-
دخول

عرض كامل الموضوع : قصة الأسورة ...


المحارب العتيق
29/12/2008, 02:21
قصة الأسورة 1 (1) ... نجلاء 1985 .....ترويها لكم مايا


" في ذلك المساء . ركضت . وكانت تعرف أن موعدها هو الفجر . والرمل بارد تحت قدميها . وعلى يسارها البحر ، وعلى يمينها خيالات أحجار . لا قمر في السماء . وليس حولها غير ظلام وبرد وهواء . "

عندما نظرت من نافذة الطائرة إلى الفراغ تحتها ، ورأت اللون الأخضر يختفي ، واللون البني يزداد ، ورأت خط البحر وشريطا ضيقا أخضر على طوله ، والركاب يدخنون سيجارة أخيرة سريعة . علمت أنها وصلت . وصفعتها اللحظة لتوقظها . وأشعلت بسرعة سيجارة قبل الهبوط .
عادت .
العشرة أعوام .
و عادت .
نظرت حولها لتتذكر الأشياء حولها ، لتعثر على الأشياء التي تعرفها . تستنشق الهواء ، لتشم رائحة تعرفها . أرادت ، تمنت أن تتذكر ، أن تعثر على ما تركت ، وأن تشم رائحة تعرف .
تريد أن تساعد حواسها عقلها ليعرف أنه عاد .
هل حقا عادت ؟
هل حقا عادت ؟ هل احترقت الغربة إلى الأبد ؟
هناك لحظات في الحياة نمضي حياتنا خائفين منها ، وأحيانا ، وتحت هاجس ما ، لحظة تهور ، أو شجاعة ، حكمة ، أو حماقة ، نرمي أنفسنا في تلك اللحظة لنرتاح منها وترتاح منا ، لأننا كنا دائما نعرف أن هذه اللحظة ستأتي ، ولأننا مللنا الخوف .
لحظات كالموت ، الذي نقرر أن نرتم فيه ونضيع في الغيبوبة ، ونقطع شرايين يدنا لنموت . البعض يسميها انتحار .
عندما حملت جواز سفرها وحقائبها وقررت العودة إلى الأبد ، كانت تعيش إحدى تلك اللحظات ، كل من حولها اتفق على تسمية ذلك القرار انتحارا ، ولكن الجميع كانوا مخطئين لأن قرار العودة لو كان انتحارا فهي إذا الآن ميتة ، ولكنها لم تكن ميتة ، كانت حية ، حية وتشعر بالحر .
الناس حولها عادوا للون لم تره مند زمن . لون غريب . لون يشبه لون أدم الأرض . ويتحدثون العربية ، كلهم . للحظة شعرت أن عينها تحرقها وأن غشاء طبلها يقرع داخل أذنها وأنها تعاني من صداع كأنها استيقظت توا من الغيبوبة . أغمضت عينيها للحظة وغابت عن كل شئ ، لم تر خلال هذه اللحظة إلا وجه مايك يلمع بضوء برتقالي وسط الظلام . وعندما فتحت عينيها ، لم يكن مايك هناك ، بل كان الناس الحنطيون وحولها في الهواء تتراقص كلمات عربية تطن كسرب حمام ضائع . كل شئ يؤكد أنها لا تحلم ، ويؤكد أنها عادت . وأنها خائفة .
شعرت كأنها وسط الجامع الأموي ، قدميها على السجادة الحمراء ، وفوق رأسها ثريا ، وحولها مصلون يكبرون الله، وهي بينهم تصلي لله .
الجميع يتحرك . ورجل يتناول منها الحقيبة ليضعها على عربة حديدية ، وحقيبة أخرى ، وحقيبة أخرى . زحمة . والجميع يتحدث ويضحك . عندما رفع الحقيبة ، ارتفعت ذراعه فوق رأسها ، وشمت رائحة عرق نتنة تنبعث منه كأنه لم يستحم منذ سنة .

تذكرت عندما كانت شفتيها تقفز فوق جبين أبيها ووجنتيه وذقنه وشعره الرمادي . تقبله قبلات سريعة خفيفة تستمر لحظة . تذكرت عندما كان يتركها تلعب بشعيرات صدره ، وترغي الصابون على ذقنه ، وتعلق ملاقط الغسيل بشعر رأسه الناعم . تتذكره ببدلته السوداء ، يزداد طولا ، ورائحة عطره الذي يركبه له محل عطور في الشعلان ، ونظارته المصنوعة من عاج بلون السكر ، يضعها عندما يقرأ الجريدة ، ثم يخلع النظارة ، يرمي الجريدة ، يرشف رشفة قهوة ، يشرد عشر دقائق ، يسب مسبة قذرة ، ويخرج إلى دكانه .
ما زالت حتى الآن تتذكر ذلك المنظر المتكرر يوميا كلما اشترت جريدة ، ولكنها نست نهائيا رائحة العطر . تتذكره قويا مخرشا ، يعلق بك ويرفض أن يغادرك . ولكنه غادرها .
لا تستطيع أن تطلق على هذه الخيالات اسم ذاكرة ، أو على الأقل لا تستطيع أن تسميها ذاكرتها . كانت تلك اللحظات تمر في عقلها كأنها جسم أجنبي عنها زرع في خيالها ، كأنه فيلم سينما يتحث عن بطلة غيرها . أي شئ . أي شئ . تريد أن تجد شيئا واحدا عادت اليه .

الرجل الذي يجر عربتها ، وسيجارة معلقة بفمه . شعرت بقلبها يخفق ، وبعضلات عنقها تتقلص . أرادت أن تمد يدها وتسرق السيجارة من بين شفتيه وتسحب نفسا .
عندما أخبرتهم أنها عائدة ، ظنوا أنها عائدة لزيارة . اتصلت بأمها ." يا ماما ، على طول . خلص . على طول ." منذ أن أعلمتهم القرار ، عادت الرسائل تأتي إلى عنوان صندوق بريدها ، وفي كل الرسائل ، في مكان ما بين الكلمات ، على إحدى السطور ، تمر عبارة : أنت مجنونة .
مجنونة ؟ عاقلة ؟ لا يهم . المهم أنها أخيرا ورغم كل شئ حيث يجب أن تكون . أحيانا أشد حالات جنوننا وتطرفنا تحملنا لمكان حيث يجب أن نكون .

ذاكرة . عندما تمشي ممسكة بيد أبيها ، تنظر إلى فوق لتراه ، وترى شاربيه المدهونين بالبرلنتي ، ويمران قرب حمام نور الدين ، ويشتري لها ملبس وشوكولاته . هل كانت هي هذا الكائن الصغير ؟ يمشيان ، ويعلمها الإنكليزية ، وتسمع صوت صراخ باعة سوق " تفضلي " بينما تحاول أن تعلو بصوتها فوق الضجيج ليسمعها أباها تغني الأبجدية الإنكليزية . كان يحبها أكثر من الجميع . يدللها أكثر من الجميع ، أكثر حتى من محمد . يعتبرها الأذكى ، والأحلى .
تردد اسم دمشق كثيرا هذا الأسبوع . بينما كانت تعد حقائبها ، وتحاول اختيار ماذا ستأخذ وماذا سترمي ، وماذا ستعطي ، وتبكي ، كان الإعلام يتحدث عن دمشق . ليس عن الجامع الأموي ، وبيت جدها في القنوات ، وعن رائحة الغار في حمام السوق . بل كانوا يتحدثون عن الشيراتون وعن الرهائن الأمريكين الذين نقلهم الصليب الأحمر من بيروت إلى دمشق ومنها إلى ألمانيا الغربية . مر عليهم سبعة عشر يوما في الرهن . أما هي ، فقد مر عليها عشر سنين . عشر سنين جعلتها تنسى عالمها خارج الاحتجاز .
تتذكر عبد الحليم : غنيللي لحن الوفا .

