sona78
02/12/2008, 14:53
أنسي الحاج
(كُتب هذا المقال قبل الاعتداء المستنكر على الصحافي في «المستقبل» عمر حرقوص)
تُحمَّل الصحافة أكثر ممّا تَحتمل وتُرْحَم أكثر ممّا تَستحقّ. الأكثر الأول: أن يُكمّ فمها، بالقوانين أو الإرهاب أو الرشوة، ظنّاً من السلاطين أن حريّتها هي أقوى من السلطة. الأرجح أن هذا ـ بحسب الوقائع ـ وَهْم. ما من حريّة أقوى من السلطة إلاّ حريّة الانتحار. هناك سلطة ضعيفة أو خائفة، وهذه تتخيَّل الأعداء والأخطار أينما كان. ليس هناك صحافة أكثر حريّة من الصحافة الغربيّة، وما من ممنوع عليها، ولم تستطع أن تُسقط إلاّ الحكومة الساقطة أو الرئيس الذي تألّبت عليه جميع القوى القاهرة وكانت الصحافة إحدى أدواتها.
الأكثر الثاني: تُرْحَم أكثر ممّا تستحقّ... حين تُعفى من الشراكة في مسؤولية التعتيم على حقيقة، أو مسؤولية الضلوع في فساد، أو الترويج المأجور والضار بمصلحة المجتمع وأهله، أو تضليل الرأي العام. بكلمة: تُعفى، مثلاً، صحف لبنانيّة من مسؤولية تعميق الخلاف بين طرفي النزاع عام 1975 وما بعده. من مسؤولية تأجيج النعرات الطائفية. من مسؤولية التبعيّة لأجهزة خارجيّة. وكون الصحافة اللبنانيّة تتمتّع، دستوريّاً وقانونيّاً وتقليديّاً، بهامش من ليبرالية التعبير، ليس مبرّراً لسوء الائتمان. الواقع أن علاقة الصحافة برأس المال علاقة قديمة شرقاً وغرباً، وفي لبنان ترقى إلى ما قبل المال النفطي بكثير. في عهد الانتداب أفسد الفرنسيّون مَن أفسدوا من أهل الصحافة والسياسة بالمال السخيّ. والإنكليز لم يتوانوا. وحتى الألمان، على ما يروي إسكندر الرياشي، حاولوا أن ينافسوا. وبدون الطعن على الأجداد والروّاد يمكن القول إن بعض أبرز القوم في الصحافة والأدب في القرن التاسع عشر كانوا حسّاسين جدّاً للإكرام والإحاطة، وليست قصائد مديحهم وحدها بشاهد بل سيرة حياتهم في لبنان والمَهَاجر العربيّة والتركيّة والأوروبيّة والأميركيّة. العلاقة وطيدة وترجع إلى جذور الشعر العربي. لم يكن كثير من قصائد الهجاء والمديح والرثاء إلاّ مقالات مدفوعة موزونة ومقفّاة. الشعر ديوان العرب أي صحافتهم. العراقة إذاً في العلاقة بالمال مثبتة بالبرهان وموثّقة تاريخيّاً ومُلَقَّنة في المدارس.
لهذا لا ننتقد في المطلق بل نسبيّاً.
