي سطع في الظلام شاهد "كينو" اثنين من الرجال الثلاثة وقد استغرقا في النوم ، بينما ظل الثالث مستيقظاً ليتولى أعمال الحراسة ، وكانت البندقية ملقاة إلى جانبه..

وهمس "كينو" في أذن زوجته : لو عثر علينا هؤلاء الرجال فلن يتركونا أحياء ، وسيستولون على اللؤلؤة لأنفسهم ...لقد أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت..وليس أمامي سوى الهجوم للاستيلاء على البندقية وليكن بعد ذلك ما يكون..

وبدأ "كينو" في التسلل بحذر شديد ..وكان القمر العجوز قد بدأ يتسلل هو الآخر من وراء خط الأفق ...وبدأت بالتالي جميع الأشياء تظهر بوضوح ...وتوقف "كينو" على بعد خطوات من البندقية والحارس المستيقظ..

وفي تلك اللحظة البائسة استيقظ الطفل الرضيع "كويوتيتو" فجأة وأطلق صرخة طفولية لم تستطع أمه "جوانا" أن تكتمها...وفي لمح البصر كان الحارس قد أمسك بالبندقية وصوبها نحو مصدر الصوت وأطلقها ...وفي لمح البصر أيضاً كان "كينو" قد تمكن من الانقضاض على الحارس وطعنه بالسكين واستولى على البندقية ...وقبل أن يلوذ النائمان بالفرار بعد أن استيقظا مذعورين ، كان "كينو" قد أطلق عليهما النار فسقطا بجوار جثة الحارس..

***

كان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد .. ولكن أجيال الصيادين الهنود الفقراء الذين ظلوا يعيشون في الأكواخ العشبية كانوا يتناقلون هذه الحكاية جيلاً بعد جيل .. ويقولون أن "كينو" وزوجته "جوانا" قد عادا إلى المنطقة بعد ظهر أحد الأيام.. وكانت الأم تحمل لفافة بها جثة ابنها الرضيع الذي قتلته الرصاصة التي أطلقها الحارس..

وكان الزوجان يسيران في صمت حزين ..وكان الجيران ينظرون إليهما صامتين ودون أن ينطق أحدهم بكلمة ..ومر الزوجان على بقايا كوخهما المحترق...وعلى بقايا قاربهما المحطم ..إلى أن وصلا إلى حافة الشاطئ...ومع ذلك فقد ظلا يخوضان في ماء البحر حتى بلغ الماء صدريهما ..وعندئذ جمع "كينو" كل قواه...وأمسك باللؤلؤة اللعينة وقذف بها إلى الأعماق..
وبرقت اللؤلؤة قليلاً في ضوء الشمس الغاربة ، ثم ابتلعها البحر...ومن المؤكد أن الطحالب والأعشاب الطافية قد نادت عليها مراراً قبل أن تهبط إلى القـــــاع ..!

achelious
06/01/2009, 06:17
جون شتاينبك

روائي أمريكي حاز جائزة نوبل للآداب عام 1962. وكان له من العمر إذّاك ستون عاماً فقد ولد في (ساليناس) بولاية (كاليفورنيا) في السنة 1902. وهو من أصل ألماني. وانتسب إلى جامعة (ستانفور) ليدرس علم الأحياء البحرية، ولكنه لم يكمل دراسته، فترك الجامعة ليعمل في ميادين مختلفة: عمل عاملاً أولاً، ثم في جمْع الفواكه، فمسَّاح أراضٍ.. وحين أراد أن يقوم بأعمال حرة في (نيويورك) لم يواته الحظّ، فعاد إلى كوخ منعزل في (كاليفورنيا) ليتفرغ للكتابة.