-
دخول

عرض كامل الموضوع : حلمُ رجل مضحك-فيودور دوستويفسكي


achelious
22/12/2008, 06:46
الترجمة عن الروسية‏
د.ثائر زين الدين



1‏

أنا رجلٌ مضحك، وهم ينعتونني الآن بالمجنون، وقد كانَ من شأن هذا النعت أن يكونَ رفعاً من قَدْري لو أنّهم تراجعوا عن اعتباري مضحكاً، كما فعلوا في السابق. لكنني بعد اليوم لن أغضبَ عليهم، فجميعُهم لطفاء بالنسبة لي حتى وهم يهزؤون بي، بل لعلهم يصبحونَ أكثر لطفاً حين يفعلونَ ذلك، ولو لم أكن شديد الحزنِ وأنا أنظر إليهم لضحكت معهم ـ ليسَ على نفسي بالطبع ـ ولكن لكي أُسرّي عنهم، شديد الحزن لأني أراهم يجهلونَ الحقيقة؛ بينما أعرفُها أنا، ما أصعَبَ الأمرَ على من يعرف الحقيقةَ وحده، إنهم لن يفهموا ذلك.‏

لا، لن يفهموا.‏

فيما مضى تألمتُ كثيراً حين بدوتُ مُضحكاً، لماذا أقولُ بدَوت، لقد كنت مُضحكاً، دائماً كنتُ مضحكاً، وأعلمُ ذلك، رُبّما منذُ ولادتي كنتُ كذلك، ولعلّي عرفت هذا في السابعة من عُمري، بعد ذلك درستُ في الثانويّة، ثُمّ في الجامعة وكنت كُلّما تعلّمت أكثر، أيقنتُ أنني مُضحك، حتى لكأن دراستي الجامعيّة كُلها ما وُجدت إلا لتبرهنَ لي وتقنعني ـ على قدرِ تعمّقي في العلومِ ـ بأنني مُضحك، سواءٌ في العلم أو الحياة، وعاماً بعد عام كنت أزدادُ يقيناً بأن لي شكلاً مضحكاً في شتّى المجالات، لقد ضحكَ عليّ الجميع وفي كل مكان، وما عرفَ هؤلاء أبداً أنّه إن كان ثَمّةَ من يدرك أكثر من الجميع على الأرض كم أنا مضحك فهذا الشخص هو أنا بالذات، وقد أغضبني كثيراً أن أحداً منهم لا يعرف ذلك، ولعلّي كنتُ مُذنباً في هذا الشأن: فقد كنت دائماً عزيز النفس، ممّا منعني دائماً أن أعترفَ لأحدهم بذلك، وقد نمت عِزّة نفسي هذهِ مع السنوات، ولو حدثَ في يومٍ من الأيام أن اضطررتُ للاعترافِ بأنني مضحك أمام شخصٍ ما لهشّمت جمجمتي بطلقةِ مُسدّس في مساء اليوم ذاته، كم تعذّبتُ في مُراهقتي من أنني قد لا أستطيع التحمّل وأعترف أمام رفاقي بأنني مضحك، ولكن ومنذ أصبحتُ شاباً ـ ورغم ازدياد معرفتي عاماً بعد عام بنوعيّتي الغريبة ـ بدأت أصبحُ لسبب ما أكثر هدوءاً واطمئناناً.‏

وما كل ذلك إلا لجهلي التام بحقيقة حالتي هذه، رُبّما يعودُ الأمرُ إلى تلك التعاسة الغامرة التي سيطرت علي إثر حالةٍ أقوى منّي؛ حالةٍ اقتنعْتُ فيها بشكلٍ راسخٍ وثابت أن لا شيء في هذهِ الحياة "يستحقُ الاهتمام"، كان الأمرُ فيما مضى مُجرّد شكٍ، لكنني اقتنعتُ بعد ذلك قناعةً كاملة، وأيقنتُ فجأةً بذلك يقيناً لا مَحيد عنه. بغتةً شعرتُ أنني لستُ معنياً سواءَ وجدَ هذا العالَمُ أم لم يوجد. وبدأتُ أشعرُ وأحسُ بكل جوارحي (أن لا شيء قد وجِدَ أثناء وجودي أنا)، في البداية كان قد تراءى لي أن أشياءَ جَمّة قد وجدت من قبلُ، ثُمَّ أدركتُ أن لا شيءَ من قَبلُ قد وجد أيضاً، ولكن لسبب ما تراءى لي ذلكَ الوجود، وشيئاً فشيئاً أيقنتُ أن لا شيءَ أبداً سيكون.‏

وعند ذلك أصبحتُ فجأةً لا أغضبُ من الناس، بل ما عدتُ ألاحظُ وجودَهم.‏

وقد تجلّى هذا في بعض التفاصيل الصغيرة جداً: مثلاً أنني كنت أسيرُ في الطريق فأصطدمُ بالناس، والأمرُ ليسَ بسبب استغراقي في التفكير: فبماذا سأفكر، يومها كنتُ قد توّقفت عن التفكير في أي شيء: لقد استوت الأمور كلها في عينيّ، وما عدتُ أهتمُ لأمرٍ ولا فكّرت في حلِ سؤال واحد؟ ثُمَّ هل كان ثمّة أسئلة شغلتني؟ (لم أكن معنياً بشيء) ولهذا تناثرت الأسئلة مبتعدة.‏

وهكذا بعد كل ما سبق عرفتُ الحقيقة، عَرفتُها في تشرين الثاني الماضي، وبالتحديد في الثالثِ منه، ومنذ ذلك الحين لم أنسَ لحظةً من تلك اللحظات، كان ذلكَ في ليلةٍ حالكة، ليلةٍ ما عرفتُ أكثر مِنها ظُلْمَةً، كنتُ عائداً في الحادية عشرة إلى منزلي وأذكرُ تحديداً أنني فكرّتُ أن من المستحيل وجود ظلامٍ دامسٍ كهذا، حتى من وجهةِ النظر الفيزيائيّة، كان المطَرُ قد تساقط طوال النهار، وكان من أكثر الأمطار برودةً وكآبةً، بل تهديداً، وعدائيةً للناس؛ أذكرُ ذلك، ثُمّ ها هو ذا يتوقف فجأةً قرابة الحادية عشرة ليلاً، وترتفَعُ من الأرضِ رطوبةٌ أشدُ برودةً مما كان المطرُ قد صنعه، ويتعالى بخارٌ ما؛ من كل بلاطة في الشارع، ومن كلِ زقاقٍ يفضي إليه وتراهُ حين تُرسِلُ نظرك إلى البعيد، عندها تهيأ لي أن انطفاءَ مصابيح الغاز كلها سيبعثُ الفرح، لأنها على هذهِ الصورة تضيءُ وتظهر كل هذا الحزن، لم أكن قد تناولتُ طعام الغداء ذلكَ اليوم، ومنذ بداية المساء جلستُ عند مهندسٍ وبصحبتِهِ رفيقيه.‏

وبقيت طوال السهرةِ صامتاً، مما بعثَ في نفوسهم المللَ مني، تحدّثوا في أمور مثيرة ثُمّ استولت عليهم الحماسة، لكنّهم كانوا في حقيقة الأمر يتصنّعون لم يكن يهمّهم ما يتجادلون حوله، وقد انتبهتُ إلى ذلك، فقلتُ لهم فجأةً: "أيّها السادة، إنكم في حقيقة الأمر لا تكترثون".‏

لم يغضبوا مني، لكنّهم جميعاً ضحكوا ساخرين، رُبّما لأنني قلتُ ما قلته دون أي لوم، ولأنني ببساطة لم أكن معنيّاً بشيء، رأوا ذلك فغلبَ عليهم المرح.‏

حين فكّرت في مصابيح الغاز وأنا في الطريق رفعتُ عينيَ إلى السماء؛ كانت شديدة الحُلكة، وبصعوبة يمكن تميزُ مِزق الغيوم، وبينهما بقعٌ سوداء عميقة، في إحدى تلك البقع استطعتُ أن أرى نجماً صغيراً فرحتُ أحدّقُ به متأمّلاً؛ لقد أيقظَ النجمُ فيّ فكرةً: في تلك الليلة قرّرتُ الانتحار، قبل شهرين منها كنتُ قد صمّمتُ على قتل نفسي، ورغم فقري الشديد اشتريتُ مسدّساً رائعاً، وحشوتُهُ في ذلك اليوم نفسه، ثُمّ مَرّ شهرانِ والمسدّسُ مرميٌ في الدُرج، وقد بلغتُ من شدّة عدم اكتراثي أن تمنيتُ في النهاية أن أقبضَ على دقيقة واحدة أحسُ فيها أن شيئاً ما يستحقُ الاهتمام، لماذا؟ لا أدري، وهكذا وخلال ذينك الشهرين كنتُ أعودُ إلى البيت كل يوم وأفكر بالانتحار، وأنتظر اللحظة المناسبة.‏