يكتب أحدهم مذكراته فيقول ببراءة تامّة إن فلاناً صاحب الجريدة الفلانيّة كانت له، إلى جانب المداخيل المنظورة من المبيع والإعلان والاشتراك، «مداخيله الخاصة». وهذا ينطبق على العديد من أصحاب الصحف، الذين يغرفون أحياناً من «مداخيلهم الخاصة» لتغطية عجز المداخيل المشروعة... المتأتّي أحياناً من سطوهم على المداخيل، مشروعة وغير مشروعة. ولكن ماذا تعني عبارة «المداخيل الخاصة»؟ ليست أرباحاً عقاريّة ولا مضاربات في البورصة ولا مردود أسهم في المصارف والشركات. الأكثريّة من أرباب الصحف بدأوا فقراء، وظلّوا فقراء طوال فترة «كفاحهم». المراحل المثاليّة التي تتكوَّن فيها صورة الصحافي هي مراحل الفقر. عندئذٍ يكون «مناضلاً» وبطلاً شعبيّاً يرفع لواء القضايا المحقّة ويقتحم حصون الظلم والفساد، فليس له ما يخسره، وأمامه ما يَرْبحه. يبدأ مثاليّاً وعقائديّاً ثم تلتفّ عليه قوى الإغراء، أو هو يلتفّ عليها وتستدرجه أو يستدرجها. وحين يبدأ في قطف ثمار الجهاد نادراً ما يبقى على العهد. شأنه شأن الجميع. الجاه والفخفخة. مَن لا يسكر لا بد أن يكون واحداً من اثنين: فاشل أو قدّيس. الصحافة ابنة عمّ السلطة، ضميرها مطّاط. العلاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين التأليف والنقد. الأصل والظلّ. الجالس سعيداً، والطامع بـ أو اليائس من الجلوس. «المداخيل الخاصة» تبدأ بعد الجوع. المفارقة أن الصحافيين يطالبون (خصوصاً في حالات التوتر من بخل الميسورين أو في ساعات الحَسَد) بتطبيق قانون «من أين لك هذا؟». لو طُبِّقَ هذا القانون لوقف كثير من الصحافيين أمام القضاء.
لا أحد يسائل الصحافي أكثر من القارئ. وكما تكتبون تقرأون وكما تقرأون يُكْتَب لكم. «المواطن» في بلداننا معجب بالشطارة. قلَّة الأخلاق ليست خطيئة في نظره، خصوصاً إذا صاحَبَتها الألمعيّة. أو على الأقل ليست خطيئة في السياسة ومرآتها الصحافة. تستطيع أن تستميل القارئ إذا كنتَ كاتباً موهوباً ولو غَسَلْتَ دماغه بالأكاذيب. تأخذه الألمعيّة حيث تريد. ليس في البلدان العربيّة تقاليد السلطة الفكريّة والثقافيّة الأسمى من الشبهات والكاسرة في وجه السلطات والقمع. عندنا شهداء رأي وليس عندنا مؤسسة حريّة. عندنا أدباء ومفكّرون وصحافيون أوادم وجريئون وليس عندنا مؤسسة متراكمة تراثيّة صلبة مجذّرة من الطهارة والبطولة الأدبيّة. عندنا حالات فرديّة، وحالات خارقة، لا تراكم تراثي عمادُه الثابت هو الحقيقة. عشائر وميليشيات. كيف تكون صحافتنا إلاّ انعكاساً لمجتمعنا، وأحياناً أسوأ عندما تجتاح سياجها بالكامل؟
هناك صحافيون وليس هناك «الصحافي». وعندما يقول ألبير كامو إن الصحافة ضمير الأمّة يقصد نفسه حين زاولها فترة في جريدة «كومبا». أو إميل زولا في الدفاع عن دريفوس. الأمثلة ليست ساحقة بل هي نوادر. حملات الصحافة معظم الأحيان مغرضة إن لم تكن مأجورة. يوم كانت لا تزال مهنة يدوية وتعجّ بالأقلام القويّة كان غرض أصحابها (وبعض محرّريها) السلطة (والمال دائماً). يوم تَصَنَّعت ثم دخلت في الكومبيوتر بات غرض أصحابها المال (والسلطة). والمحرّرون إمّا مغلوبون على أمرهم وإمّا على دين أربابهم، يغرفون حيث يجدون ويرتبطون بهذا الجهاز أو تلك الشخصية تحت شعار التزوّد بالأخبار. والأخبار جسمها لبِّيس. لبّيس وآخر مَن يعلم هو القارئ. وينطبق هذا على التلفزيون «أكرم» ممّا ينطبق على الجرائد. فالسياسيون والوجهاء يفضّلون الظهور على الشاشة، كالراقصات.