الأرض قذرة، الزوايا قذرة ، أعقاب سجائر ، تراب على الجدران ، أحد النيونات معطلة تاركا بقعة أظلم مما حولها . تذكرت زياراتها إلى لندن ، تستلقي على العشب المبلول في " الهايد بارك " وتشعر بالندى يدغدغها . تشم رائحة التراب والماء . تغمض عينيها ، ثم تفتحمها لترى السماء وسحابات بيضاء وشمسا سخيفة وطائرا أبلها يبحث عن من يطعمه . وتتذكر دمشق ، كم كانت جميلة ، وغداء يوم الجمعة في بلودان ، وشربة ماء من نبع بقين . وتتذكر يوم تشاجرت أمها مع أبيها بسبب تبذيره وجيبه المثقوب الذي تسقط منه النقود ، يومها حاول أبوها تجاهل الصراخ والمحاضرات ومحاولات إعلان الطوارئ ، أمسك نظارته العاجية متظاهرا بالصمم ، وضعها وفتح الجريدة ، ولكن أمها لم ترض ألا يسمع . نزعت النظارة من فوق أنفه وكسرتها إلى قطعتين ثم رمتها بين قدميه . أصلح يومها نظارته بجمع القطعتين بشريط لاصق طبي بني اللون ، وما زالت تتذكر منظر النظارة المجبورة إلى الأبد كمنظر شحاذ يدعي الإعاقة .

اعتاد كاحلها أن يؤلمها كلما مشت على الثلج . يؤلمها ويذكرها كيف التوى . كانت يدها البيضاء تمسك ذراع أبيها ، ولم تنتبه لحافة الرصيف المكسورة ، والتوت قدمها . وهو كاحلها يؤلمها الآن ، رغم كل حر الصيف والتكييف الذي لا يعمل . يؤلمها . اعتادا أن يخرجا إلى شوارع دمشق عند الغروب ، ويمشيان . وفي أيام الصيف يشتري لها عصير برتقال من محل أبو عصام ، ويخرج من جيبه كيس بلاستيكي فيه خبز مقطع ويناولها قطع الخبز لترميها للستيتيات .و يعلمها عن الحب ، ويحكي لها عن أحلى أخبار الحب . ما أحلى منظر عيني أبيها العسليتين عندما تلمعان لما يذكر قيس بن الملوح ، ويحكي لها عن قصصه وأشعاره ، يحكي لها كيف كان أول من استخدم كلمة "حب" بين العرب لأنه أراد كلمة جديدة يخبر بها ليلى عما يشعر به ، ذلك الشعور الذي لم يعرفه أحد قبله .
وفي الشتاء ، كانا يمشيان قبل الغروب ، ويردد دائما " مشاوير المجانين في كوانين " ، وتلتصق بمعطفه الجوخ الأسود لتدفأ . تمسك بذراعه ، ويشتري ورقة يانصيب تخسر دائما . ويحدثها عن الحب العذري ، عن ذلك الذي هام في البرية والصحراء ، يتخيل حبيبته التي لم يلمس ويكتب لها الأشعار . يحدثها كيف تعلق بأستار الكعبة ودعى الله ( اللهم زدني حبا لليلى ، وبها كلفا .و لا تنسيني ذكرها أبدا ، ولا تشغلني عنها ) وكيف يومها استرحم أبوه الناس حتى لا يقتلوه ، ودمه يسيل ، وهو يردد ( ها أنت سمعت ها أنت رأيت) . كانت تدفن وجهها بذراعه لتدفء أرنبة أنفها المتجمدة ، بينما هو يخبرها عن قصة موت المجنون الذي اختفى بينما كان يلحق غزالة ، ليجدوا جثته بعد أيام ملقاة فوق حجارة . كل مرة يموت فيها ابن الملوح ، كانا يتوقفان عن السير ، ويتنهد أبوها كأنه يحترق شوقا ، ثم يسأل : يا ترى ، ما كان آخر بيت شعر قاله ؟
و قبل الوصول إلى البيت ، كان يخبرها عن نساء وفتيات أحياء العرب وكيف خرجن حاسرات عن رؤوسهن ، نادبات . وكيف شارك بعزائه بنو العامر ، قبيلة ليلى .

علمها أبوها أننا حين نصلي ينظر الله إلينا ليعرف كم في قلوبنا حب . وأن الله يريدنا أن نملأ هذه العضلة بالحب كما هو يملأها لنا بالدم .
و كانت وهي تصلي في تلك الأيام ، تحاول أن تستذكر كل ما تعرفه من الحب قبل أن تصلي . تتذكر أمها وأخاها وأخواتها والجيران وأم فراس المستخدمة في مدرستها ، وكبٌارة أنسة اللغة العربية والستيتية التي تعشش على حافة نافذتها وابن عم أبيها الذي استشهد بينما كان يحارب الإسرائيليين . وعندما تصل ذاكرتها لاسرائيل ، كانت تفقد كل الحب .
انتظرت من على شباك غرفتها أن يصيب الجنون ابن الجيران ، أو ذلك الذي يقود السيارة الأوبل ويمر قرب بلكونهم عند المغرب ليراها قبل أن يودع الشمس . آمنت في تلك الأيام أن الحب العظيم هو حب المجانين ، هو حب يجعلك تسافر إلى الشمس دون أن تحترق ، هو حب يجعل الحبيب أغلى منك والورود أحلى ، هو حب يجعلك تتفاهم مع العصافير ويجعلك تبكي عندما تكون سعيدا وتضحك وأنت حزين . وربما تجرأت أحيانا لتكسر عذرية الحب في خيالها ، فتخيلت أنها قبلت رشدي أباظة أو عانقت كمال الشناوي أو لعبت أصابعها بشعر عمر الشريف .
و اكتشفت الخديعة والكذبة العظيمة . اكتشفت ذلك كأنها بنت أربع سنوات رموها في البحر عارية لتسبح وحدها . اكتشفت ما صدقت يوم رأت أباها جالسا على كرسي الخيزران قرب الباب ، جسده النحيل مطوي ، رأسه فوق فخذيه ، ويرجف ....لا يبكي ، ولكن يرجف ، كجسد عجل لحظة يقطع عنقه . وأختها على السرير ، شاحبة ، لونها الأبيض الجميل كأميرة عثمانية أصبح لونا أبيضا مخيفا ، لون سيسكن أحلامها وكوابيسها طويلا . وعلى وجه أختها دمعات حمقاوات سخيفات تافهات ، أو لعلهن كن حبات عرق ولكن الذاكرة خدعتها . تتذكر أنه كان فجرا نيساني ، وكل شئ سعيد ، وبيض الدوري فقس والقطط وضعت . وتتذكر الأصوات ، همسات ، صراخ عال ، صراخ خافت ، همسات ، نحيب ، صوت الآذان ، زقزقة عصافير ، ستيتية تقرع زجاج النافذة بمنقارها ، الأطفال في طريقهم إلى مدارسهم يضحكون . أصوات كأوكسترا تعزف سمفونية سوريالية مشوهة .
في ذلك الصباح ، وخلال سنوات بعده أستطاعت أن تستوعب ، شئ ما في عقلها قرر أن يفلتر أفكارها وأحلامها . وهكذا اكتشفت أن قيسا لم يكن أكثر من مجنون يعاني من اختلال مواد كيميائية في عقله . وأن الحب ليس أكثر من مقدمة طويلة للجنس ، الجنس الذي يرجع الإنسان لدقائق إلى أصله الحيواني . واكتشفت أن الانسان العربي يعيش مسكونا بأشباح ماض وبخيالات غريبة . وقررت أن تحقق معجزة ، وأن تكون عظيمة ورائعة ، أن تركض وراء أهدافها محطمة كل الأصنام والمسلمات في طريقها وأن تتوقف عن تصديق الحب .
استمرت تصلي لله الفجر والعشاء ، وعندما تنهي الصلاة ، تفتح يديها ، وتطلب من الله أن يمدها بالقوة حتى لا تكون مثلهم .
عندما قررت أن تدرس الطب جن جنون أمها ، وابتسم أبوها ابتسامة عريضة عريضة ، وقبلها بين عينيها قبلة طويلة حلوة . وأهداها في أول أيام الجامعة ، بعد أن عادت إلى البيت من المشرحة ، سماعة طبية رمادية اللون . وبتلك السماعة سمعت دقات قلبه أول مرة ، تضعها على صدره العجوز التعب ، صدره الذي أحرقه ال"بايب" ، وتسمع قلبه يدق....دقة...دقة....و في كل دقة تسمع قصة ، وتحبه أكثر . ويسألها : هل تسمعيه ينادي اسمك ؟ نجلا .
الله ، وأبوها ، وأحيانا أمها ، كانوا الأشياء الوحيدة التي لم تشف من حبها لها ، رغم تعلمها لتشريح الدماغ والقلب والشرايين .

