i m sam
22/12/2008, 18:57
كنت أريد أن أكتب مقالا عن الشاعر حافظ إبراهيم فاهديت إلى مقال
للأستاذ يوسف السيد أحمد جعلني أستنكف عن الكتابة لجمالية مقاله وشموله.
قال طه حسين: "كانت نفس حافظ تمتاز بشيئين: كانت قوية الحسّ كأشدِّ ما تكون النفوس الممتازة قوة حسّ، وصفاء طبع. وكانت إلى ذلك وفيَّة رضيَّة لا تستبقي من صِلاتها بالناس إلاّ الخير، ولا تحتفظ إلاّ بالمعروف، ولا ترى للإحسان والبرّ جزاءً يعدل الإشادة به والثناء عليه... هذا أحد الأمرين اللذين كانت تمتاز بهما نفس حافظ: حسّ قويّ دقيق، وخُلقٌ رضيّ كريم؛ فأمَّا الأمر الآخر: فصِلةٌ متينة بين هذه النفس القوية الكريمة وبين نفوس الشعب وميوله وأهوائه وآماله ومثله العليا... لا أعرف بين شعراء هذه الأيام شاعراً جعلته طبيعته مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه كحافظ".
تراكمت على الشاعر سلسلة من النكبات كان لها تأثير شديد في نفسه، فمِن فقدانِ والده وهو طفل في الرابعة من عمره، إلى ضيقِ ذات اليد فقد كفله خاله وكان يصرف عليه وقد أصابه البؤس الشديد من جرّاء ذلك، وشعر بالألم من ضيق خاله به، فعزم على أن يبدأ محاولاته في كسب عيشه وقوته بنفسه، فبعث لخاله بهذين البيتين:
ثَقُلتْ عليكَ مئونتي إنّي أراها واهيةْ
فافرح فإني ذاهبٌ متوجِّهٌ في داهيهْ
إلى إخفاق في ممارسة المحاماة، إلى تعثّر في المناصب، إلى غير ذلك ممّا عصر نفسه عصراً، وجعله ناقماً على الحظ وعلى الدهر والناس، متبرِّماً بالحياة لا يكاد يرى فيها خيراً، متطلِّعاً إلى الموت وكأنّه باب الخلاص ومستودع الرحمة. وقد ازدادت نقمته بازدياد حسّه ونقاء نفسه، يلتقط التأثيرات التقاطاً عميقاً، ويحصرها في ذاته ولِذاتهِ، وقد يكتمها عن عيون الناس ويسترها فيه بستار إنسانيته الرقيقة، ومناقبيَّته الواسعة.
برغم شعوره بالبؤس وتبرُّمه بالحياة كان الشاعر ذا طاقة فكاهيَّة عجيبة، يخترع النكتة بسهولة فائقة، ويرويها بلباقة وخفَّة روح، فقد خُلق للحياة الطليقة، وبسبب قسوة الحياة عليه، مزج مرارتها بعذوبة طبعه، وكان صريحاً شديد الصراحة، فتسابق الناس على مجالسته والاستماع إليه. وكان إلى ذلك صريحاً، شديد الصراحة، ولا شكَّ أن صراحته هذه كانت من أسباب إخفاقه في حياته الرسمية.
ومن صفاته أيضاً، أنه كان كريماً حتى الإتلاف، برغم بؤسه وضيق حاله، فلم يكن يبخل بشيء كثير أو قليل، ولا يرد سائلاً، ولا يحرم النفس مما تشتهي، وقد تحدَّث الناس عن كرمه بما يشبه الأساطير، ولعلَّ كرمه هذا راجع إلى أنه تجرَّع كؤوس البؤس مترعةً، فأحسَّ وقعه في النفوس فسخت كفُّه ونديتْ راحته.