والآن يمنحني هذهِ النجم فكرةَ؛ أن أنفّذ ما عقدتُ عليه العزم في هذهِ الليلة "بالذات". أما لماذا قَدّم لي النجم هذهِ الفكرة ـ فلا أعلم!‏

وفي اللحظةِ نفسها التي كنت أنظرُ فيها إلى السماء، أمسكت طفلةٌ كُمّي، كان الطريقُ قد أقفَرَ، وما من أحدٍ فيهِ تقريباً، بعيداً عني غفا حوذيٌ على مقعده، الطفلةُ كانت في الثامنة، تغطي رأسها بمنديل، وتَسْتَتِرُ بثوبها فقط، وهي مبللة تماماً، وقد لفتَ انتباهي حذاؤها المثقوبُ المبلل ولا زلتُ أذكُرُ منظرهُ حتى الآن، ولقَد تسمّرت عينايَ على منظر قدميها في الحذاء، راحت البنتُ تشدّني من كُمّي وتستنجدُ بي، لم تكن تبكي، ولكنَّها لشدّة عصبيتها غرغرت ببعض الكلمات التي لم تستطع نطقها جيداً، بسبب البردِ وارتجافِها بقوّة، بدت مذعورةً لأمرٍ ما، ثم صَرخت يائسةً: "أُمّي، أُمِّي الحبيبة" التفتُ نحوها ولم أقل شيئاً بل تابعتُ مَسيري، ركضتْ خلفي، وهَزّتني، وتعالى صوتها كما يمكن أن تسمع من الأطفال المرعوبين اليائسين؛ أعرفُ أنا مثل هذا الصوت، ورغم أنها لم تقل ذلك فقد توقعت أن أمها تحتضرُ في مكان ما، أو أن شيئاً خطيراً حصَلَ لهما فانطلقت تستنجدُ بشخصٍ ما، تجدُ أحداً ما يساعدها، لكنني لم أذهب معها، بل راودتني فكرةُ نَهْرِها، قلتُ لها في البداية أن تبحثَ عن شرطي، ولكنّها أسرعت تضمّ يديها الصغيرتين وتتضرَعُ مبتهلةً وتركضُ إلى جواري رافضةً تركي، عندها قرعتُ الأرضَ بقدمي ونهرتُها، فما زادت عن أن تصرخ بي: "سيّدي!.. أيّها السيّد"، وغادرتني فجأةً قاطعةً الطريق مسرعةً كالسهم، باتجاهِ شخصٍ آخر على الرصيف المقابل.‏

صعدتُ إلى الطابق الخامس حيث أقيمُ؛ في شقةٍ مفروشة عند صاحب المسكن، غرفتي صغيرةٌ فقيرة، لا نافذةَ فيها إلا نصف كوّة صغيرة، عندي ديوان، طاولة تحملُ الكتب، كُرسيّان مقعد يتيم مُهلهل، لكن من طراز فولتير، جلستُ، أشعلتُ شمعة ورحتُ أفكّر.‏

في الغرفة المجاورة كانَ الصخبُ مستمراً، لقد بدأ منذُ ثلاثةِ أيام، هناك يعيشُ كابتن متقاعد، وقد زارَهُ هذه المَرّة ستّة أشخاص أوغاد، شربوا الفودكا، ولَعِبوا لُعبةَ "الفرعون" بأوراقِ لعبٍ قديمة، في الليلةِ الماضية نشب بينهم عراك، وأنا أعلم أن اثنين منهما ظّلا لفترةٍ طويلة يجرُّ كل منهما الآخر من شَعْرِه. وقد أرادت صَاحبةُ المنزل أن تشكوهم لكنّها كانت تخشى الكابتن كثيراً، لم يكن في الشقة ـ بالإضافة لنا ـ إلا سيّدة نحيفة قصيرة، هي أرملة أحد الضبّاط، وقد جاءت إلى هذا المسكن مع أبنائِها الصغار الثلاثة، الذين سرعان ما مَرِضوا، لقد كانوا يخشون الكابتن ويخافونه، مما يجعلهم يرتجفون ويرسمون إشارة الصليب طوال الليل، حتى أن الطفل الأصغر كان يُعاني من نوبةٍ عصبيّة جَرّاء الرعب.‏

كنتُ أعلمُ أن هذا الكابتن يستوقفُ العابرين في شارع نيفسكي طلباً للصَدَقة.‏

وما كان أحد يَدعوه للخدمةِ أو العمل، ولكن الغريب (وهذا ما دعاني لأتحدّث عنه) أن هذا الكابتن وقد مَرّ على سُكْناهُ مَعنا شهر كامل لم يُثرِ فيّ نفسي أي شعور بالنفور منه، لقد تجنّبتُ أي تعارفٍ بيننا منذُ البداية، مع أن مثل هذا الأمر لو حَدث لشعَرَ الرجلُ بالمللِ والضجرِ منّي منذ اللقاء الأوّل. لم أهتّمَ لأمرهم مهما صَرخوا خلفَ جدارهم ومهما كان عددهم، كان الأمرُ بالنسبة لي سيّان.‏

كنت أجلسُ طوال الليل وفي الحقيقة لم أكن أنصت إليهم أو أسمعهم ـ بل لقد نسيتُ وجودَهم. لقد اعتدتُ أن أجلس على المقعد إلى الطاولة طوال الليل دون أن أفعل شيئاً، أما فيما يتعلّق بالقراءة فقد كنت لا أقرأُ إلا نهاراً، أجلسُ فحسب ولا أفكّر، بينما تَمّرُ بخاطري بعض الأفكار، التي سرعان ما أحرّرها لتذهب وفق إرادتها.‏

احترقتْ الشمعة كُلّها تلك الليلة، وأنا أجلسُ صامتاً إلى الطاولة، أخرجتُ المُسدّس وضعتُهُ على الطاولة أمامي، وتذكرتُ حين فعلتُ ذلك أنني سألتُ نفسي:‏
"هكذا إذاً؟"، ثُمّ أجبتُ حاسماً: "نعم" أي سأنتحر، وكنت أَعْلَمُ أنني على الأرجح سأنتحر في تلك الليلة، لكن إلى متى سأجلسُ على مقعدي قرب الطاولةِ قبل أن أفعل ذلك، لم أكن أعلم. ولا شك عندي أنني كنتُ انتحرت لو لم ألقَ تلك الطفلة في الليلة نفسها في الشارع.‏


2‏

رغم أن الأشياء من حولي ما كانت تعنيني، إلا أنني كنتُ أُحسُّ ـ على سبيل المثال ـ بالألم.‏

فلو ضربني شخصٌ ما لشعرتُ بالألم. والأمرُ مُماثِلٌ فيما يتعلّقُ بالمسائِلِ الأخلاقيّة أو الوجدانيّة: فحين يحدُثُ شيءٌ محزنٌ جداً، أشعُرُ بحزنٍ عميق كما كان شَأني عندما كنتُ أكترثُ بالدنيا من حولي. لقد شعرتُ بالشفقةِ منذُ قليل: كان بإمكاني أن أساعِدَ تلك الطفلة دونَ تردد، فلماذا لم أفعل؟ لعلّها تلك الفكرة التي انبجست عندما كانت البنت تشدّني من كُمّي وتدعوني لنجدتها، متمثّلة بسؤالٍ برزَ فجأةً نصب عيني وما استطعتُ حَلّه؛ لقد كان سؤالاً نافِلاً لكنَّه أغضبني، أغضبني بسبب نتيجتِهِ التي تقول: ما دمتُ سأنهي حياتي الليلة، فالأولى أن أُصْبِحَ أقلَ اهتماماً بالدنيا في هذهِ اللحظات أكثر مما كنتُ في أي وقتٍ مضى، فلماذا شعرتُ فجأةً وبعدما سبق بأنني أشفِقُ على الطفلة وأكترثُ لحالها؟ أتذكر أنني حزنت لأجلها وأشفقتُ عليها كثيراً، ممّا لا ينسجِمُ مَع وضعي وما أنا مقدمٌ عليه. حقيقةً... لا أتمكَنُ من رسم المشاعِر التي سيطرت عليّ لحظتها، لكنّها مشاعرُ لم تغادرني أبداً، وحين جلستُ إلى طاولتي في الغرفة، كانَ الغضبُ في نفسي يضطرمُ كما لم يحدث لي منذُ سنواتٍ طويلة، وبدأتِ المحاكماتُ العقليّة تترى الواحدة تلو الأخرى، وكنت أقلّبُ الأمور: إنني ما دمتُ إنساناً، ولستُ صفراً، وَلم أصبح صِفراً بعدُ، فهذا يعني أنني أحيا، وبالتالي يُمكنني أن أتألّمِ، وأغضبَ وأشعر بالخزي مما أقترِفُهُ، طيّب! فإن انتحرتُ؛ ما الذي يعنيني بَعد سَاعتين مثلاً من شأن الفتاة، ومن الخزي، ومن كلِ ما هو فوقَ سطح الأرض؟ عندها سأتحوّلُ إلى صِفر، إلى عَدَمٍ مُطلق.‏