ظنت أنها ستعيش ساعية وراء النجاح ، وأنها ستسكن الواقع ، وستحطم الشرق الحالم منذ أيام عروة بن الورد تحت قدمها ، وأنها ستودع الانكسارات والهزائم إلى الأبد .......الأيام علمتها أن الشرق وانكساراته وهزائمه يعيشون في بقعة أعمق من عقلها ، انهم يعيشون في جيناتها . ما زالت حتى الآن ، ولم تفارقها الانكسارات ، وأحزان الشرق الخيالي الجميل .
يفتشون الحقائب . ينظرون إليها كمتهمة ، ويهمس في أذنها عجوز : ادفعي يا بنتي . وتدفع . وتتحول معاملتهم لها إلى معاملة الأميرات . كان المبلغ بسيطا ، ثمن كروز دخان ، وكان من يفتش الحقيبة انسان مواطن لا يريد إلا تربية أولاده وتعليمهم وتخدير لسانه بسجائر يدخنها .
الجثة على لوح حديدي في المشرحة . ورائحة واخزة تخرش أنفها . وصوت الطلاب وصوت الأستاذ وهمسات قرف وهمسات سخرية من القرفانين . نظرت إلى بطن الجثة المفتوح ، وإلى فخذها ، وحبل عصب يلتقطه ملقط الأستاذ ، ووجه الجثة ما زال سليما لم يلمسه المشرط بعد ، لم يفتت لحمه كلحم نعجة مضغه ابن آوى . وعينا الجثة مغلقتان بهدوء ، راقبت العينين طول نصف ساعة ، تتخيل فوق الأجفان المغلقة زهرتي نرجس ، تريد أن تقبلها وتتركها وحدها في سكون . الذكريات لم تكن تفارقها .

المحارب العتيق
29/12/2008, 02:26
قصة الأسورة 2 .. أم محمد ( فريال ) 1986.....ترويها لكم مايا


" في ذلك المساء تذكرت السوق وفي السوق كان هناك زحام وضجيج وبشر وقطيع خراف .
و يومها اشتروها لقصر قائد الجيش . وكم حمدت الإله حداد يومها . "

صوت الراديو من غرفة نوم جيرانهم " بيت بوظو " ........عل العين موليتين ....و ستعش مولية .
غرفة نومها ....ذلك الظلام الذي يهدده ضوء الشمس المخترق للأباجور الأخضر المكسور المغلق وراء باب البلكون المغلق . وستارة شبه شفافة بلون بني .......ذلك الظلام الذي لون كل شئ في الغرفة بلون بني ...لون حتى الهواء .....لونها هي ....جالسة على فراشها ، في يدها مسبحة حباتها دقيقة خشبية ، تسعة وتسعين حبة ....و بين يديها قرآنها " يا أيها الذين آمنوا " ....و ذبابة زرقاء تطن وتطن حولها منفوخة كأن فيها ألف بيضة .....و صوت سميرة توفيق....و تحاول ألا تسمع وأن تقرأ .
التراب على السقف . منذ متى ؟
ألا تكفي كل تلك الدموع يا الله .
منديلها الأبيض ....تفركه بين أصابعها .
البارحة حلمت...حلمت أنها في تجلس مقرفصة وسط أرض ديار بيت أهلها . وسمعت في حلمها صوت الماء في البحرة ......و بطيخة في وسط البحرة ، وعندما نظرت حولها في الحلم رأت شجرة مشمش وأكدنيا ونارنج ، وفي قمة شجرة النارنج كان هناك نارنجة وحيدة صفراء مجعدة تتدلى من غصن . حلمت أنها تتذوق الرز بحليب ، وتشم رائحة الليمون ، وأن سطح الماء في البحرة كان مغطى بالياسمين وبضع من أوراق شجرة الليمون وفلة . حلمت أنها تتأمل قنطرة الليوان ، والزخارف على حجرها .....الكثير من المخمسات . وداخل الليوان ، على ديوان مغطى بقماشة دماسكو خضراء ، جلس أبوها وأمها يتأملانها مقرفصة وسط أرض الديار .
في الحلم ، كان فوقها سماء ، وكانت تحاول أن تتبرز ، وكانت تضغط وتضغط . تحبس نفسها ثم تضغط أقوى . وألم فظيع ، كأن ألف شئ داخلها يتمزق ، ألم كأنه ألمها يوم ولدت نجلاء ( الولادة الأقسى ) . وتضغط .
و في الحلم رأتها تقترب منها . عارية كما رأتها ذلك اليوم . متألمة . بقايا . وفي الحلم عانقتها ، وجلسا القرفصاء معا ، وبكتا . ثم استيقظت على صوت آذان الصبح .
ما زال صوت سميرة توفيق. كانت تقرأ الآيات وتشرد ، ويحملها الحزن .
" صدق الله العظيم "
قامت من على سريرها . ثوب نومها الطويل العريض السماوي ، كلون عينيها . فتحت خزانتها . ومن داخل درج في الخزانة أخرجت صندوق خشب ، لونه بين الأسود والبني ، على سطحه وردة رسمت بقطع صدف فضية ينعكس عليها الضوء ليعطيها طيف عشرة ألوان . فتحت الصندوق ، ومدت أصابعها داخله . فيه أشياء وأشياء . قصة قصيرة كتبتها يوما نجلاء ، وقصيدة شعر كتبتها نيرمين وآخرى كتبتها نهاد ، خصلة شعر أشقر من خصل شعر ناهد ، وصور وصور وصور ، وقبعة قماشية بيضاء مخرمة ، لها رائحة زيت قشر البرتقال ، أعتادت أن تضعها فوق رأس محمد قبل أن يذهب مع أبيه إلى الجامع . قبلت القبعة .
منذ متى كبر رأسه ؟ منذ متى صغرت القبعة ؟
البارحة ، تركت أوراق الملفوف المسلوقة الصفراء ، وصحن اللحم النئ والرز المجهز لحشو الملفوف . تركت أصواتهن يتناقشن ، تركت خطوط التلفون التي لا " تعلق " ، تركت التلفزيون والمذيع الذي لا يذيع الخبر . ودخلت غرفتها . ترتدي نفس ثوب النوم السماوي ، وفي يدها المنديل الأبيض المعطر بزيت الورد . أغلقت باب حجرتها . جلست على حافة سريرها . لم تكن تريد البكاء . ولكنها بكت ، وصوت التلفزيون في الخارج "ما يطلبه المشاهدون". وهي غاضبة من الله ، ولا تستطيع تحمل المزيد ، تريد أن يعود محمد .