ثقافياً لم تُتَح لحافظ إبراهيم أن يُحَصِّل من العلم أكثر مما تنطوي عليه المرحلة الابتدائية والفنون العسكرية، وقد استعاض عن هذا الفقر التحصيلي بالمطالعة فواظب عليها، تساعده في عمله ذاكرة عجيبة، فتزوَّد بمخزون عربي من جيد الشعر ونثره، وساعده على ذلك مجالسة الأدباء والشعراء ورجال الفكر من أمثال الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، وغيرهم، مع أن هذه الثقافة التي اكتسبها لم تكن عميقة ولا منسَّقة، قال عنه أحمد أمين: "كان كالنحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، وترتشف من هذه رشفة ومن تلك رشفة، فهو يرضي ذوقه في أوقات فراغه بالمطالعة المتنقّلة، فإذا عثر على أسلوب رشيق أو معنى عميق اختزنه في نفسه". وبرغم عدم معرفته للغات الأجنبية، ما عدا الفرنسية التي قيل أن معرفته فيها كانت ضئيلة، ومع ذلك ترجم قصة فيكتور هيجو العالمية "البؤساء" .
قال في علاقته بالإمام الشيخ محمد عبده: "فلقد كنت ألصقَ الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقطُ ثماره". وقد انغرست في نفسه نزعة حبِّ الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، بتقرُّبه من هذه الطبقة، فبحكم نشأته في بيئة فقيرة يحيط به البؤس من كل جانب، ولا أحد يرعى هذه المجموعة من الشعراء والأدباء، توجَّه إلى طبقة الكبار كما أسلفنا، وساعده على الانخراط بهم خفة ظله، فوسَّعوا مجالسهم له، ووجد هو في صحبتهم لذَّةً، فيروي لهم الشعر القديم، وينشئ لهم القصائد ذات الوجه الإصلاحي، فيحوِّل نقدهم السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو الديني إلى شعر، وبنفس الوقت لم يترك طبقته الشعبية، فيمضي قسماً كبيراً من اليوم في مقاهي (باب الخلق والسيدة زينب وحي الأزهر وميدان إبراهيم، عاكفاً على (النارجيلة) مختلطاً في هذه المقاهي جميعاً بالشعراء والأدباء البؤساء أمثال (إمام العبد) فيشعر بالذل أينما ذهب، في الشارع أو المقهى أو في الترام أو في الحارة، فأحسَّ بآلام الناس، وشقائهم وحرمانهم، فهو شاعر ولا يستطيع أن يعيش محترماً في بلده، ويستمد من الطبقة الممتازة شعوراً عميقاً بآلام الأمة، وهي تعمل على النهوض بهذه الأمة، والتخلص من الاستعمار الإنجليزي الذي لا يترك عُسفاً وظُلماً وتنكيلاً إلا ومارسه على المصريين، فمن هنا يظهر لنا كيف كان حافظ إبراهيم شاعر الوطنية المصرية.
متى أرى النـيلَ لا تحـلو مـواردُه لغـير مرتهـبٍ لـله مُرتـقبِ
فقد غدتْ مصرُ في حال إذا ذُكرتْ جادتْ جفوني لها باللؤلؤ الرطبِ
كأنّـَني عنـد ذكرى مـا ألمَّ بهـا قَـرْمٌ تردّدَ بين المـوت والهربِ
إذا نطـقتُ فقـاعُ السجنُ متَّـكأ وإن سكتُّ فإنَّ النفس لم تطـبِ
أيشتكي الفـقر غاديـنا ورائحـنا ونحن نمشي على أرضٍ من الذهبِ
والقومُ في مصر كالإسفنج قد ظفرتْ بالماء لم يتـركوا ضرعاً لمحتـلبِ
فمصر في هذه الأبيات بقرة حلوب والإنجليز يعتصرونها ولا يبقون لأبنائها قطرة تروي ظمأ أو تشفي غليلاً، وإنَّما يتركون لهم الفقر والشقاء.