وهل من المعقول أن مسألةَ إدراكي أنني بعد قليل لن أبقى موجوداً (على الإطلاق)، وبالتالي فالعالم كُلّهُ لن يكونَ موجوداً، هل من المعقولِ إذاً أن هذا الإدراك لم يكن يؤثّر ولو قليلاً جداً على شعوري بالشفقة إزاء الطفلة، وشعوري بالعارِ من قِلّة الضمير التي ارتكبتُها؟!‏

لقد قمتُ بإهانةِ الطفلة البائسة حين قرعتُ الأرضَ بقدمي، وصرختُ بها، ومَا هذهِ الحقارة التي قمتُ بها والخالية من مشاعِر التعاطف الإنساني "بهدفِ البرهان على أنني لم أعد أشعُرُ بالشفقة فحسب، بل لأثبِتَ أيضاً أنني أستطيعُ أن أرتكبَ أي حقارة لأنني وبعد ساعتين سأغادرُ هذا العالم"، هل تُصدّقون أن صُراخي كان لهذا السبب؟ أنا الآن واثقٌ تقريباً من ذلك، لقد تصوّرتُ بوضوحٍ تام أن الحياة والعالم الآن إنّما يتعلّقانِ بي، ويمكنني حتى أن أقول: لكأنَ العالمَ قد وجدَ لأجلي وحدي، فيكفي أن أطلقَ النارَ عليّ حتى يختفي العالم ولا يعودُ موجوداً، على الأقل بالنسبةِ لي؛ ولا أقول الآن أن لا شيءَ سيبقى في حقيقة الأمر للجميع من بعدي أنا، وما أن ينطفئُ وَعيي حتى يتلاشى العالَمُ كلّهُ في اللحظةِ نفسها كما يتلاشى شبح، لأن كل هذا ينتمي إلى وعيي أنا وحدي، رُبّما لأن هذا العالم كُلّه، والناسُ كُلّهم ليسوا سوى (أنا) وحدي، أذكُرُ أَنني استعرضّت وقلّبتُ كل هذهِ الأسئلة الجديدة جَالساً إلى طاولتي؛ فأذهب فيها مذاهب شتّى واختَلِقُ غيرها.‏

فقد تصوّرتُ ـ على سبيل المثال ـ أمراً غريباً جداً؛ كما لو أنني كنتُ قد عشتُ في الماضي على سطح القمر أو المرّيخ، وارتكبتُ هناكَ عملاً شديد البشاعةِ والوضاعة، مما لا يمكن تصوّره، فصرتُ مخزيّاً مكللاً بالعار، بطريقةٍ لا يمكن تخيّل مثلها إلاَّ في الكوابيس، ثُمّ وجدتُ نفسي فجأةً على سطح الأرض مع كلِّ تلك المشاعِرِ والصور عَمّا ارتكبتُهُ على سطح ذلك الكوكب، لكنني لن أعودَ إلى هناك لأيِ سبب كان؛ فأنا أنظر إلى القمر من الأرض ـ هل سأشعُرُ عندها بعدم الاكتراثِ لكل ما حدث هناك؟ هل سأحسُّ بالعار مما فعلتُهُ هناك؟ أسئلة نافلة لا جدوى منها، فالمسدّسُ يضطجعُ أمامي على الطاولة، ولا بُدّ أنني سأنتحرُ؛ لكن تلك الأسئلة تثيرُ في أعماقي النار وتمنعني من الموتِ قبل أن أحلّها، وبكلمة واحدة: لقد أنقذتني تلك الطفلة فالأسئلةُ تلك أبعدت المسدّس، وكان الوضَعُ في غرفة الكابتن يجنَحُ إلى الهدوء والسكون. لقد توقفوا عن اللعب، واستعدّوا للنوم، وما عادت تصلني إلا بضعُ دمدماتٍ متقطّعة، أو شتائم متفرّقة، ثُمّ أخذني النوم فجأة على غير عادتي مَعه من قبل، نمتُ دون أن أحسّ بذلك، الأحلام؛ كما هو معروف أشياءُ غريبة(1) بعضُها يعرضُ لك رهيباً حاداً وجلياً بكل تفاصيله، كقطعةٍ نقديّةٍ تخرجُ من بين يدي الصائغ وفي بعضها الآخر تسبَحُ عَبرَ الزمانِ والمكان ولا تلتقطُ شيئاً من الجليِ تماماً أن ما يحرّك الأحلام فينا هو الرغبة وليس العقل، هو القلب وليس الرأس، ورغم هذا فإن عقلي في أحيان كثيرة يلعب دوراً كبيراً في أحلامي، ويطرحُ أشياء عجيبة صعبة التفسير!. من ذلك أن لي أخاً توفي منذ خمس سنوات، وهو يظهر في أحلامي أحياناً: فيشاركُ في أعمالي، ونشعرُ بمتعة كبيرة، وخلال كل ذلك لا يغيب عن بالي أن أخي هذا ميتٌ ومدفون.‏

فكيفَ لا أشعرُ بالدهشة أنه رغم موتِهِ يجلسُ إلى جواري ويشاركني أموري؟‏

لماذا يسمَحُ عقلي لهذا الأمر أن يحدث ويمّر؟ وعلى كل حال يكفي هذا.‏

وسأنتقلُ إلى حُلمي الذي رأيتُهُ، نعم الحلم الذي شاهدتُهُ في تلك الليلة، حُلمي ليلة الثالث من تشرين الثاني.‏

إنهم يسخرونَ مني ويرونَ أنه مجرّد حُلم، ولكن سواءَ كان ما رأيتُهُ حُلماً أم لا فالأهمُ أنه أظهر لي "الحقيقة"، وما دمتُ قد عاينتُ الحقيقة الأزليّة وعرفتُها وعرفتُ أن لا حقيقة سواها فما أهميّة أن أكون قد فعلتُ ذلك في الحلم أم اليقظة وليكن حُلماً، إن تلك الحياة التي تعلونَ من شأنها كنتُ سأنهيها بطلقة مُسدّس، لكن حُلمي، حُلمي أنا ـ فقد حَمَل إليّ حياةً جديدة، عظيمة، متجدّدة، وقويّة!‏

اسمعوا:‏

achelious
22/12/2008, 06:52
3‏

لقد قلتُ إنني نمتُ وما أحسستُ كيف حدث ذلك، لكأنني كنت لا أزال أقلّبُ تلك الأمور.‏

ورأيتُ نفسي أمسك المسدّس وأنا في وضعيتي نفسها وأسددُهُ إلى قلبي مُباشرةً ـ إلى قلبي وليسَ إلى رأسي، وكنتُ من قبل قد خططتُ أن أسدِدَ إلى صدغي الأيسر، وضعتُ المسدسَ إذاً في صدري وانتظرتُ ثانية أو اثنتين، فإذا بالشمعة والطاولة والجدار أمامي تهتزُ وتترنّح، فأسرعتُ أطلقُ النار.‏