قبة سماوية فوق أرض ديار بيت أهلها في القنوات . القمر في ليال باردة دون سحب . وصباحات الثلج . الأولى دم ، والثانية سم ، والثالثة " كول ولا تهتم " ، وتركض ، وتتذوق الثلج من فوق حافة البحرة ، وتتزحلق وتقع ، وأمها تصرخ وتأمرها أن تعود إلى القاعة ، وكأس من عصير التوت الشامي ، تتركه على الأرض ، وتراقب حبات الثلج الناعمة تسقط حوله وفيه ، وتنتظر أن يملأه الثلج قبل أن تأكله . وعصفور دوري بردان يختبئ في شجرة الأكدنيا ، وقطهم الأشقر يموء ، وأمها تحلف أيمان أنها لن تدعه يدخل .

يزداد الحزن أحيانا ، فيتحول كل نفس من أنفاسنا لبكاء . كل نفس يصبح شهقة رعب من شئ أقسى . وتتحمل . وتتساءل ، ما الحكمة ؟
في طفولتها ، ظنت أن كل مصائبها عقاب ، وأن كل شئ يحدث عدل من الله . وأن كل الأشياء مفهومة ومنطقية .
ألف مرة صرخت بها أمها األا تلعب بزجاجة ماء الزهر .........ألف مرة صفعت مؤخرتها "شحاطة" أمها......ألف ألف صرخة حذرتها من شرب ماء الزهر ......هذا سم ، إن شربته ستموتي .
و في تلك الليلة .
أبوها وزوج خالتها . وأرجيلة ، عليها كتلة من تبغ عجمي أصفر مسود ، وفوق الكتلة جمرة تلمع بلون أحمر يشع مع لون المغرب مع كل نفس يسحبه أبوها . بنات خالتها سبعة ، كلهن يرتدين نفس الفستان الأحمر، نفس التفصيلة ، نفس القماش ، ويختلف المقاس باختلاف العمر والحجم . كلهن يلدغن بالراء . وفي المطبخ لا تسمع من كلامهن إلا غين ، وتسمع صوت معلقة خشب تحرك الكراوية التي تغلي في قدر النحاس . وأخوها توفيق بقمطته البيضاء ، وعينيه المغمضتين ، ويديه المقبوضتين ، والجميع يقبل رأسه وقدمه ويتلو في أذنه آية .
وزجاجة ماء الزهر في " النملية " تمد لسانها كالشياطين .
عمرها خمسة سنوات . وفيها كل غضب وغيرة الخمس سنوات . غضب وغيرة شيطان لم يعرف بعد الخوف .
و توفيق وحده صغيرا فوق فراش أبويها . أصغر من حجم قطة . وهي صغيرة تجلس قربه ، في يدها ملعقة صغيرة وفنجان قهوة كحلي مملوء بماء الزهر . وتسقيه ماء الزهر بالملعقة .
كان يبصقه بالبداية ، ثم مل البصق ، وأخذ ماء الزهر يبلل لسانه وحلقه ومريءه ومعدته .
و بعد أسبوع ، أصابته حمى . ومات .
ظلت سنوات تظن أنها قتلت توفيق ، لسنوات كرهت أمها وماء الزهر . لسنوات سكنتها صورة أمها باللون الأسود ، وشفاهه الزرقاء .....و عقلها ، في ذلك الركن البعيد الأسود من عقلها ، ذلك الركن الذي عادة لا يدري عنه أحد . في ذلك الركن كان يسكن سرها وألم في قلبها .
عشرة مرات شربت فنجانا من ماء الزهر لتموت مثله ، ولكنها لم تمت . طعمه المر ، ولا تموت . كل ما كانت تشعر به هو ألم في صدرها ، ورائحة حقل ورد لا تغادر أنفها ، ولا تموت .
عندما أخبرتها يوما أمها بينما كانت تعلمها طبخ الرز بحليب ، وبكل بساطة ، أن ماء الزهر لا يسمم . تحول سر الإثم داخلها إلى شئ غير ذي معنى . وأصبحت الحمى التي أصابت أخاها مجرد حمى . وأصبحت مصائبها التي كانت تظنها لعنة من الله ، لغزا ، حكمة من الله ، لا تفهمها . وما زالت لا تفهمها .

صباح الجمعة . وخارج غرفتها صوت حركة نجلاء على البلكون .
سنة قد مرت ، وهي ما زلت تتحرك .
برد آذار لا يهمها ، المهم أن تعيش الياسمينة .
لم ترها تبكي منذ وصلت ، كأن لا وقت لديها تضيعه بالبكاء . في أيام الجمعة ، تربط شعرها بمطاطة ، وترمم ذاكرتها. كانت تريد أن يعود البيت إلى نفس الصورة التي كان عليها قبل عشرة أعوام ، الصورة التي كان عليها قبل أن تسافر... ..دهنت الحيطان لتعود بيضاء ، وأعادت تعليق لوحة آية الكرسي فوق الديوان الكبير في الصالون . وخلعت أبواب خزن المطبخ الخشبية ، وأعادت تركيب أبوابا حديدية مخرمة لها نفس شكل ولون الأبواب القديمة . أعادت وضع الفرشة القديمة فوق سريرها . وفعلت الكثير لتعيد الحياة إلى الياسمينة ، غيرت التربة ، أضافت سماد ، حملتها إلى داخل البيت في الليالي الباردة ، قرأت كتبا علمية عن النباتات ، لتتعلم علميا كيف تعود الياسمينة لتعيش .