الصحف في العالم العربي تناصر السلطة ضد سجناء الرأي. لا مشاكل مأسوية إلاّ إسرائيل. ما شاء الله. الباقي يرفل بالسعادة والازدهار، والحريّة ترقص رقصاً في الشوارع. كيف للصحافي العربي أن يكشف ظلماً أو فساداً أو فضيحة أو جريمة سياسيّة في الأقطار العربيّة وهو ممسوك من رقبته؟ أعجب ما يكون هو مجرّد صدور الصحف العربيّة، وخاصة صحف الخليج. لقد أصبحت أكبر قضايا الصحافة تسلية القرّاء بالأحاجي وجوائز السيّارات ومقالات العته واستئصال الزائدة العقليّة. أمّا صفحات الإسلام والتراثيّات فمن باب إثبات حسن نيّة الناشر وبرهانه على أن هذا هو «الفكر الحرّ» المسموح به في جريدته. «الفكر الحرّ» و«التاريخ الحرّ» و«الإيمان الحرّ».
تقتضينا أصول الزمالة أن نلزم الصمت. لكنها زمالة كوميديّة. صحافة الأنظمة البوليسية «التقدميّة» مثل النشرات الرعوية وصحافة النفط تؤدي رسالتها على أفضل ما يُرام: تبديد تمويلها الضخم على تبخير الملوك والمشايخ، واستنهاض ثقافة التعمية باستعمال الآرمات الخادعة. قليل من التساهل والأسماء اللامعة لتسويغ التخلّف والرياء.
لقد أفسد المال النفطي كلّ شيء. وعوض أن يحرّر الشعوب العربيّة والإسلاميّة الفقيرة من العوز والأميّة ركّزها في تخلّفها وذهب قسمه الأكبر متدفقاً إلى الذمم يشتريها والأقلام يُسخّرها والكبار يراودهم عن غرائزهم ويحني هاماتهم إذلالاً وتسوّلاً إلى أعماق الوحل.
وصارت الصحافة اللبنانيّة تنتظر جرعاتها المنعشة إمّا من الخليج مباشرة وإمّا بواسطة رجاله اللبنانيين. وبين الجرعة والجرعة تُزايد في التودّد (أو في الابتزاز). وحين يكتب أحدهم في جريدة عن السعودية أو الكويت أو قطر أو الإمارات تحسبه يتغزّل بالرقيّ في إسكندينافيا أو بأحدث آفاق الهندسة المعمارية في نيويورك. لقد انهارت آخر سدود الأخلاق وانتهى البغاء الجنسي لا حين تحرّرت جميع الفتيات بل حين لم يعد البغاء السياسي والإعلامي يترك زيادة لمستزيد. كانت الصحيفة معبداً وأضحت مَتْجَراً. كان الإعلان يشوّه حيطان المعبد وكنّا مع هذا نحتمله، فمورده، كما كانوا يقولون، حلال. لم تعد المسألة إعلاناً واشتراكاً بل مزايدة في وقاحة الارتماء تحت أقدام الأثرياء. لبنان كلّه، خلال سنين، كان يبدو في شعنينة دائمة حاملاً الشموع وفوقها صور المحسنين وليد ابن طلال ورفيق ثم سعد الحريري وعصام فارس. وأنسى الثانويين. وهذه مدرسة يملكها المحسن فلان وتلك الشيخة فلانة. والآن كل يوم صور السيّدة ليلى الصلح حمادة تكحّل العيون بالنيابة عن السيّد وليد المشغول باستقبال قناصل أفريقيا والقائمين بأعمال شبه القارة الهندية والقرن الأفريقي. كرنفال مريع من الزحف على البطون في بلاطات المحسنين. وكل هذه التبرّعات منذ سنين والشعب مُعْدَم والبلاد مفلسة. والمشكلة الوحيدة هي إسرائيل!