في سنة 1888 التحق بالمدرسة الحربية وتخرَّج ضابطاً في الجيش المصري، وعُيِّن في وزارة الداخلية، وفي سنة 1896 أرسل إلى السودان مع الحملة المصرية، ولكن لم تطب له الحياة هناك، وثار مع بعض الضباط فحوكم وأحيل على الاستيداع بمرتب ضئيل، وعندما عاد إلى مصر حاول الفرار من فشله إلى معالجة الشعر ومخالطة الأدباء.
ما بين 1900 وحتى 1911 وجد الشاعر نفسه في فراغ قاتل، فاستولى عليه اليأس، وسخط على الدنيا، وراح يبحث عن عمل يكون عوناً لراتبه التقاعدي الضئيل، لكنه لم يوفَّق، فازداد نقمة، وثار على الحظ والحياة، وتبلور هذا الغضب بالشعر، ورأى في هذا الفقر والعوز عائقاً لتقدّم الأمة ورقي الشعب، فيهاجم الطبقية، ويرى في ثروة المتنعمين نصيباً للمنكوبين والبائسين، فينبه الأثرياء إلى واجباتهم الاجتماعية ويقول:
أيُّها الرَّافلون في حلل الوشي يجُرُّونَ للـذيولِ افتـخَارا
إِنَّ فَوقَ العراءِ قَوماً جيـاعاً يتوارَوْنَ ذلَّـةً وانكسـارا
وهكذا فالجهل والمسكنة والاتكاليَّة، وتقييد المرأة وإذلالها، كل ذلك آلَ بمصرَ إلى الحالة التخلّفية التي تتخبط فيها، وكل ذلك كان هدفاً لثورة حافظ إبراهيم وانتفاضته الإصلاحية بروح الإمام محمد عبده، وانفتاح ابن العصر الجديد. وقد شعر في أعماقه أنَّه لا بدَّ للأمَّة من أن تتسلَّح بالخلق القوي وبالعلم، فتحوَّل شاعراً اجتماعياً كما كان شاعراً سياسياً، فهو يثير الشعب ويحفزه إلى النهوض، وهو يحمل على الامتيازات الأجنبية حملات عنيفة. وكانت الحوادث لا تزال تُذْكي فيه مشاعره الوطنية.
وما إن وقعت حادثة "دنشواي " المشهورة سنة 1906 عندما قصد خمسة من ضباط الجيش الإنجليزي إلى محيط هذه البلدة الصعيدية بقصد الصيد، فتعرَّض لهم بعض أهلها، وأصيب ضابط إصابة أدَّت إلى موته، تبيَّن فيما بعد أن سببها ضربة شمس ، فثار اللورد كرومر الحاكم الإنجليزي في مصر؛ وعقد محكمة خصوصية برئاسة بطرس غالي، وقضت بإعدام أربعة من أهل قرية دنشواي شنقاً، وبجلد سبعة بالسياط، وبحبس ثمانية مدداً مختلفة، ونُفِّذ حكم الإعدام والجلد على مرأى ومسمع سكان القرية عقاباً وتنكيلاً، وغضب المصريون وعلى رأسهم مصطفى كامل لهذه الطريقة الوحشية، وكتب الكتَّاب في الصحف، وامتلأت النوادي بالخطب والأحاديث في هذه القسوة وتلك الوحشية، وانبرى حافظ مع الحانقين، وشنَّ هجومه على تصرُّف الإنجليز وعلى المدعي العام المصري الذي ساهم في إصدار هذا الحكم، وعلى المصريين جميعاً على استكانتهم وخنوعهم، فيقول:
وإذا أعوزَتْـكمُ ذاتُ طوقٍ بينَ تلك الرُّبى فصيدوا العبادا
فنحن نلمس العتاب واللوم الرقيق في توجهه نحو الشعب، ثم موقف المشارك للشعب في آلامه ومآسيه، وموقف الرافض للاحتلال الأجنبي، والسخط المكبوت في داخله عليه.