كان عمرها سبعة عشر .
أسابيع طويلة مرت وهي تشعر بهذه الغصة في قلبها قبل أن تقرر أمها أن تأخذها إلى العطار.
كان هناك مطر . تمشي مع أمها في سوق الحميدية . وصوت حبات المطر فوق السقف كصوت عفاريت تطرق وتطرق . ومشتا . دخلتا إلى دكان أقمشة ريثما يتوقف ويخف المطر .قماش برتقالي ، وقماش سماوي ، وأمها بملاءتها السوداء ، صارمة كأنها تحاول اختيار قدرها وليس قطعة قماش .
و توقف المطر .
تتذكر رائحة التوابل ، ربما ألف نوع وأكثر ، يمتزجون في رائحة واحدة . ثم وصلتا إلى دكانه .
أبوه كالعفريت ، طربوشه ، شرواله ، وذقنه البيضاء ، وحدبته . أما هو ، طويل جدا ، نحيف جدا ، شاربين بالكاد يرسمان خطا فوق شفتيه ، وينظر إليها ، وهي تبتسم حتى تكاد تضحك .
لف لهما أربعة أنواع أعشاب ونوع من الزهر لتغليهم وتشرب مغليهم كل يوم على الريق . والشاب النحيف يبتسم لها . وهي احبته . وابتعدتا . تأكل حبة مشمش مجففة ، وطعم حلو حامض واخز يصدم لسانها بلذة . وتراه يلحقهما، وتلتفت ، وتبتسم له ، وتنظر إلى شاربيه .
كل صباح شربت مغلي الأعشاب ، على الريق ، وطعمه مر ، ورائحته كرائحة فأر ميت . وبعد أسبوع راح الألم ، وبعد عشرة أيام زارتهم أمه وأخته لتخطبانها .
ليلة العرس .....يوم ضمها ، وشعر عنقها بقلبه ينبض ، وخلع ملابسه ، وعظامه بارزة لا يغطيها لحم ، وتقرص خده ، وتسحب شعرة من شاربه ، وتقبل فروة رأسه ، و" الشطي مطي " يمتط بين أسنانها وأسنانه ، ورأسه في حضنها ، وتضحك سعيدة ......و تحبه وتحبه وتحبه . منذ تلك الليلة عرفت أنه سيكون أكثر من زوج ، عرفت أنه سيكون ابنها . كانت تحبه كأنها ولدته .

مات دون أن يخبرها سر تركيبة أعشاب غصة القلب . والغصة عادت لقلبها منذ مات ، ولا تعرف لها دواء .
تشعر بقلبها يعتصر لدقائق ، وتتذكره .

الحب ؟
ذلك الشئ الذي يستعمرنا ويحولنا . ذلك الشئ الذي يخلق لنا مهمة مقدسة نموت لأجلها . تلك الكذبة .
يوم الجلاء . الكل سعيد ، وهما ، وبعد ثلاثة أشهر من زواجهما ما زال الجميع يناديها بالعروس ، والعدس يغلي.....كانت أول مرة تطبخ له " ستي زبقي " ....و عاد ، وقبلها ، سعيد ككل الناس ، وخارج باب البيت تسمع هتاف وأحيانا رصاصة . يحمل كيس ، وفي داخل الكيس زجاجة ، وفي الزجاجة سائل شفاف . خمر . وقبلها ، وجلس وأكل وشرب ، ورائحة اليانسون تقتلها ، تحاول ألا تنظر إليه وألا تنظر إلى الكأس والزجاجة . وشرب مرة أخرى ، وثالثة ورابعة . وعندما سكر قام وقبلها ، أحست بالحرام يقتحم جسمها ، ولكنها عادت لتحبه كولدها عندما وضع رأسه على حجرها وبكى .
و مع الأيام اعتادت كلما رأته يشرب أن تغلق عليه الباب ، وأن تجلس قريبة منه منتظرة دموعه ، منتظرة أن تحبه أكثر .
أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمل ولادة خمسة أولاد ؟ أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمله وهو يمسك كتابا ويخبرها عن التاريخ وعلي بك الكبير وقناة السويس ودلسيبس والأمة العربية ، ويقرأ لها أشعار المتنبي ، وامرؤ القيس ، أبي سلمى ، ومجنون ليلى ، ويتحدث عن السياسة ، والفساد . تتذكره عندما حبس نفسه في البيت رافضا الخروج خارجه حتى لا يرتدي " البرنيطة " عوضا عن طربوشه ، كما أمر الحناوي . ثم عندما كان يعود إليها ليلا ويهمس في أذنها عن أخبار الاعتقالات ، وماذا يحدث في المعتقلات ، وهي تخاف .
الوحدة . الناس تتحدث . جمال عبد الناصر . والمطر انقطع عن البلد . وولدت محمد . بعد خمس بنات .

تريد أن تقوم من عن سريرها . تريد أن تتحرك ركبتيها دون ألم . تريد أن تخرس الموسيقى الأجنبية التي تأتي من نافذتها . تريد . تريد . تريد . تريد أن يتوقف نزيف البكاء داخلها وأن يطير الحزن وأن تنسى .
تنسى نهلة . تنسى أبا عبد الكريم . تنسى نجلا . تنسى قلقها البارحة .
تنسى صورته قبل أن يموت ، يجلس بين يديها كما جلس دائما . زوجها وحبيبها وصغيرها . عيناه ....نظرة عجوز ونظرة طفل . ألم . وذراعه مقطوعة . وبناته يمسحون جسده بزيت الزيتون . ثم يبكي . أخبرها أنه لا يخاف الموت ، ولكنه لا يعرف كيف يعيش بعيدا عنها .
نظرت إلى صورته . باللون الأبيض والأسود . يبتسم . وقبلته .
شمت المنديل في يدها . منديلها الأبيض .
كانت لا تستطيع تغير خروق ابنتها دون المنديل المبلل برائحة الورد فوق أنفها . ومع الأيام أدمنت رائحة الورد . وأدمنت حمل المنديل .
لقد مسحت جسدها في ذلك اليوم بمنديل أبيض كهذا المنديل .
عندما تقدم لهم ليخطب نهلة ، صرخت عاليا " مستحيل " ، ثم تتذكر ابنتها تلبس الثوب الأبيض .عروس . شعرها بني كقطة شامية . وعلى خدها خال . وعلى شفاهها حمرة . وبشرتها بيضاء بيضاء بيضاء ، حتى تكاد أن تكون شفافة ، وتكاد أن ترى من خلالها حبا . وهو يجلس إلى جوارها . عريسا . وفارق عشرين سنة . والبشرة البيضاء . وخداه الحمراوان . وعيناه الزرقاوتان . ويداه العريضتان ، وتفوح من يديه رائحة موت ، ورائحة جلد السياط التي هوت على أجساد الناس . رائحة الشعر الذي حرقته تيارات الكهرباء . رائحة الاسمنت الذي أمر بصبه فوق مصبات وضع داخلها شباب أكبرهم بالعشرين . كيف كان لها ألا تبكي ؟ كيف لا تبكي وهي تجلس وتنظر إلى ابنتها مستعدة أن تغتصب .
أيام الوحدة انحبس المطر ، ثم عاد المطر . أيام الوحدة سمعت به " مدحت رسول " وبعد الوحدة تزوج ابنتها . أمثاله تراهم دائما ، لأن الجميع يحتاج خدماتهم . وهو كان جيدا .