أين الصحافة من كل هذا؟ الصحافة تطبّل للنفاق والزعبرة وتمشي في طليعة المزوّرين. أكبر تزوير هو الرخصة. لماذا لا تلغي النقابتان الخالدتان رخصة الإصدار؟ لماذا الرخصة بمليون، بمليوني دولار؟ من أين للصحافي ـ للصحافي الصافي غير المأجور ـ مثل هذا المبلغ فقط قبل أن يبدأ الإصدار؟ أليست هذه تحريضاً إجبارياً على رهن الذات؟ هل يستطيع جبران أو نعيمة أو الشدياق أو البستاني أو اليازجي أو تقلا أو زيدان، إنْ هم عادوا أحياء، أن يصدروا جرائد في لبنان؟ كان أبو شبكة يملأ صحف لبنان ومصر مقالات، هل يستطيع إذا بُعث الآن أن يقتني جريدته؟ أوشك ميشال عون عهد حكومته العسكرية أن يلغي هذا العار، لماذا لم يُلْغِه؟ ما هذه القوّة «الديموقراطية» التي تحمي الامتياز وتجبر الأقلام على التوظّف عند أرباب المال المتستّرين بالصحافة؟
لا فسحة كافية للمتابعة. والمؤلم أننا مضطرون إلى رحمة الصحافة حتّى لا يرتدّ هجاؤها مديحاً للسلطة. سلطة سياسيّة وماليّة، محليّة وخارجيّة، تستولد الفساد من الهواء. وأيّ سبيل للإصلاح ـ بل لمجرّد وقف زلزال الفساد ـ ما دام المجتمع كلّه صالحاً للعدوى؟
يتطلّع الساذج إلى يوم يتوق فيه المجتمع أن يصير نظيفاً. وتتوق فيه الصحافة إلى الانتفاض على نفسها. إلى يوم لا يعود فيه الكلام الإعلامي موَجَّهاً إلى «زبون» بل إلى هيئة معنويّة لنسمّها، اصطلاحاً، الضمير. التوجّه إلى زبائن يتضمّن الاسترضاء والتملّق، فضلاً عن الفتنة والإغراء، ناهيك بالتجنّب والخوف. يتطلّع الساذج إلى يوم تَجْمع فيه الصحافة، إذا بقيتْ، بين استقامة الحقّ وجاذبيّة الإغراء الكتابي. أمّا الفتنة، فإمّا بشعة وإمّا دمويّة في غير إطارها الجنسي.
" الأخبار"
(كُتب هذا المقال قبل الاعتداء المستنكر على الصحافي في «المستقبل» عمر حرقوص)
تُحمَّل الصحافة أكثر ممّا تَحتمل وتُرْحَم أكثر ممّا تَستحقّ. الأكثر الأول: أن يُكمّ فمها، بالقوانين أو الإرهاب أو الرشوة، ظنّاً من السلاطين أن حريّتها هي أقوى من السلطة. الأرجح أن هذا ـ بحسب الوقائع ـ وَهْم. ما من حريّة أقوى من السلطة إلاّ حريّة الانتحار. هناك سلطة ضعيفة أو خائفة، وهذه تتخيَّل الأعداء والأخطار أينما كان. ليس هناك صحافة أكثر حريّة من الصحافة الغربيّة، وما من ممنوع عليها، ولم تستطع أن تُسقط إلاّ الحكومة الساقطة أو الرئيس الذي تألّبت عليه جميع القوى القاهرة وكانت الصحافة إحدى أدواتها.