في الحُلمِ تسقطُ أحياناً من مكانٍ شاهقٍ، أو تُطعن أو تُضرب، لكنك لا تحسُّ على الأغلب بالألم، إلا أن تكون قد آذيتَ نفسكَ بالسرير، وتستيقظُ تحت الشعور بالألم، وهذا ما حَدَثَ في حُلمي: فأنا لم أشعر بالألم جَرّاء إطلاق النار ولكن خُيّل لي أنني تلقيتُ صدمة هَزّتني كُلّي ثم شعرتُ بالسكينة، وأحاطتني ظلمةٌ شديدة، لكأنني أصبحتُ أعمى وأخرس، ثُمَّ ها آنذا أضطجِعُ فوق شيء ما صلب ممّدداً ومقلوباً، لا أرى شيئاً ولا أستطيع أن أتحرّك، البشر من حولي يصرخون ويعبرون، والكابتن يزمجر، وصاحبة البيت تعول ـ ثُمَّ يَعمّ الهدوءُ من جديد، وها هم يحملونني في تابوتٍ مُغلق، وأحسُّ التابوت يتأرجح، فأفكر في الأمر، وتصعقُني لأوّل مرّةٍ فكرة مفادها أنني ميّت ميت تماماً، أعلمُ ذلك ولا أشكُ فيه، لا أتحرّك، لا أرى شيئاً، لكنني أحسُّ وأفكّر. وسرعان ما ألفتُ هذا الوضعَ وفقاً لمنطق الحلم نفسه، وقبلتُ الأمر دون اعتراض.‏

وها هم يدفنونني في الأرض، ثُمَ يغادرون، أظّلُ وحيداً، وحيداً تماماً، لا أستطيع الحركة.‏

كنتُ فيما مضى حين أتخيّلُ كيف سأُدفَن في القبر، أجدُني دائماً أربطُ بين القبر ومشاعر الوحدةِ والإحساس بالبرد، ولهذا فأنا أشعرُ الآن بالبرد الشديد، ولا سيّما في نهاياتِ أصابعِ قدميَّ، وسوى ذلك لا أشعرُ بشيء.‏

كنتُ ممدّداً ومن الغريب أنني لم أكن أنتظرُ شيئاً، وكنتُ على يقين لا اعتراضَ فيه أن على الميّت ألا ينتظر شيئاً. لا أعلم كم مَرّ من الوقت ـ ساعة أم عدّة أيام، أم أيام كثيرة.‏

ثُمّ إذا بقطرةٍ ماءٍ كبيرة تسقطُ فجأةً من غطاء التابوت في عيني اليُسرى المغمضة، وتتلوها بعد دقيقة قطرة أخرى، وهكذا يستمرُ تساقط القطرات كل دقيقة، فأشعرُ بغيظ شديدٍ في قلبي، ثُمّ أحسُّ بألمٍ فيزيائيٍ فيه: "إنّه جُرحي ـ فكرتُ ـ هذا موضِعُ الرصاصة" ويستمرُ تساقطُ القطرات كل دقيقة واحدة ومباشرةً على عيني المغلقة.‏

وفجأةً وجدتُني أصرُخُ بكل ما فيّ من مشاعر ـ ولكن دون صوت فقد كنت جامداً لا حراكَ فيّ ـ وجدتُني أصرخُ منادياً ذاك الذي يتحكّم بي.‏

ـ أياً كنتَ؛ إن كنتَ موجوداً، وإن كان من الممكن وجود ما يحدث الآن، ولو على سبيل الانتقام مني بسبب انتحاري الغبي فلا تسمح بحدوث ذلك لأنكَ لن تلقى مني إلا السخرية، فالتعذيب الذي يقعُ عليّ الآن، مهما كان لا يَعْدِلُ شعوري بالاحتقار الذي سأحسّهُ صامتاً ولو لملايين السنين القادمة!‏

ناديتُ بكلامي ذاك ثُمّ سكتُ، مَرّت دقيقةٌ من صمتٍ عميق، وسقطت قطرةُ ماءٍ واحدة لكنني كنت أعلم علمَ اليقين أن كل هذا الأمر سيتغيّر فجأةً، وها هو ذا القبرُ ينفتحُ فجأةً، أو لنقل أنني لم أكن أعرف هل انفتَحَ القبرُ أو كان كذلك أو ذابَ الغطاء، لكنني أحسستُ أن كائناً غامضاً ومجهولاً أمسكني وطار بي في الفضاء، ثُمَ أعادَ لي بصري بغتةً، لكن الظلام كان حالكاً كما لم أرهُ من قبل، لم أسأل الكائن الذي حملني وبقيت صامتاً محتفظاً بكبريائي، لا أشعر بالخوف؛ وسعيداً بذلك، لا أستطيع أن أتذكر كم طرنا، وليس بإمكاني تصوّر ذلك: فقد حدث ما حدث كما هو الأمرُ في الأحلام تجتازُ الأماكن والأزمنة، وتخترقُ كُلّ قوانين العقل والدنيا ولا تلتقطُ شيئاً محَدّداً.‏

أذكُرُ أنني لمحتُ في ذلك الظلام الشديد نجماً، فسألتُ رغماً عني: "أهذا نجم سيروس؟" ذلك أنني ما أحببتُ أن أتوجَهَ إلى من يحملني بأي سؤال، فأجابني قائلاً:‏

"لا، إنهُ النجمُ نفسه الذي رأيتَهُ بين السحاب حين كنتَ عائداً إلى منزلك، كنتُ أعلم أن لهذا الكائن هيئة إنسان، ومن غريب الأمر أنني ما أحببتُ هذا الكائن، بل شعرتُ تجاهَهُ بكرهٍ شديد. لقد انتظرتُ العدمَ المطلق ولأجل ذلك أطلقتُ رصاصةً في قلبي، فإذا بي بين يدي كائنٍ؛ هو بالتأكيد لا إنساني ولكنهُ "موجود".‏

فكّرتُ بخفّة الحلمِ العجيبة: "إذاً هناكَ وراء القبر حياةٌ أخرى!"، لكنَ ميزتي الأساسيّة ظَلّت في أعماقي: "إذا كان لا بُدَّ أن (أوجدَ) ثانيةً ـ فكّرتُ ـ بإرادةِ أحدٍ ما فإنني لن أكونَ مَغلوباً ومُذلاًّ".‏

"أنتَ تعلم أنني أخافك، ولهذا أنتَ تحتقرُني"، قلتُ لرفيقي، دون أن أستطيع كبح هذا السؤال المُذل، الذي ينطوي على اعتراف وينغرس في قلبي كإبرةٍ سببها الجبن.‏

لم يجبني عن سؤالي، ولكنني شعرتُ فجأةً أنه لا يحتقرني، ولا يضحَكُ من فعلي، ولا يرثي لي في الوقت نفسه، وأن لدربنا هذا غاية ينتهي إليها، سريّة غير معروفة ولا تعني أحداً سواي، ازدادَ الرعبُ في قلبي، ونفذَ صمتُ صاحبي إلي عميقاً ومؤلماً.‏

واجتزنا فضاءاتٍ مظلمةٍ ما رأتها عين، وما عدتُ أرى نجوماً مألوفة من قبل.‏

وكنتُ من قبلُ أعلم أن في أعماق الفضاء توجدُ نجومٌ لا تصلُ إلينا أنوارها إلا بعدَ آلافِ وملايين السنين، لعلّنا قد قطعنا تلك الفضاءات، كنتُ أنتظرُ شيئاً ما في وحدة قلبي العميقةِ والمخيفة، وفجأةً وبينما أنا كذلك إذا بعاطفةٍ معروفةٍ تهزّ كياني وتوقظ ماضيّ بقوةٍ: لقد رأيتُ فجأةً شمسنا! كنت أعلمُ أنها لا يمكن أن تكون (شمسنا)، شمسنا التي ولدت أرضنا، وأعلم أننا نبعدُ عن شمسنا مسافاتٍ لا نهائية، لكنني كنت أحسُّ بكل جوارحي أنها تشبُهُ شمسنا تمام الشبه، وهي نسخة عنها، ونظير لها. إحساسٌ لذيذٌ حلوٌ غَمَر روحي: وقوّة الضياء الخلاقة التي ولدتني، ترجّعت في قلبي وبعثتهُ من جديد، فأحسستُ بالحياة تعودُ إلى عروقي، لأوّل مَرّةٍ بعدَ أن قُبِرت.‏

ـ ولكن إذا كانت هذهِ هي الشمس، إذا كانت شمساً كشمسِنا تماماً ـ هتفتُ به، فأين هي الأرض إذاً؟‏

فأشار مُرافقي إلى نجمةٍ تُشّعُ في الظلمةِ بضياءٍ زُمردّي اللون، وكنا في الآن نفسه نتجهُ نحوها.‏