ذلك الحلم . ألف مرة حلمت أنها في غرفة دون أثاث ، ولمبة حمراء معلقة بسلك عاري تتدلى من السقف ، ورغم اللمبة كان هناك ظلام ، ورجال كثيرون حولها ، عشرة وأكثر من عشرة . يرتدون بدلات رمادية ، وفوق شفاههم شوارب غليظة ، وفي أقدامهم شحاطات بلاستيكية رمادية ، وأقدامهم غليظة ، وفي أيديهم أحزمة . وهذه الأحزمة تنهال عليها ، وتستيقظ ، ولثوان تبقى في عقلها ذاكرة ألم اللحم المتفزر .
سكتت الموسيقى . آذان الظهر . يوم الجمعة .
الله أكبر ...... الله أكبر
فردت ركبتيها ووقفت . وصوت طقة خافت أتى من عظامها . وصداع عنيف في رأسها.
خرجت إلى غرفة الجلوس ومشت إلى غرفته . وألم وصداع . بيتها . تتذكر حماتها التي " بركت " لخمس سنوات ، وسلفها الذي سرق ورث زوجها عن أبيه .و البارحة . ومونتي كارلو تذيع الخبر . ثم يسمعون الخبر بال ب ب س . أما القناة السورية فكانت تعرض ماريا ديب تقرأ الرسائل والاهداءات .
إنفجار....باص...سيارة.....شاحنة ....براد....ساحة العباسيين.....بناء الروس . جميع البنات بخير . ولكن أين محمد ؟
و مضى الليل . أين محمد ؟ وقررت أن تشرب سم وتموت إن مات محمد .
إخوان.....عراقيون....أردنيون... ..لبنانيون....لا يهم . قررت أن تموت لو مات محمد .
البارحة .في غرفتها جلست وحدها ، تحادث الله ، وكالعادة لا يجيبها . في غرفتها جلست . تبكي . تتخيل دخانا ودما ونساء يصرخن ورجال شرطة وجيش ونعالا سوداء واسفلتا وأشلاء . يدا . ساقا . وأنينا . وتتخيل جثة ابنها وسط الأنين . والغصة في قلبها تمزقها . لا تريد أن تتخيل . وصداع .

الضوء يدخل حجر البيت . الضوء يدخل مرة أخرى بعد ليلة صعبة . الضوء دخل كل مرة .
عندما ماتت نهلة ، فتحت صندوق الخشب وحرقت كل شئ فيه يذكرها بها . حرقت خصلة شعرها وحرقت صورها . حرقت كل شئ كان يخصها . حرقت عودها ، والأغاني التي كانت تكتب . حرقت علبة دخانها المخملية الزهرية . وضعت كل شئ بطنجرة النحاس الكبيرة ، وصبت فوقه قليلا من زيت الكاز . ووقفت تنظر إلى النار . حمراء . ودخان أسود . أرادت أن تنسى . تمنت لو تحرق مدحت رسول . تمنت لو ماتت جوليا ومات كنان . تمنت لو تموت هي حتى يتوقف الألم . والدخان يحرق عينيها . وتمنت أن تنسى .
و دخل الضوء كل صباح . ومر كثير من الصباحات . ودخل كثير من الضوء . ولم تنس .
أبو عبد الكريم . والقلق . وزوجها . والموت . ألف رمح . وعلى جسدها آثار الطعن . إبر الأنسولين خلفت جلدا قاسيا على ذراعها اليمنى وذراعها اليسرى وفوق بطنها . وكل شئ حولها يجعلها تتذكر . ونجلاء مهووسة باسترجاع الذاكرة .
كيف نتكلم مع الله ؟ كيف نقضي ساعات نتكلم مع شئ نؤمن بوجوده دون أن نراه ؟ كيف نصدق أنه سيخلصنا من عذابنا رغم أنه لم يخلصنا يوما ؟ كيف نحبه كل هذا الحب رغم كل القسوة في عمرنا ، ورغم كل الحزن ، ورغم كل الحقد والغضب الساكن فينا . معجزة الله الكبرى أننا ما زلنا مؤمنين . ونحبه . كثيرا .
أحيانا تقف قليلا ، تحاول أن تتذكر . ألم الولادة كان حلوا . ولكن ألم الأولاد بعد الولادة مرا مرا .

فتحت باب غرفته . ورائحة كريهة . رائحة دخان ، ورائحة واخزة كالقئ . نائم فوق سريره ، فوق الشرشف الكحلي. رأسه يتدلى معلقا . ظهره عار وأخمص قدميه سوداوان ، وقرب رأسه باكيت إيبلا . وعلى الأرض ، فوق السجادة البيج ، أعقاب سجائر .
دخلت الغرفة والمنديل فوق أنفها . دخلتها بحزم وهدوء كما ضوء الشمس . شدت اللحاف من تحت ساقيه وغطته . أعادت رأسه إلى فوق الوسادة . وحملت "سطلا " سماويا امتلأ ربعه بقئ بني فيه قطع بندورة وقطع لحم مشوي أسود .
عاد البارحة الساعة الرابعة صباحا سكرانا . وكانت سعيدة جدا لأنه عاد .
قبلته . قبلته . قبلته . لأنه عاد ولم يمت .
الضجيج في الخارج . صوت "طرطيرة" وصوت باص وصوت أطفال يلعبون كرة القدم وجارة تصرخ . مشت تحمل السطل لترمي القئ ، والمنديل يضغط على أنفها وتشم رائحة الورد .
تريد أن تتوضأ وتصلي وتشكر الله وتناجيه ، فقد اشتاقت .
قال لها يوما " أنت أقوى من حبي . قوتك تمنعني أن أحبك أكثر . ولكن قوتك هي من تجعلنا وتجعلني أستمر "
وقع السطل من يدها . ارتخت ساقها اليمنى ، ووقعت .
كان صوت ارتطام رأسها أعلى من صرخة ألمها . وصوت استغاثتها مبحوحا أجشا خافتا . مجرد صوت . لم يستطع لسانها أن يشكل منه كلمة .
و أصابعها ما زالت تقبض على المنديل . والقئ بلل البلاط . ورأسها فوق البلاط . ورائحة القئ في أنفها وطعمه في حلقها . وفوق رأسها إيشارب أبيض ، وانسلت خارجه خصلة شعر بيضاء نسيت أن تلمسها الصبغة . وطنين في أذنيها . وصوت أولاد الحارة يلعبون كرة القدم . وصوت محمد يقفز خارج سريره ، وخطواته الثقيلة ، ويصرخ . ثم حملها ، وارتفعت كريشة . وسقط منها المنديل .
قال لها مليون مرة أنه يحبها . ولكنها لم تخبره ولا مرة كم تحبه . مات دون أن يعرف كم تحبه . مات دون أن يعرف أنها أحبته وهو سكران . أحبته وهو مريض . أحبته وهو يموت . أحبته قويا . أحبته ضعيفا . أحبته رغم خيانته لها . أحبته يوم هجرته عشيقته فعاد إلى حضنها ليبكي .

_____________________

" في الليل . في قصر القائد . كان هناك دائما شعلات نار معلقة على جدران الحجر . وكان هناك دائما نور . وكان هناك دائما عسكر ونساء . وفي قصر القائد كانوا في كل يوم يفرحون لولادة ويحزنون لوفاة . "

يتبع

المحارب العتيق
29/12/2008, 02:30
قصة الأسورة 3 .. جوليا 1987....ترويها لكم مايا...


ظلام....ظلام......أسود.....أسود
هل جربت تعريف اللون الأسود ؟
هو لون يعمينا . لون يأكلنا . لون يأكل باقي الألوان .