لا جرى النيلُ في نواحيكِ يا مصرُ ، ولا جادكِ الحيا حيث جادا
أنتِ أَنْبَتِّ ذلك النَّبتَ يا مصرُ ، فأضحى عليكِ شوكاً قتادا
للأستاذ يوسف السيد أحمد جعلني أستنكف عن الكتابة لجمالية مقاله وشموله.
قال طه حسين: "كانت نفس حافظ تمتاز بشيئين: كانت قوية الحسّ كأشدِّ ما تكون النفوس الممتازة قوة حسّ، وصفاء طبع. وكانت إلى ذلك وفيَّة رضيَّة لا تستبقي من صِلاتها بالناس إلاّ الخير، ولا تحتفظ إلاّ بالمعروف، ولا ترى للإحسان والبرّ جزاءً يعدل الإشادة به والثناء عليه... هذا أحد الأمرين اللذين كانت تمتاز بهما نفس حافظ: حسّ قويّ دقيق، وخُلقٌ رضيّ كريم؛ فأمَّا الأمر الآخر: فصِلةٌ متينة بين هذه النفس القوية الكريمة وبين نفوس الشعب وميوله وأهوائه وآماله ومثله العليا... لا أعرف بين شعراء هذه الأيام شاعراً جعلته طبيعته مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه كحافظ".
تراكمت على الشاعر سلسلة من النكبات كان لها تأثير شديد في نفسه، فمِن فقدانِ والده وهو طفل في الرابعة من عمره، إلى ضيقِ ذات اليد فقد كفله خاله وكان يصرف عليه وقد أصابه البؤس الشديد من جرّاء ذلك، وشعر بالألم من ضيق خاله به، فعزم على أن يبدأ محاولاته في كسب عيشه وقوته بنفسه، فبعث لخاله بهذين البيتين:
ثَقُلتْ عليكَ مئونتي إنّي أراها واهيةْ
فافرح فإني ذاهبٌ متوجِّهٌ في داهيهْ
إلى إخفاق في ممارسة المحاماة، إلى تعثّر في المناصب، إلى غير ذلك ممّا عصر نفسه عصراً، وجعله ناقماً على الحظ وعلى الدهر والناس، متبرِّماً بالحياة لا يكاد يرى فيها خيراً، متطلِّعاً إلى الموت وكأنّه باب الخلاص ومستودع الرحمة. وقد ازدادت نقمته بازدياد حسّه ونقاء نفسه، يلتقط التأثيرات التقاطاً عميقاً، ويحصرها في ذاته ولِذاتهِ، وقد يكتمها عن عيون الناس ويسترها فيه بستار إنسانيته الرقيقة، ومناقبيَّته الواسعة.
برغم شعوره بالبؤس وتبرُّمه بالحياة كان الشاعر ذا طاقة فكاهيَّة عجيبة، يخترع النكتة بسهولة فائقة، ويرويها بلباقة وخفَّة روح، فقد خُلق للحياة الطليقة، وبسبب قسوة الحياة عليه، مزج مرارتها بعذوبة طبعه، وكان صريحاً شديد الصراحة، فتسابق الناس على مجالسته والاستماع إليه. وكان إلى ذلك صريحاً، شديد الصراحة، ولا شكَّ أن صراحته هذه كانت من أسباب إخفاقه في حياته الرسمية.
ومن صفاته أيضاً، أنه كان كريماً حتى الإتلاف، برغم بؤسه وضيق حاله، فلم يكن يبخل بشيء كثير أو قليل، ولا يرد سائلاً، ولا يحرم النفس مما تشتهي، وقد تحدَّث الناس عن كرمه بما يشبه الأساطير، ولعلَّ كرمه هذا راجع إلى أنه تجرَّع كؤوس البؤس مترعةً، فأحسَّ وقعه في النفوس فسخت كفُّه ونديتْ راحته.