ـ هل من الممكن أن يحدثَ مثلُ هذا التكرارِ في الكون؟ وهل هو قانون الطبيعة؟ وإن كانت تلك هي الأرضُ، فهل هي أرضٌ كأرضنا تماماً، مثلها تعيسة، وفقيرة، ومثلها غالية ومحبوبة أبد الدهر، وقادرة على استدرار حُبِ أبنائها وحتى أكثرهم جحوداً؟ ـ قلت ذلك هاتفاً وأنا أرتعشُ جراءَ حُبٍ طاغٍ وشديد تجاه تلك الأرض التي ولدتُ عليها وهجرتُها، وكانت طيف تلك الطفلة البائسة التي أهنتُها يخفقُ أمام عيني.‏

ـ سترى كل شيء ـ أجابَ مُرافقي وكانت كلماتُهُ تشي بحزنٍ ما.‏

ولكننا كنا نقتربُ بسرعةٍ من الكوكب، فيكبُرُ حجمُهُ في عينيّ، ثمّ مَيّزتُ المحيط وحدود أوروّبا، فاشتعلت غيرةٌ غريبةٌ ومقدّسةٌ في قلبي: "كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التكرار؟ ولأية غاية؟ أنا أحبُ... أنا أستطيع أن أحب تلك الأرض التي تركتُها ورائي، تلك الأرض التي تناثَرَ دَمي فوقها، عندما أطلقتُ الرصاص في قلبي جاحِداً كل شيء، ومنهياً حياتي، ولكنني لمْ أتوقّفْ عن حبّها أبداً، وحتى في تلك الليلة التي فارقتها فيها فقد شعرتُ بحبّها أشدُ تعذيباً لي من أي وقتٍ مضى، هل ثمّة عذاب على هذه الأرض الجديدة؟ على أرضنا لا نستطيع أن نحب إلا مع الألم والعذاب، وفقط من خلالهما، وإلا فإننا لا نستطيع أن نحب، بل لا نعرفُ حُبّاً آخر، لهذا أنا أطلبُ العذابَ كي أتمكّن أن أحب، كم أتعطّشُ في هذهِ اللحظة أن أقبلَ الأرضَ وأغسلها بدموعي، تلكَ الأرض التي هجرتها والتي لا أريدُ، بل لا أستطيع العيش إلاَّ عليها فقط!".‏

لكن مُرافقي كان قد تركني وحيداً. وأصبحت فجأةً ـ وكما لو أنني لم أنتبه لذلك ـ أقفُ على تلك الأرض الأخرى غارقاً في نور شمسٍ ساطع، في يومٍ نعيميٍ رائع. لقد وقفت على ما أظنُ على أرضِ جزيرةٍ من تلكَ الجزر التي تشكّل أرخبيل(2) اليونان، أو على شاطئ أرضٍ تشرِفُ على ذاك الأرخبيل. كل شيء كان يشبُهُ ما ألفناهُ على أرضنا تماماً.‏

وتراءى لي أن حبوراً وعيداً يشعُّ في كل مكان حتى يبلغُ الأمرُ مرحلةَ النشوة والروعة.‏

والبحرُ الزمرديُ اللطيف يُداعبُ الشاطئ بحبٍ واضحٍ عن وعيٍ تقريباً.‏

وأشجارٌ باسقةٌ عاليةٌ رائعة انتصبت في المكان غزيرة الأوراق وكثيفتها وبَدَتْ لي وكأنها تحييني بمودّة بحفيفها الصامت الرقيق، وتخاطبني بكلمات الحب. واشتعَلَ المرجُ أزهاراً عَطِرةً مضيئة، أما العصافيرُ فكانت تطيرُ نحوي أسراباً مطمئنةً آمنة وتحطُ على كتفيَّ ويديَ مصفّقةً بأجنحتها الصغيرة مغنيةً لي. وأخيراً رأيتُ وعَرَفت بشَرَ تلك الأرض. لقد جاءوا إلي بأنفسهم، أحاطوا بي، وقبّلوني.‏

أبناءُ الشمس، أبناءُ شمسهم ـ كم كانوا رائعين! ما رأيتُ في حياتي جمالاً كجمالهم على أرضنا، وهل بالإمكانِ أن تجدَ صورةً ولو باهتةً من جمال هؤلاء الأطفال في أطفالِنا حديثي الولادة! عيون هؤلاء البشر السعداء كانت تشعُّ ضياءً ونوراً.‏

ووجوههم تشرقُ حكمةً ووعيّاً، يبلغُ أقصى حدود الهدوء والرزانة، في أصواتهم وكلماتهم كانت ترنُّ نغمةُ سعادةٍ طِفْليّة. وقد فهمتُ كل شيءٍ من النظرة الأولى إلى وجوههِم. إنّها الأرضُ؛ قبل أن تلطّخها الخطيئة، وعليها يعيشُ البشرُ دون خطيئةٍ، يعيشونَ في هذهِ الجنّة؛ التي تناقَلَ البَشَر أن أجدادنا عاشوا فيها قبل أن يرتكبوا آثامَهم، مع فرقٍ واحدٍ، هو أن هذهِ الأرض هُنا، إنّما هي جنّة في كل جنباتِها وجهاتِها. كان هؤلاء الناس يضحكونَ من حولي بجذلٍ ومَرَحٍ، يقتربونَ مني ويمازحونني، ثُمَّ مضوا بي إلى منازلهم وكُلّ منهم يحاولُ أن يرفّه عني ويسلّيني، وما سألوني عن أي شيء، وكأنهم كانوا يعرفونَ الأشياء جميعها؛ هذا ما بدا لي. لقد كان همّهم أن يطردوا تعابير العذاب عن ملامح وجهي.‏


4‏

إنكم ترونَ مَرّة أخرى: وليكن أن ما شاهدتُهُ كان مُجرّد حُلم! لكن إحساسي بمحبّة أولئكَ الناس الأبرياء الرائعين انغرسَ في قلبي إلى الأبد، وما زلتُ أحسُ أن حبّهم يتدفّق نحوي من هناك حيث هم موجودون، لقد رأيتهم بنفسي وعرفتهم وتألمتُ لأجلهم بعد ذلك، آه لقد أدركتُ لحظتَها أنني لا أفهمهم حق الفهم، لقد بدا لي ـ أنا التقدمي الروسي الحديث، والبطرسبورغي العفن ـ بدا لي وبشكلٍ معقّد أنهم ورغم معرفتهم الكبيرة يجهلونَ علومَنا. ثُمّ ما لبثتُ أن أدركت أن معارفهم هم اكتملت وتشبّعت بمدركاتٍ واختراقاتٍ مختلفةٍ تماماً عَمّا لدينا على الأرض، وتطلعاتهم أيضاً مختلفة عن تطلّعاتنا لقد كانوا هادئين بلا رغبات، ولم تكن لديهم تلك المحاولاتُ لمعرفة ِالحياة، كما هو الحالُ عندنا، لأن حياتهم كانت كاملة، ومعرفتهم أكثر عُمقاً وسُمّواً من عِلمنا، لأن علمنا إنما يسعى لمعرفةِ الحياة وشرحها، لتعليم الآخرين، أما هم فقد عرفوا كيف يعيشونَ ودون علم، وهذا ما عاينتُهُ بنفسي، لكنني لم أستطع أن أفهَمَ معارِفَهم.‏

لقد أروني أشجارَهم، لكنني لم أستطع أن أفهم درجةَ الحب السامية التي كانوا ينظرونَ من خلالها إلى تلك الأشجار: وقد تحدّثوا إليها كما يتحدّثونَ إلى أشباههم من البشر.‏

ولا أخطئُ لو قلت إنهم وجدوا لغةَ الأشجار وتكلّموها. نعم اكتشفوا لغة الأشجار وقد فهمتِ الأشجارُ بدورها كلامهم. لقد نظروا إلى الطبيعةِ بهذهِ الصورة ـ إلى الحيوانات التي عاشت معهم بسلام؛ ما هاجموها ولا هاجمتهم، بل أحبوها وبالحبِ، روّضوها. لقد أروني النجوم وحَدّثوني عنها حديثاً لم أفهمهُ، لكنني واثِقٌ من أنهم على تماسٍ حي مع نجوم السماء تلك وليس الأمرُ مجردُ تماسٍ أو رباطٍ فكري. أوه لم يسعَ أولئكَ الناس لجعلي أفهمهم، بل أحبّوني دون ذلك، وقد فهمتُ بالمقابل أنهم أحياناً ما استطاعوا استيعابي، رُبّما لأنني تقريباً لم أحدثهم عن أرضنا، لكنني قبّلتُ تلك الأرض التي يقفونَ عليها، ودونَ كلماتٍ شعرتُ باحترامٍ ومودّة تجاههم، وقد شعروا بذلك فتركوا لي أن أحبّهم وأودّهم دون شعورٍ بالحرجِ من قَبلهم، لأنهم هم أنفسهم كانوا ممتلئينَ بالحب.‏