صوت ماء ينسل من الحنفية . نقطة . نقطة . صوت خالها يكبٌر . الماء يجري من الحنفية . أعوذ بالله من الخبث و الخبائث .صوت تمخط . ماء يجري . ثم يتوقف صوت جريان الماء . و تعود النقط . نقطة . نقطة .
صوت الصباح . حيث كل الأصوات هادئة . صوت عجلتي عربة زبال . و صوت نسمة هواء تدخل من نافذة نصف مفتوحة . و رائحة سروة . و رائحة سحاب آخر الصيف و رطوبة أول النهار . و بعد آذان الفجر ستسمعهم يذهبون إلى الجامع ، بأعداد أكثر من أعداد الشتاء . و بعد الصلاة سيبدأ الصف يتشكل أمام "كولبة" الخبز . و أصوات المصطفين . و أصوات خطوات شحاطاتهم فوق الدرج الاسفلتي . و صوت تثائبهم . و صوت سلامهم . و صوت معركة صغيرة بين أحدهم و أحدهم . ثم رائحة خبز .
ظلام . أسود .
تنظر .
سيحبك ناس كثيرون . و ماذا أخبرتها أيضا ؟ البصارة الحمقاء .
للسعادة صوت . و لها رائحة . و ككل صباح تستلقي على سريرها . و تحاول أن تدوخ في غيبوبة . و يسترجع عقلها
" صوت عود ....ثم أم كلثوم
يا روحي بلا كتر أسية .......ما تفرحيش الناس فيا .
جوقة نساء
يا روحي بلا كتر أسية .......ما تفرحيش الناس فيا . "
و تسمع صوت السعادة تنبض في عقلها مع نبضات قلبها . و تشم رائحة كرائحة خشب عود . كرائحة عطر جدتها .
الحمد لله على نعمة الصباح .
ضد قوانين كل العقل و العلم . تستطيع أن تتذكر يوم ولدت . صراخ أمها . و الخبط فوق رأسها و رائحة الدم . و طعم براز في فمها . ثم هدوء . و شئ كالجنة . و يسحبها خارج الجنة نفس يضغط فيها .
هل حقا تتذكر ؟ أم أنهم حكوا لها القصة كثيرا ؟
حكوا لها تفاصيل ولادتها . و تفاصيل موت أمها بعد ساعة و نصف من ولادتها . أخبروها كيف جاء ملاك من السماء ، و حملها إلى فوق .
و كلما أعادوا حكاية الحكاية ، كانت تشم رائحة نظافة . رائحة الصابون و البخار في حمام يوم الجمعة ، و رائحة مسحوق غسيل .
بعد أن كبرت ، و تعلمت أن الأرض كروية ، ظلت تؤمن أن ملاكا حمل أمها إلى الجنة . و لكنها أصبحت تعرف أننا لا نعرف إن كانت الجنة فوق أم تحت .

نهضت . مشت تحاول ألا تتعثر . لم تنظر إلى وجهها بالمرآة. الهواء كان أكثر شفافية . اليوم كان كل شئ أكثر منطقية و أكثر قبولا ، كأنها ماتت و انبعثت .
كلما انقطعت الكهرباء كانت تسمع الناس يلعنون أبا العتمة . و يعلم الله كم كانت تنقطع الكهرباء .
و في ذلك الصباح شئ جديد سيبدأ .
ظلام . ظلام . ظلام . و أسود .
مدت يدها لتلمس أسورة الذهب حول معصمها الأيسر . ناعمة . مجدولة . باردة .
البارحة قضت ساعة مستلقية جانب جدتها . صامتة مثلها . ممسكة بيدها المشلولة . تحاول أن تقرأ أفكارها ، لتدخل ذلك العقل الذي يعرف كل شئ و يتذكر كل شئ . كانت رائحة عنق جدتها كرائحة خوخة تخمرت . و كان هناك ضجيج يأتي من الشارع ، و صوت شجار .
جدتها . و عالم جدتها . و القصص و الحكايا .
تتذكر صوتها تعود ، و صوت أكياسها تفتح . و تخرج من الأكياس تنانيرا و قمصانا و أثوابا ، و لا تتركها حتى تجرب ارتداء كل شئ . و تتلو آية الكرسي فوق رأسها لتحميها من العين . و في الليل . بعد انتهاء "غدا نلتقي" . تحكي لها الكثير . عن أمها . عن خالاتها . و عن البيت العربي القديم . و تذكر في حديثها ألوانا . أصفر .أحمر . أبيض . و تنام في حضنها . و كثيرا ما كانتا تحلمان ذات الحلم .

لا صوت في البيت . لا صوت تلاوة قرآن من غرفة جدتها . لا صوت حركة لخالاتها . لا صوت معركة أو حزن . غرفة الجلوس صامتة . الحب صمت . الموت صمت . الإيمان الحق فعل صامت .
و صوت جدتها يدعو : الله لا يوفقه . الله يكسر أيده .
أن تكوني ابنة مدحت رسول .
" قول يا قلبي . قول يا أملي . قول مخبي علي أيه . "
و تتذكر يد أبيها تصفعها . و تشد شعرها . و تركض لتهرب . و تتعثر و تقع . و حزامه يجلد جسدها الصغير ، و فوقها يقع كنان ليتلقى بضع الجلد عوضا عنها . و عبد الحليم ما زال يغني " لو في قلبك شكوى مني ......اشكي مني ...لوم علي . "
عندما تغني . يسكت الجميع . تغمض عينيها . تسمع صوتها فقط ، و تسمع أنفاسهم . و كالعادة خالتها ناهد ستبكي . و تغني و تغني و تغني . و كنان إلى جانبها . يجلس إلى جانبها . يمسك يدها . و يذوب معها . تغني ليسمع .
غضب الله عليها . أغضبت الله كثيرا . و عندما كانت تغني ، كانت تشعر أن الله يكلم قلبها و يغفر لها .
كتب لها كنان أربعمئة و سبعة عشر أغنية ، و كلها تدور عن الحب . و في الليل ، تلحن أغانيه ، و في النهار تغنيها له . و أبوها يعود ، أو لا يعود . لا يهم .
تتذكره . كنان . أكبر من مجرد أخ وحيد . كنان شئ يسكن كل ساعات يومها . بل هو الشئ الوحيد الذي سكن كل ساعات يومها . هو و جنونه و شعره و حزنه و اكتئابه و نوبات بكائه و محاولة انتحاره . كنان . الذي تشكل عنده حادثة دهس صرصور مأساة وطنية . كنان . الذي كان يتحدث في أذنها . و تسمع .
كان هو الوحيد الذي الذي يصدق قدرتها على معرفة المستقبل . و كان هو الوحيد الذي شعرت به يكبر . وجهه الأملس تنبت عليه ذقن و شوارب و يتحول إلى شئ خشن لذيذ كمبرد أظافر . و رائحة عرق تنبعث منه . و جلده بات له رائحة . و شحاطته أصبحت أكبر من قدمها بسبع نمر . و يده التي تمسك يدها أصبحت كبيرة ، تبتلع يدها . و قبضته قوية ، توقف جريان الدم إلى أصابعها ، و تشعر بالنمل و الخدر . و عضلات ذراعيه تضخم . يعانقها كلما بكت ، و تشعر به عملاقا يكسر عظامها . و عندما يبكي ، كانت تضم رأسه الكبير ، و تمسح شعره الناعم الكثيف . لا ترى دموعه ، و لكنها تحس برطوبة تبلل قميصها . و تغني له . أسمهان . فيروز . و كان يسكت . و غالبا ما كان يعود مرة أخرى لحضنها بعد ساعة أو ساعتين ، ليسمعها أغنية جديدة .
و في الليالي . وحيدة في غرفتها . و ظلام . ظلام . ظلام . تغمض عينيها . كل عضلة من عضلات جسمها ، من العنق حتى أصابع قدميها تسترخي . و ملمس بيجامتها ناعم . و تتخيل رائحة جلده ، تتخيل يده ..كفه فوق ثديها . و تفك أزرار بيجامتها ، و تقرص أصابعها الدقيقة حلمتها ، تقرص أقوى و أقسى . تستمر بالقرص حتى يصبح لألم لا يطاق . و كلما أزداد الألم ، تزداد المتعة . و يدها الأخرى ممتدة داخل بنطلون بيجامتها .
أشكال كثيرة من الألم تثيرها . يثيرها أن تجلد بطنها بفرشاة الشعر . يثيرها أن تحرق أصبعها بنار قداحة . يثيرها أن تقرص باطن فخذها ، أو تشرطه بشفرة مقص . يثيرها أن تتذكر كيف يضمها كنان . و كيف تسمع ضربات قلبه . يثيرها أن تتخيله يرميها أرضا ، و يربطها ، و يجلدها بحزامه و يركل بطنها بقدمه و حذائه مقاس 46 .
و مع الصباح تستيقظ . و تتمنى لو كانت ماتت . ما أصعب أن يثير قرفك و غثيانك عفن عقلك .
تستغفر الله . تستغفر الله . تستغفر الله . ثم تستغفر الله أكثر . تغتسل . تتوضأ . تصلي . تتوب . تقسم على المصحف ألا تعود . تطلب من الله ألا يجعلها تعود . تدندن على عودها لحن أغنية جديدة . أبوها يود ، يصرخ ، يضرب ، يكسر ، يغادر . و كنان إلى جانبها .
و مع الليل ، تعود إلى خطيئتها . تمارسها بكل اللذة ، بينما كانت تبكي . تعلق ملاقط غسيل على حلمتيها و فرجها . و تبكي و تبكي . تتمنى لو يبقر أحدهم بطنها ، أو يضغط على عنقها لتختنق و تموت . و يبكيها قرفها ، و مع البكاء تسترجع ملمس الشعر فوق ذراعيه ، و قوة عضلات صدره ، و صوته يهمس لها بأغنية ، و تزداد لذتها . و تنكث بيمينها .