ثقافياً لم تُتَح لحافظ إبراهيم أن يُحَصِّل من العلم أكثر مما تنطوي عليه المرحلة الابتدائية والفنون العسكرية، وقد استعاض عن هذا الفقر التحصيلي بالمطالعة فواظب عليها، تساعده في عمله ذاكرة عجيبة، فتزوَّد بمخزون عربي من جيد الشعر ونثره، وساعده على ذلك مجالسة الأدباء والشعراء ورجال الفكر من أمثال الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، وغيرهم، مع أن هذه الثقافة التي اكتسبها لم تكن عميقة ولا منسَّقة، قال عنه أحمد أمين: "كان كالنحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، وترتشف من هذه رشفة ومن تلك رشفة، فهو يرضي ذوقه في أوقات فراغه بالمطالعة المتنقّلة، فإذا عثر على أسلوب رشيق أو معنى عميق اختزنه في نفسه". وبرغم عدم معرفته للغات الأجنبية، ما عدا الفرنسية التي قيل أن معرفته فيها كانت ضئيلة، ومع ذلك ترجم قصة فيكتور هيجو العالمية "البؤساء" .
قال في علاقته بالإمام الشيخ محمد عبده: "فلقد كنت ألصقَ الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقطُ ثماره". وقد انغرست في نفسه نزعة حبِّ الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، بتقرُّبه من هذه الطبقة، فبحكم نشأته في بيئة فقيرة يحيط به البؤس من كل جانب، ولا أحد يرعى هذه المجموعة من الشعراء والأدباء، توجَّه إلى طبقة الكبار كما أسلفنا، وساعده على الانخراط بهم خفة ظله، فوسَّعوا مجالسهم له، ووجد هو في صحبتهم لذَّةً، فيروي لهم الشعر القديم، وينشئ لهم القصائد ذات الوجه الإصلاحي، فيحوِّل نقدهم السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو الديني إلى شعر، وبنفس الوقت لم يترك طبقته الشعبية، فيمضي قسماً كبيراً من اليوم في مقاهي (باب الخلق والسيدة زينب وحي الأزهر وميدان إبراهيم، عاكفاً على (النارجيلة) مختلطاً في هذه المقاهي جميعاً بالشعراء والأدباء البؤساء أمثال (إمام العبد) فيشعر بالذل أينما ذهب، في الشارع أو المقهى أو في الترام أو في الحارة، فأحسَّ بآلام الناس، وشقائهم وحرمانهم، فهو شاعر ولا يستطيع أن يعيش محترماً في بلده، ويستمد من الطبقة الممتازة شعوراً عميقاً بآلام الأمة، وهي تعمل على النهوض بهذه الأمة، والتخلص من الاستعمار الإنجليزي الذي لا يترك عُسفاً وظُلماً وتنكيلاً إلا ومارسه على المصريين، فمن هنا يظهر لنا كيف كان حافظ إبراهيم شاعر الوطنية المصرية.
متى أرى النـيلَ لا تحـلو مـواردُه لغـير مرتهـبٍ لـله مُرتـقبِ
فقد غدتْ مصرُ في حال إذا ذُكرتْ جادتْ جفوني لها باللؤلؤ الرطبِ
كأنّـَني عنـد ذكرى مـا ألمَّ بهـا قَـرْمٌ تردّدَ بين المـوت والهربِ
إذا نطـقتُ فقـاعُ السجنُ متَّـكأ وإن سكتُّ فإنَّ النفس لم تطـبِ
أيشتكي الفـقر غاديـنا ورائحـنا ونحن نمشي على أرضٍ من الذهبِ
والقومُ في مصر كالإسفنج قد ظفرتْ بالماء لم يتـركوا ضرعاً لمحتـلبِ
فمصر في هذه الأبيات بقرة حلوب والإنجليز يعتصرونها ولا يبقون لأبنائها قطرة تروي ظمأ أو تشفي غليلاً، وإنَّما يتركون لهم الفقر والشقاء.
في سنة 1888 التحق بالمدرسة الحربية وتخرَّج ضابطاً في الجيش المصري، وعُيِّن في وزارة الداخلية، وفي سنة 1896 أرسل إلى السودان مع الحملة المصرية، ولكن لم تطب له الحياة هناك، وثار مع بعض الضباط فحوكم وأحيل على الاستيداع بمرتب ضئيل، وعندما عاد إلى مصر حاول الفرار من فشله إلى معالجة الشعر ومخالطة الأدباء.