لم يتعذّبوا لأجلي حين قبّلتُ أقدامهم أحياناً ودموعي تغطيّ وجهي، لكنني كنت أشعر بسعادة مَبْعَثُها إحساسي بمقدار قوّة الحب التي سيعوّضونني بها عن كل ذلك. كنت أتساءل أحياناً بشيءٍ من الدهشة: كيف استطاعوا طوال الوقت ألا يسيئوا إلى واحدٍ مثلي، وألا يبعثوا فيَّ شعوراً بالغيرةِ أو الحسد ولو لمرّة واحدة؟ وقد سألتُ نفسي مراراً، كيف استطعتُ أنا المتباهي الكذّاب ألا أحدّثهم عن مداركي ومعارفي التي بطبيعة الحال لا يعرفونَ عنها أيّ شيء؟ كيفَ لم أشعر برغبة في إدهاشهم حتى ولو من قبيل الحب نحوهم؟ لقد كانوا فرحين مرحين كالأطفال، يطوّفونَ في أرجاءِ أحراجهم وغاباتهم، ويغنونَ أغنياتهم الرائعة، ويكتفونَ بثمار أشجارهم وعَسلِ غاباتهم وحليب حيواناتهم المحبوبة؛ مما هو خفيفُ المأكل لأجلِ طعامِهم وكسائِهم ما كانوا يعملونَ إلا قليلاً، كانوا يعيشونَ الحب وينجبونَ الأطفال ولكنني لم ألاحظ لديهم في يومٍ من الأيام اندفاعات تلك اللذة "القاسية"، التي يبلغها تقريباً كل شخصٍ على أرضنا، وتعتبَرُ مصدر كل آثامِ وأخطاء الإنسانيّة.‏

كانوا يفرحونَ بولادةِ أطفالهم كمشاركين جدد في أعياد مسراتِهم، وما رأيتُ بينَهم حسداً أو خصومات، بل ما كانوا يعرفونَ معنى هاتين الكلمتين، وكان طفلُ أحدهم طفل الجميع، صانعين بذلك أسرةً واحدةً، المرضُ تقريباً لم يكن لَهُ وجود عندهم، مع أن الموتَ موجود طبعاً، كان الشيوخ منهم يموتونَ بهدوء وكأنهم ينامون محاطين بذويهم الباسمين المباركين، وعلى شفاههم أنفسهم علائم البسمة. لم أرَ حداداً أو دموعاً خلال ذلك، بل حُبّاً يزدادُ حتى يصل مرحلة الهيام والوجد الهادئ الرصين والكامل؛ حتى يدفعك كل هذا إلى التفكير بأنهم يظّلونَ على صلة مباشرة مع موتاهم بعد أن فارقوا الحياة، وأن الموتَ لا يستطيعُ أن يقطعَ أو يُبترَ الوحدةَ الأرضيّة التي تربط بينهم، لم يفهموني تقريباً حين كنت أسالهُمُ عن الحياة الأبديّة، ولكنهم على ما يبدو كانوا مقتنعين بها عن غير وعيٍ بطريقةٍ كفتهم ضرورة طرح السؤال.‏

لم تكن لديهم معابد، لكنهم كانوا يعيشونَ في اتحادٍ كامل متواصلٍ مع "الكون الكلّي"، لم يكن لهم دينٌ محدد، بل ثقةٌ راسخة، بأنهم حين يبلغونَ أو يحققون فرحتهم الأرضيّة حتى أقصى حُدودِ الطبيعةِ الأرضيّة، فسيحققون جميعاً ـ الأحياء منهم والأموات ـ أقصى درجاتِ التواصِلِ والاتحادِ مع "الكون الكلّي". كانوا ينتظرونَ تلكَ اللحظة بفرحة ودونِ تعجّل، ودون عذابِ الانتظار، كما لو أنهم قد قبضوا على تلك اللحظة بنبوءاتِ قلوبهم، وتناقلوها فيما بينَهم.‏

كانوا قبل أن يذهبوا إلى النوم يحبونَ تشكيل جوقاتٍ جماعيّة منظّمة، تُردِدُ أُغنيات تبثُّ إحساساتهم التي تراكمت خلال النهار في نفوسهم، وبذلكَ يباركونَهُ ويودّعونَه. يباركونَ الطبيعةَ والأرضَ والبحر والغابات. كانوا يحبّونَ تأليفَ الأغنيات أحدهُم عن الآخر، فيُثني واحدهم على زميلِهِ ويمتدحُهُ كالأطفال فيما بينَهم، كانت تلك أغنيات بسيطة، ولكنّها مؤثرة لأنها نابعة من القلوب، وما كانوا يلاطفونَ بعضهم بالأُغنيات فحسب، بل في كافةِ وجوهِ الحياة، فهم ينفقونَ الحياة في حبِ بعضهم بعضاً.‏

غير أني لم أفهم تقريباً أغنياتِ النشوة والانتصار التي كانوا يؤدّونَها، ورغم معرفتي بمعاني كلمات تلك الأغنيات غير أني لم أستطع أن أنفذَ إلى عمق دلالاتِها ومعانيها الكليّة، لقد بقيتْ قصيّةً عما يستطيعُ عقلي أن يبلُغَه، لكنَ قلبي بالمقابل استطاعَ أن ينفذَ إلى تلك المعاني ويتشبّع بها أكثر فأكثر، قلتُ لهَمُ مراراً أنني ومنذ زمن بعيد قد تنبأتُ بكل ذلك، وأن ذلكَ الحبور وتلك السعادة قد تكشفا لي على أرضنا بصورة حنينٍ جارف، يبلُغُ أحياناً درجةَ الألم الذي لا يُحْتَمَل، وأنني تصوّرتهم وتصوّرتُ مجدَهم مُسْبقاً في أحلام طفولتي، وأمنياتِ عقلي، وأنني ما كنتُ أستطيع النظر وأنا على الأرض إلى الشمس الغاربة إلا وتمتلئ عيوني بالدموع... وأن بغضي لأهل الأرض كان دائماً ممتزجاً بالألم: لماذا لم أستطع أن أكرههم، أو أحبّهم؟، لماذا لم أستطع أن أسامحهم؟ ولماذا يمتزجُ ودّي لهم بالألم؟ لماذا لا أستطيع أن أحبّهم أو أكرههم؟.‏

كانوا يستمعونَ إلي وكنتُ أرى أنهم لا يستطيعونَ تصوّر ما أقوله، ولكنني لم أندم على ما قلتُهُ لهم. وعلمتُ أنهم يفهمونَ قوّة حنيني إلى أولئكَ الذين فارقتهم.‏

بلى؛ عندما كانوا ينظرونَ إليّ بنظراتِ محبّتهم النفّاذةِ العذبة، فأحسُ أن قلبي في حضرتهم يصبُحُ بريئاً وصادقاً كقلوبهم كنتُ حينها لا أشعُرُ بالندم أنني لا أفهمُهم. وتحت تأثير الإحساسِ بامتلاء الحياة بينهم كانت تتقطّعُ أنفاسي وأبدأُ بالصلاةِ لأجلِهم صامتاً.‏

[...] أتعلمونَ؛ سأبوحُ لكم بسر: رُبّما كل ما سبق لم يكن حُلماً! لأن ما حَدَثَ كانَ مهولاً وفظيعاً في حقيقتِهِ، بحيث لا يمكن أن يتراءى في حُلم.‏

ولنفترض أن حُلمي هذا كان وليدَ قلبي، فهل باستطاعة قلبي منفرداً أن يلدَ تلك الحقيقة الهائلة، التي تحققت بعد ذلك؟ كيفَ كانَ بإمكاني أنا وحدي أن أتخيّل كل ذلك، أو أن أَحْلُمَ بهِ في فؤادي؟ وهل باستطاعةِ قلبي الصغير، وَعَقْلي الضحل المُتَقلّب أن يتساميا إلى تلك السويّةِ من معرفةِ الحقيقة؟ احكموا على ذلك بأنفسكم: أنا حتى هذهِ اللحظة كتمتُ الكثير عنكم، لكنني الآن سأقول كل الحقيقة.‏