الماء يجري من الحنفية . و يداها تعبثان بالماء . تتحسسه . باردا ثم أقل برودة ثم دافئا ثم حارا يكاد يحرقها .
"نويت الوضوء لله تعالى ."الجميع أخبروها أن صوتها عندما تغني حلو جدا . و هو كتب لها يوما أن صوتها أحلى من تمرة مغطسة بعسل .
كتب لها يوما : أنت ذوبت قمري و نجمي ....و لونت سمائي باللون الفضي ...أنت سري و قري .... هزيمتي و نصري ....ملاكي ....معجزتي ...وردة و ياسمينة في نبضي .
و عندما كانت تصلي ، كانت ترتل القرآن . و كانت تنظر إلى الأعلى ، إلى سقف الغرفة ، و لا ترى سقف الغرفة ، و لكنها تعلم أنها تنظر في أتجاه الله . ، و تعلم أن الله فوق . و أن الله كان أعلى و أعلى و أعلى . و تشعر أنها كانت تدنس سجادة الصلاة الناعمة تحت قدميها ، و أنها تدنس الوضوء و الصلاة ، و هي الدنسة .
تقرأ المستقبل . أخبرت أخاها أن أبا عبد الكريم لن يعود ، و أخبرته أن جدهم سيموت ، و أخبرته أن جدتها ستعيش مشلولة لأربع سنوات . و لكنها لم تخبره أن قلبه سيحزن ، و أن غربة ستأكله .
تقرأ المستقبل ، و لكنها لم تعرف أن ذلك سيحدث . شعرت أن شيئا سيحدث ، و لكنها لم تصدق أنه يمكن أن يحدث .

تغسل يديها ثلاثا . تتمضمض ثلاثا ، تستنشق و تتمخط ثلاثا ، تغسل وجهها ، تغسل ذراعها اليمنى ، تغسل ذراعها اليسرى .
كم تحب الله . الله . الله . الله . يا رب .
في أذنها صوت نجاة الصغيرة . في أذنها فقط . و تغني .
طوت يد الفجر ستار الظلام ....فانهض و بادلني حديث الغرام .
على شاطئ البحر . و رطوبة قاتلة . و رائحة عشب البحر و السمك الميت . و لدغة ناموسة على ذراعها اليسرى ، تحكها . تستند على جدار . و شعرت بأنفاسه ، و بشفته تقبلها ، و بطعم ملح البحر فوق شفتيه ، و رائحة زيت البحر .
توقف كل الغناء . أصبح لصوت أم كلثوم نجاسة بول كلب . و لموسيقى عود نجاسة دم طمث . و توقف كل الغناء . و توقف عقلها .
خرجت إلى بلكون بيتهم بالطابق السادس ، تخطو وسط الظلام ، تمد يدها لتلمس الدرابزين الفولاذي البارد ، و تتمنى أن تتعثر و تقع ، و لكنها لا تتعثر و لا تقع .
لم يعد يكتب قصائد ، و لم تعد تسمع ، و لم تعد تغني . و خالاتها و المشاكل دائما .......و لا شئ غير الظلام .

ظلام .....ظلام .......أسود .....أسود .
اليوم استيقظت لتجد أنها سعيدة . أكثر الناس سعادة .
أن تكوني ابنة " مدحت رسول " ؟ أن يكون صوتك جميل ؟ أن تكوني عمياء ؟
البارحة في المنام سمعت صوتا . كان الصوت يأتي من مكان ما . أخبرها الصوت أنه الله . و رأت ضوءا ، شيئا باهرا رائعا ، لأول مرة ترى شيئا غير الأسود ، أخبرها الصوت في عقلها أن هذا هو الضوء . لأول مرة تعرف أن تعرف الظلام . و رأت في نفس المنام ضوءا مختلفا ، حارا لاذعا ، لطيفا ، له طعم حلو و ملمس لزج ، و أخبرها الصوت أن هذا اللون الأحمر . و رأت ضوءا هادئا طريا ، محا كل الأضواء الأخرى ، و لم يبق إلا هو ، كان ضوءا له رائحة حب و له صوت عندليب ، و أخبرها الصوت أن هذا اللون الأزرق . و ضوء آخر يجعلها تشعر بحب الله ينبض فيها ، لضوء الأخضر ، له رائحة تراب ، و له رائحة ياسمينة خالتها نجلا . و عاد الضوء الأول ، له رائحة منديل جدتها ، و له صوت موسيقى ، و فيه هدوء و ضجيج ، و معه ننسى و نتوه و ننام و نصح ، و أخبرها الصوت أن هذا الضوء الأبيض . و أخبرها الصوت أن هذا هو صوت الله . و أخبرها الصوت أن الله يحبها ، و أنه غفر لها ، و أنها ستعيش طويلا ، و أخبرها الصوت عن بيتها في الجنة .
و عندما استيقظت ، عادت عمياء ، و لكنها أصبحت تعرف الألوان .
يشترون لها ثيابا ، حمراء ، زهرية ، بنية ، صفرء ، سماوية . و هي لا ترى غير الأسود ، و لا تفهم غير الأسود .
اليوم أصبحت تعرف الضوء و تعرف الألوان ، و تعرف تعريف الأسود .
قررت الإقلاع عن الغناء . لا شئ أجمل من ذلك الصوت الذي سمعته . قررت هجر العود .
مسحت شعرها بالماء .
و هذا الشعر .
ظلام . أسود .
" في ذلك المساء ، ركضت ، قبل أن تشرق الشمس . فمع الفجر يعود صيادوا أوغاريت."