ما بين 1900 وحتى 1911 وجد الشاعر نفسه في فراغ قاتل، فاستولى عليه اليأس، وسخط على الدنيا، وراح يبحث عن عمل يكون عوناً لراتبه التقاعدي الضئيل، لكنه لم يوفَّق، فازداد نقمة، وثار على الحظ والحياة، وتبلور هذا الغضب بالشعر، ورأى في هذا الفقر والعوز عائقاً لتقدّم الأمة ورقي الشعب، فيهاجم الطبقية، ويرى في ثروة المتنعمين نصيباً للمنكوبين والبائسين، فينبه الأثرياء إلى واجباتهم الاجتماعية ويقول:
أيُّها الرَّافلون في حلل الوشي يجُرُّونَ للـذيولِ افتـخَارا
إِنَّ فَوقَ العراءِ قَوماً جيـاعاً يتوارَوْنَ ذلَّـةً وانكسـارا
وهكذا فالجهل والمسكنة والاتكاليَّة، وتقييد المرأة وإذلالها، كل ذلك آلَ بمصرَ إلى الحالة التخلّفية التي تتخبط فيها، وكل ذلك كان هدفاً لثورة حافظ إبراهيم وانتفاضته الإصلاحية بروح الإمام محمد عبده، وانفتاح ابن العصر الجديد. وقد شعر في أعماقه أنَّه لا بدَّ للأمَّة من أن تتسلَّح بالخلق القوي وبالعلم، فتحوَّل شاعراً اجتماعياً كما كان شاعراً سياسياً، فهو يثير الشعب ويحفزه إلى النهوض، وهو يحمل على الامتيازات الأجنبية حملات عنيفة. وكانت الحوادث لا تزال تُذْكي فيه مشاعره الوطنية.
وما إن وقعت حادثة "دنشواي " المشهورة سنة 1906 عندما قصد خمسة من ضباط الجيش الإنجليزي إلى محيط هذه البلدة الصعيدية بقصد الصيد، فتعرَّض لهم بعض أهلها، وأصيب ضابط إصابة أدَّت إلى موته، تبيَّن فيما بعد أن سببها ضربة شمس ، فثار اللورد كرومر الحاكم الإنجليزي في مصر؛ وعقد محكمة خصوصية برئاسة بطرس غالي، وقضت بإعدام أربعة من أهل قرية دنشواي شنقاً، وبجلد سبعة بالسياط، وبحبس ثمانية مدداً مختلفة، ونُفِّذ حكم الإعدام والجلد على مرأى ومسمع سكان القرية عقاباً وتنكيلاً، وغضب المصريون وعلى رأسهم مصطفى كامل لهذه الطريقة الوحشية، وكتب الكتَّاب في الصحف، وامتلأت النوادي بالخطب والأحاديث في هذه القسوة وتلك الوحشية، وانبرى حافظ مع الحانقين، وشنَّ هجومه على تصرُّف الإنجليز وعلى المدعي العام المصري الذي ساهم في إصدار هذا الحكم، وعلى المصريين جميعاً على استكانتهم وخنوعهم، فيقول:
وإذا أعوزَتْـكمُ ذاتُ طوقٍ بينَ تلك الرُّبى فصيدوا العبادا
فنحن نلمس العتاب واللوم الرقيق في توجهه نحو الشعب، ثم موقف المشارك للشعب في آلامه ومآسيه، وموقف الرافض للاحتلال الأجنبي، والسخط المكبوت في داخله عليه.
لا جرى النيلُ في نواحيكِ يا مصرُ ، ولا جادكِ الحيا حيث جادا
أنتِ أَنْبَتِّ ذلك النَّبتَ يا مصرُ ، فأضحى عليكِ شوكاً قتادا