الأمرُ وما فيه أنني... قد أفسدتُ الجميع!‏

achelious
22/12/2008, 06:59
5‏

نعم، نعم، لقد انتهى بي الأمرُ إلى إفسادهم جميعاً! كيف حدث ذلك ـ لا أعلم!‏

لا أذكرُ تماماً. لقد طار الحُلمُ عابراً ألوف السنوات وتركَ في نفسي إحساساً مُتكامِلاً فحسب. ما أعلَمُهُ أنني أنا نفسي سبب الإثم الأوّل. فكدودةِ خنزير، كذرّة طاعونٍ، يمكن أن تُعدي بلداً كاملاً، أمَرضتُ بحضوري أرضاً سعيدةً لا خطيئةَ فيها.‏

لقد تعلَّموا الكذب وأحبّوه وعَرَفوا مواطن الجمال فيه. رُبّما بدأ الأمرُ (بريئاً) على سبيل المزاح، أو الغنجِ والدعابة واللعب، وحقيقة الأمرُ أن البداية كانت ذرةً؛ لكن ذرّة الكذب تلك تسرّبت إلى قُلوبهم وأعجبتهم. بعد ذلك ظهرت اللذّة بسرعة، واللذّةُ ولّدت الغيرة، والغيرةُ بدورها ـ وّلدت القسوة... آه، لا أعلم؛ لا أذكر ولكن بعد ذلك بقليل سُفِحَ الدمُ الأوّل: فدهشوا وذعروا، وتفرّقوا، وتباعدوا عن بعضهم. ثُمّ ظهرتِ التحالفات، ولكن الواحدَ ضد الآخر، وبدأت المعاتباتُ والتقريعات. وعرفوا الخجل، الذي أمسى فضيلةً، وظهَرَ مفهومُ الشرف، ورفَعَ كل حِلفٍ رايتَهُ الخاصة. وبدؤوا يعذّبون الحيوانات، ففّرت منهم إلى الغابات وأصبحت عدواً لهم، ثم بدأت المعركةُ لأجلِ "الانفصال" و"الفرديّة" و"الشخصيّة" لأجلِ: هذا لك وهذا لي. وأخذوا يتحدّثونَ بلغاتٍ مختلفة، وعرفوا الاكتئاب، وأحبّوه.‏

وتعطّشوا للعذاب، فقالوا إن الحقيقة لا تُبْلَغُ إلا بالعذاب(3). وعند ذلك ظهرَ العِلمُ عندهم، وعندما أصبحوا أشراراً أخذوا يتحدّثونَ عن الأخوّة والإنسانيّة وفهموا تلك الأفكار. وعندما أصبحوا مجرمين اخترعوا العدالة، وكتبوا قوانينَ تصونها، ولأجلِ تطبيق القوانين نصبوا المقصلة. وما تذكّروا إلا قليلاً ما فقدوه ورفضوا أن يصدّقوا أنهم كانوا ذات يوم بريئين وسعداء، بل سخروا من إمكانية تحقق نموذج سعادتهم القديمة وسمّوه حُلماً، وعجزوا عن تصوّرِهِ في شكلٍ أو هيئةٍ محسوسة، ومن غريب الأمور: أنهم رغمَ فقدانهم الإيمان بسعادتهم البائدة، وتسميتهم إياها حكاية أو خُرافة، ظلّوا يتوقونَ بقوّة إلى استعادةِ براءتهم وسعادتهم، وسجدوا ثانيةً أمامَ أمنياتِ قلوبهم تلك كالأطفال، وألّهوا تلك الأمنيات، فبنوا مَعابِدَ وراحوا يصلّون فيها لتلك الأفكار، لتلك "الأُمنيات"، مَعَ علمِهم أنها غير قابلة للتحقق، ولكن الدموع مع ذلك ظلّت تُرافق صلواتهم وخشوعهم، ورغم ذلك لو كان باستطاعتهم العودةَ إلى تلك الحالة من البراءة والسعادة، التي فقدوها، وتمكّن أحدٌ ما من وضع تلك الحالة أمامهم وسألهم: هل يرغبون بالعودة إليها؟ ـ لأجابوا أغلب الظن بالرفض. ولقالوا: "فليكن أننا كذابون، أشرار، وغير عادلين، (نعلمُ ذلك) ونبكي ونعذّب أنفسنا بسببهِ، ونعاقبُ ذواتنا بصورة أشد بكثير مما يمكن للدّيانِ الرحيم أن يفعل بنا حين يحاسبنا، وما زلنا لا نعرفُ اسمَه.‏

لكن لدينا العلم الآن، وسنبحَثُ بواسطتِهِ عن الحقيقة من جديد، فنعتنقها بوعي هذه المرّة المعرفةُ فوقَ الإحساس. الوعي بالحياة فوق الحياة نفسها، العلمُ يمنَحُنا الحكمة والحكمة تكشف لنا القوانين، ومعرفة قوانين السعادة فوق السعادة"(4).‏

هذا ما قالوه، وبعد تلك الكلمات ارتفعت نرجسيّةُ كلٍ منهم فوق الآخرين، وما كان بمقدورهم أن يتصرّفوا بغير ذلك. وازدادت غيرةُ كلٍ منهم على شخصيّتِهِ وأصبح يسعى إلى إذلالِ شخصيّات الآخرين والخفض من شأنها، واعتمد على بقائه الشخصي فحسب، وظهرت العبوديّة، بل العبوديّة الطوعية أيضاً: فخضَعَ الضعفاءُ للأقوياء طوعاً، طمعاً في مساعدتهم على سحقِ من هم أكثر منهم ضعفاً. ظهَرَ نفرٌ من الصالحين؛ ممّن قدموا على هؤلاء البشر والدموع في عيونهم ناصحين لهم؛ فحدّثوهم عن صلفهم، عن فقدانِهم الاعتدال والاتساق (الهارمونيا)، عن فقدانهم الخجل، فسخروا منهم، وقذفوهم بالحجارة أحياناً، فسال الدمُ المقدّسُ على عتباتِ المعابد. وبالمقابل ظهَرَ نفرٌ من الناس راحوا يفكرونَ: كيف يعيدونَ الوحدة بين الناس، بحيث يبقى الواحدُ من البشر يحبُ نفسه أكثرَ من الجميع، ولكن لا يقفُ في طريق غيره، فيعيشُ الجميعُ في مجتمعِ الوئام.‏

واندلعت حروبٌ كاملة بسبب هذهِ الفكرة، وكانَ كلُ المحاربين يؤمنون بقوّة أن العلم والحكمة والرغبةَ في البقاء ستجبرُ الإنسان في النهاية على الاجتماع في مجتمعٍ عاقلٍ ومبنيٍ على الوفاق، ولأجلِ هذهِ الغاية، سعى "الحكماءُ" بسرعةٍ إلى تصفيةِ "غير الحكماءِ" جميعاً، ممّن لا يفهمونَ أفكارهم، كي لا يعيقوا الانتصار.‏

لكن رغبة البقاء الذاتي سرعان ما ضعُفت، لينهضَ المعتزّون بأنفسهم، المتجبّرون المندفعون خلف ملذّاتهم، والذين يطلبونَ كلّ شيء أو لا شيء، ولأجلِ الحصولِ على كل شيء لجؤوا إلى الوحشيّة ـ فإن لم يبلغوا غايتهم فإلى الانتحار!‏

ظهرت دياناتٌ تدعو إلى العدم وتدمير الذات لأجلِ الراحة الأبديّة في اللا وجود.‏

وأخيراً تعب هؤلاء البشر من عملهم اللا مجدي، وظهرت على وجوههم علائم المُعاناة، فنادوا بأن العذاب والمعاناة هما الجمال، لأن الفكَرَ في العذاب. ومضوا يغنونَ الألمَ في أغنياتهم. وكنتُ أتجوّل فيهم منحنيَ اليدين؛ باكياً لأجلهم، وشاعراً بالحب نحوهم رُبّما أكثرَ من ذي قبل، حين لم يكن العذابُ يعلو وجوههم، وكانوا بريئين رائعين.