الأكثر الثاني: تُرْحَم أكثر ممّا تستحقّ... حين تُعفى من الشراكة في مسؤولية التعتيم على حقيقة، أو مسؤولية الضلوع في فساد، أو الترويج المأجور والضار بمصلحة المجتمع وأهله، أو تضليل الرأي العام. بكلمة: تُعفى، مثلاً، صحف لبنانيّة من مسؤولية تعميق الخلاف بين طرفي النزاع عام 1975 وما بعده. من مسؤولية تأجيج النعرات الطائفية. من مسؤولية التبعيّة لأجهزة خارجيّة. وكون الصحافة اللبنانيّة تتمتّع، دستوريّاً وقانونيّاً وتقليديّاً، بهامش من ليبرالية التعبير، ليس مبرّراً لسوء الائتمان. الواقع أن علاقة الصحافة برأس المال علاقة قديمة شرقاً وغرباً، وفي لبنان ترقى إلى ما قبل المال النفطي بكثير. في عهد الانتداب أفسد الفرنسيّون مَن أفسدوا من أهل الصحافة والسياسة بالمال السخيّ. والإنكليز لم يتوانوا. وحتى الألمان، على ما يروي إسكندر الرياشي، حاولوا أن ينافسوا. وبدون الطعن على الأجداد والروّاد يمكن القول إن بعض أبرز القوم في الصحافة والأدب في القرن التاسع عشر كانوا حسّاسين جدّاً للإكرام والإحاطة، وليست قصائد مديحهم وحدها بشاهد بل سيرة حياتهم في لبنان والمَهَاجر العربيّة والتركيّة والأوروبيّة والأميركيّة. العلاقة وطيدة وترجع إلى جذور الشعر العربي. لم يكن كثير من قصائد الهجاء والمديح والرثاء إلاّ مقالات مدفوعة موزونة ومقفّاة. الشعر ديوان العرب أي صحافتهم. العراقة إذاً في العلاقة بالمال مثبتة بالبرهان وموثّقة تاريخيّاً ومُلَقَّنة في المدارس.
لهذا لا ننتقد في المطلق بل نسبيّاً.
يكتب أحدهم مذكراته فيقول ببراءة تامّة إن فلاناً صاحب الجريدة الفلانيّة كانت له، إلى جانب المداخيل المنظورة من المبيع والإعلان والاشتراك، «مداخيله الخاصة». وهذا ينطبق على العديد من أصحاب الصحف، الذين يغرفون أحياناً من «مداخيلهم الخاصة» لتغطية عجز المداخيل المشروعة... المتأتّي أحياناً من سطوهم على المداخيل، مشروعة وغير مشروعة. ولكن ماذا تعني عبارة «المداخيل الخاصة»؟ ليست أرباحاً عقاريّة ولا مضاربات في البورصة ولا مردود أسهم في المصارف والشركات. الأكثريّة من أرباب الصحف بدأوا فقراء، وظلّوا فقراء طوال فترة «كفاحهم». المراحل المثاليّة التي تتكوَّن فيها صورة الصحافي هي مراحل الفقر. عندئذٍ يكون «مناضلاً» وبطلاً شعبيّاً يرفع لواء القضايا المحقّة ويقتحم حصون الظلم والفساد، فليس له ما يخسره، وأمامه ما يَرْبحه. يبدأ مثاليّاً وعقائديّاً ثم تلتفّ عليه قوى الإغراء، أو هو يلتفّ عليها وتستدرجه أو يستدرجها. وحين يبدأ في قطف ثمار الجهاد نادراً ما يبقى على العهد. شأنه شأن الجميع. الجاه والفخفخة. مَن لا يسكر لا بد أن يكون واحداً من اثنين: فاشل أو قدّيس. الصحافة ابنة عمّ السلطة، ضميرها مطّاط. العلاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين التأليف والنقد. الأصل والظلّ. الجالس سعيداً، والطامع بـ أو اليائس من الجلوس. «المداخيل الخاصة» تبدأ بعد الجوع. المفارقة أن الصحافيين يطالبون (خصوصاً في حالات التوتر من بخل الميسورين أو في ساعات الحَسَد) بتطبيق قانون «من أين لك هذا؟». لو طُبِّقَ هذا القانون لوقف كثير من الصحافيين أمام القضاء.