وأحببتُ الأرضَ التي دنّسوها أكثرَ مما مضى؛ يومَ كانت جنّةً، لأن الألمَ قد ظهَرَ على سطحها، وآ أسفاه لقد أحببتُ الألمَ والعذابَ دائماً، أحببتُهما لنفسي، لنفسي فحسب، أما لأجلهم فقد بكيتُ ورثيت. ورحتُ أبسطُ يدي نحوهم مديناً نفسي، لاعناً ومحتقراً إيّاها حتى الهذيان، قلت لهم إن كل هذا إنما صنعتُهُ أنا، أنا وحدي، وأنا الذي حملتُ إليهم الفساد، والعدوى والكذب وتضرّعت إليهم كي يصلبوني وعَلَّمتُهم كيف يصنعون الصليب. لم أكن من القوّة بالمقدار الذي يجعلني أقتلُ نفسي، لكنني أردتُ أن أحمِلَ عذاباتِهم جميعها، وكنت أتحرّقُ للألم والعذاب، وأتمنى أن يسفح دمي حتى آخر قطرة في سبيل ذلك، ولكنهم ما زادوا عن الضحكِ مَما أفعله، ثم اعتبروني مجنوناً مجذوباً في النهاية، واعترفوا لي قائلين أنهم حصلوا على ما تمنّوه لأنفسهم فحسب، وأن كل ما هو موجود الآن؛ ما كان بالإمكانِ إلا أن يوجد. في النهاية أعلنوا إنني أصبحتُ خَطِراً عليهم، وسيحبسونني في بيت المجانين، إن لم أصمت، عندها نفذَ الحزنُ إلى نفسي بصورةٍ شديدةٍ، أحسستُ أن قلبي جراءَها قد انقبَضَ بقوّة، وأنني أموت... وعندها، في تلك اللحظة صحوتُ من النوم.‏

كان الوقت فجراً، والضياءُ لم يعمَّ بعد، الساعة تقاربُ السادسة، وجدّتُني جالساً على المقعدِ نفسه، والشمعَةُ قد احترقت حتى النهاية، في غرفة الكابتن الكل ينام، والهدوءُ يعمُّ كما لا يحدثُ عادةً في بيتنا هذا.‏

أوّل شيء فعلتُه هو أنني قفزتُ واقفاً واعترتني دهشةٌ غريبة، فأنا لم يسبق أن حدثَ لي ما حدث اليوم، حتى بخصوصِ الصغائرِ: كأن أنام على مقعدي جالساً. حين وقفتُ واستعدتُ رشدي لاحظتُ مسدّسي المحشو الجاهز ـ فأبعدتُهُ جانباً بسرعة آه.. الحياةُ الآن.. الحياة! رفعتُ يديّ مبتهلاً للحقيقة الأبديّة، بل باكياً باكياً باندفاعٍ شديد لا حدود له، رَفَعَ وجودي كُلَّه، نعم عليّ أن أحيا ـ وأُبشّر!‏

آه حول التبشير حسمتُ موقفي في اللحظةِ نفسها، وبالطبعِ حتى نهاية حياتي!‏

سأنطلقُ مبشِّراً، وأريدُ أن أبشّر ـ لكن بماذا؟ "بالحقيقة!"، فقد رأيتُها، رأيتها بعينيَّ، رأيتُ مجدها كُلّه!‏

وهكذا ومنذ ذلك الوقت رحتُ أُبشّر!، ووجدتُني أُحبّ أولئكَ الذين يسخرونَ مني أكثر بكثير ممّا أحبُ غيرهم، أما لماذا ـ فلا أعلم ولا أجدُ تفسيراً لذلك، ولكن فليكن ما الضير! يقولونَ الآن إنني ضللتُ الطريق، وما دمتُ قد فعلتُ ذلك الآن فإلى أين سأصل؟ وهذه حقيقةٌ لا غبار عليها: لقد ضللتُ وقد تسوءُ الأمور أكثر في المستقبل. ولا شكَ أنني سأضيعُ أكثر من مَرّة قبل أن أهتدي إلى سواء السبيل، فأعرف كيف عليّ أن أبشّر وبأيةِ كلماتٍ وأفعال، لأن هذا الأمر في غاية الصعوبة، وأنا أعلمُ هذا وأراهُ واضحاً كالنهار منذ الآن، لكن اسمعوا: من مِنّا لا يضل الطريق! ومع ذلك نسيرُ جميعاً إلى غايةٍ واحدة، أو لنقل يسعى الجميعُ إلى نهايةٍ واحدةٍ، من الحكيم حتى آخرِ مجرم، وإن اختلفت السُبُل، رُبّما كانت هذهِ حقيقةٌ قديمة، ولكن إليكم الجديد: أنا إن خُدعتُ ـ فليسَ إلى زمنٍ طويل، لأنني رأيتُ الحقيقةَ، لقد رأيتُ وعرفتُ أن البشر يمكن أن يكونوا رائعين وسعداء دون أن يفقدوا القدرة على الحياة فوق سطح الأرض.‏

أنا لا أريدُ ولا أستطيعُ أن أصدّق أن الشر حالة طبيعيّة للإنسان، غير أنّهم جميعاً إنّما يسخرون مني بسبب اعتقادي هذا، ولكن كيفَ بإمكاني ألا أؤمن بذلك: لقد رأيتُ الحقيقة ـ ولم أختلق الأمرَ ذهنيّاً، لقد رأيتُها.. رأيتُها، وامتلأت روحي "بأُنموذجها الحي" إلى الأبد. شاهدتُها في تجلّيها المطلق، ولم أصدّق أنها لن تتحقق عند البشر. وهكذا، كيفَ لي ألا أضل؟ وأنحرف، بالطبع سيحدُثُ ذلك أكثر من مَرّة، وقد أتحدّثُ بكلامٍ غريب، ولكن ليس لوقتٍ طويل: فالأنموذج الحي الذي رأيته سيبقى معي دائماً؛ يُصححُ لي ويوجّهني. ها أنذا شجاعٌ، وفي نضارة الشباب وسأمضي وأمشي ولو ألف سنة، هل تعلمون؛ لقد أردتُ في البدايةِ حتى إخفاء خبرِ إفسادي لهم جميعاً، وقد كانت تلك غلطة ـ أوّل غلطةٍ لي!‏

لكن "الحقيقة" سرعان ما وشوشتني: إنني "أكذب"، وبالتالي حفظتني وسددت خُطاي. كيف يمكن أن نبني الجنّة ـ لا أدري، لأنني لا أستطيعُ أن أعبّر عن ذلك بالكلمات، بعد حُلمي ذاك ضيّعتُ الكلمات، على الأقل؛ الكلمات الرئيسةُ كُلّها، الضروريّة جداً. ومهما يكن: سأمضي وأتحدّث دونَ كلل، لأنني قد عاينتُ بعينيَّ هاتين، حتى ولو لم أستطع وصف ما رأيت.‏

ولكن المستهزئين في كل الأحوال لن يفهموا: "حُلمٌ، هذيان، هلوسة". إيخ... هل هذا من الحكمةِ في شيء؟! وسيعتزّونَ بكلامهم كثيراً!. حُلم؟ وما هو الحلم؟‏

وهل حياتنا أكثر من حلم؟ وسأقول أكثر من ذلك: فليكن أن كل ذلك لن يتحقق وأن الجنَّة لن توجد أبداً (وأنا أفهم تماماً ذلك) ـ لكنني ورغم ذلك سأنطلقُ مُبشِّراً، فما أسهل الأمر رغم كل شيء: فمن الممكنِ في يومٍ واحد، بل (في ساعةٍ واحدة) ـ أن يُعَادَ بناء كل شيء وبالسرعة القصوى؛ وإنما المهم ـ أن تحبَّ الآخرين كما تحب نفسك، وهذا هو الأمرُ الرئيس(5)، الذي لا يعدِلُهُ أمر: فمتى حققتموهُ بنيتُم الجنَّة. وبالمناسبة هذهِ حقيقةٌ قديمة قرأها البشَرُ ورددوها بلايين المَرّات. فكيف إذاً يمكن التعايشُ مع الفكرة التي تقول: "إن وعي الحياة فوق الحياة نفسها، ومعرفة قوانين السعادة ـ هي أعلى من السعادة" ـ إن ما يجبُ النضال ضده هي هذهِ الفكرة بالتحديد! وسأفعل ذلك. ما أن يَرغبَ الجميعُ في شيء حتى يتحقق من لحظتِها.‏

أما تلك الطفلة فسأجدها... سأمضي... وأمضي وأمضي!‏

تمت