لا أحد يسائل الصحافي أكثر من القارئ. وكما تكتبون تقرأون وكما تقرأون يُكْتَب لكم. «المواطن» في بلداننا معجب بالشطارة. قلَّة الأخلاق ليست خطيئة في نظره، خصوصاً إذا صاحَبَتها الألمعيّة. أو على الأقل ليست خطيئة في السياسة ومرآتها الصحافة. تستطيع أن تستميل القارئ إذا كنتَ كاتباً موهوباً ولو غَسَلْتَ دماغه بالأكاذيب. تأخذه الألمعيّة حيث تريد. ليس في البلدان العربيّة تقاليد السلطة الفكريّة والثقافيّة الأسمى من الشبهات والكاسرة في وجه السلطات والقمع. عندنا شهداء رأي وليس عندنا مؤسسة حريّة. عندنا أدباء ومفكّرون وصحافيون أوادم وجريئون وليس عندنا مؤسسة متراكمة تراثيّة صلبة مجذّرة من الطهارة والبطولة الأدبيّة. عندنا حالات فرديّة، وحالات خارقة، لا تراكم تراثي عمادُه الثابت هو الحقيقة. عشائر وميليشيات. كيف تكون صحافتنا إلاّ انعكاساً لمجتمعنا، وأحياناً أسوأ عندما تجتاح سياجها بالكامل؟
هناك صحافيون وليس هناك «الصحافي». وعندما يقول ألبير كامو إن الصحافة ضمير الأمّة يقصد نفسه حين زاولها فترة في جريدة «كومبا». أو إميل زولا في الدفاع عن دريفوس. الأمثلة ليست ساحقة بل هي نوادر. حملات الصحافة معظم الأحيان مغرضة إن لم تكن مأجورة. يوم كانت لا تزال مهنة يدوية وتعجّ بالأقلام القويّة كان غرض أصحابها (وبعض محرّريها) السلطة (والمال دائماً). يوم تَصَنَّعت ثم دخلت في الكومبيوتر بات غرض أصحابها المال (والسلطة). والمحرّرون إمّا مغلوبون على أمرهم وإمّا على دين أربابهم، يغرفون حيث يجدون ويرتبطون بهذا الجهاز أو تلك الشخصية تحت شعار التزوّد بالأخبار. والأخبار جسمها لبِّيس. لبّيس وآخر مَن يعلم هو القارئ. وينطبق هذا على التلفزيون «أكرم» ممّا ينطبق على الجرائد. فالسياسيون والوجهاء يفضّلون الظهور على الشاشة، كالراقصات.
الصحف في العالم العربي تناصر السلطة ضد سجناء الرأي. لا مشاكل مأسوية إلاّ إسرائيل. ما شاء الله. الباقي يرفل بالسعادة والازدهار، والحريّة ترقص رقصاً في الشوارع. كيف للصحافي العربي أن يكشف ظلماً أو فساداً أو فضيحة أو جريمة سياسيّة في الأقطار العربيّة وهو ممسوك من رقبته؟ أعجب ما يكون هو مجرّد صدور الصحف العربيّة، وخاصة صحف الخليج. لقد أصبحت أكبر قضايا الصحافة تسلية القرّاء بالأحاجي وجوائز السيّارات ومقالات العته واستئصال الزائدة العقليّة. أمّا صفحات الإسلام والتراثيّات فمن باب إثبات حسن نيّة الناشر وبرهانه على أن هذا هو «الفكر الحرّ» المسموح به في جريدته. «الفكر الحرّ» و«التاريخ الحرّ» و«الإيمان الحرّ».
تقتضينا أصول الزمالة أن نلزم الصمت. لكنها زمالة كوميديّة. صحافة الأنظمة البوليسية «التقدميّة» مثل النشرات الرعوية وصحافة النفط تؤدي رسالتها على أفضل ما يُرام: تبديد تمويلها الضخم على تبخير الملوك والمشايخ، واستنهاض ثقافة التعمية باستعمال الآرمات الخادعة. قليل من التساهل والأسماء اللامعة لتسويغ التخلّف والرياء.
لقد أفسد المال النفطي كلّ شيء. وعوض أن يحرّر الشعوب العربيّة والإسلاميّة الفقيرة من العوز والأميّة ركّزها في تخلّفها وذهب قسمه الأكبر متدفقاً إلى الذمم يشتريها والأقلام يُسخّرها والكبار يراودهم عن غرائزهم ويحني هاماتهم إذلالاً وتسوّلاً إلى أعماق الوحل.
وصارت الصحافة اللبنانيّة تنتظر جرعاتها المنعشة إمّا من الخليج مباشرة وإمّا بواسطة رجاله اللبنانيين. وبين الجرعة والجرعة تُزايد في التودّد (أو في الابتزاز). وحين يكتب أحدهم في جريدة عن السعودية أو الكويت أو قطر أو الإمارات تحسبه يتغزّل بالرقيّ في إسكندينافيا أو بأحدث آفاق الهندسة المعمارية في نيويورك. لقد انهارت آخر سدود الأخلاق وانتهى البغاء الجنسي لا حين تحرّرت جميع الفتيات بل حين لم يعد البغاء السياسي والإعلامي يترك زيادة لمستزيد. كانت الصحيفة معبداً وأضحت مَتْجَراً. كان الإعلان يشوّه حيطان المعبد وكنّا مع هذا نحتمله، فمورده، كما كانوا يقولون، حلال. لم تعد المسألة إعلاناً واشتراكاً بل مزايدة في وقاحة الارتماء تحت أقدام الأثرياء. لبنان كلّه، خلال سنين، كان يبدو في شعنينة دائمة حاملاً الشموع وفوقها صور المحسنين وليد ابن طلال ورفيق ثم سعد الحريري وعصام فارس. وأنسى الثانويين. وهذه مدرسة يملكها المحسن فلان وتلك الشيخة فلانة. والآن كل يوم صور السيّدة ليلى الصلح حمادة تكحّل العيون بالنيابة عن السيّد وليد المشغول باستقبال قناصل أفريقيا والقائمين بأعمال شبه القارة الهندية والقرن الأفريقي. كرنفال مريع من الزحف على البطون في بلاطات المحسنين. وكل هذه التبرّعات منذ سنين والشعب مُعْدَم والبلاد مفلسة. والمشكلة الوحيدة هي إسرائيل!
أين الصحافة من كل هذا؟ الصحافة تطبّل للنفاق والزعبرة وتمشي في طليعة المزوّرين. أكبر تزوير هو الرخصة. لماذا لا تلغي النقابتان الخالدتان رخصة الإصدار؟ لماذا الرخصة بمليون، بمليوني دولار؟ من أين للصحافي ـ للصحافي الصافي غير المأجور ـ مثل هذا المبلغ فقط قبل أن يبدأ الإصدار؟ أليست هذه تحريضاً إجبارياً على رهن الذات؟ هل يستطيع جبران أو نعيمة أو الشدياق أو البستاني أو اليازجي أو تقلا أو زيدان، إنْ هم عادوا أحياء، أن يصدروا جرائد في لبنان؟ كان أبو شبكة يملأ صحف لبنان ومصر مقالات، هل يستطيع إذا بُعث الآن أن يقتني جريدته؟ أوشك ميشال عون عهد حكومته العسكرية أن يلغي هذا العار، لماذا لم يُلْغِه؟ ما هذه القوّة «الديموقراطية» التي تحمي الامتياز وتجبر الأقلام على التوظّف عند أرباب المال المتستّرين بالصحافة؟
لا فسحة كافية للمتابعة. والمؤلم أننا مضطرون إلى رحمة الصحافة حتّى لا يرتدّ هجاؤها مديحاً للسلطة. سلطة سياسيّة وماليّة، محليّة وخارجيّة، تستولد الفساد من الهواء. وأيّ سبيل للإصلاح ـ بل لمجرّد وقف زلزال الفساد ـ ما دام المجتمع كلّه صالحاً للعدوى؟
يتطلّع الساذج إلى يوم يتوق فيه المجتمع أن يصير نظيفاً. وتتوق فيه الصحافة إلى الانتفاض على نفسها. إلى يوم لا يعود فيه الكلام الإعلامي موَجَّهاً إلى «زبون» بل إلى هيئة معنويّة لنسمّها، اصطلاحاً، الضمير. التوجّه إلى زبائن يتضمّن الاسترضاء والتملّق، فضلاً عن الفتنة والإغراء، ناهيك بالتجنّب والخوف. يتطلّع الساذج إلى يوم تَجْمع فيه الصحافة، إذا بقيتْ، بين استقامة الحقّ وجاذبيّة الإغراء الكتابي. أمّا الفتنة، فإمّا بشعة وإمّا دمويّة في غير إطارها الجنسي.
" الأخبار"