-
دخول

عرض كامل الموضوع : رصد تغطية الغارة على البوكمال ... سورية في الإعلام: ادعاءات أميركية... حقائق بريطانية


sona78
23/11/2008, 13:44
شريف حكمت النشاشيبي

الحرب الدعائية في صلب أي صراع، إذ يجهد كل من الطرفين المتنازعين لإقناع الرأي العام بأن العدالة إلى جانبه. ولا شك في أن الإعلام هو أكثر السبل تأثيراً في هذا المجال.
في مثل هذه الأحوال، عندما تتكثف الادعاءات والادعاءات المضادة، يصبح من الضروري أكثر من أي وقت آخر أن ينظر الصحافيون الى المعلومات التي يحصلون عليها بعين الناقد الحذر حتى لا ينتهي الأمر بهم إلى أن يتحولوا مجرد أدوات في الحرب الدعائية المستعرة. كما يصبح لزاماً عليهم أن يبتعدوا عن خلط الأمور، وأن يتلافوا نقل الادعاءات على أنها حقائق واقعة.
وفي هذا المجال، برزت إخفاقات جوهرية عدة في مجمل القنوات الإعلامية السائدة في بريطانية لدى تغطيتها الغارة الأميركية الأخيرة على سورية. مثلاً، جاء الادعاء بأن الغارة الأميركية المذكورة أدت الى مقتل «أبو غادية» كحقيقة واقعة في تقرير كل من ريتشارد هوايت من صحيفة «ذي صن» وباتريك كوكبورن مراسل صحيفة «ذي اندبندنت» في العراق.
تحت عنوان «الولايات المحتدة تقتل رئيساً»، وصف هوايت «أبو غادية» بأنه «مهرب رئيسي للمقاتلين الأجانب في العراق سهّل تسلل الجنود الى البلد وأدخل الأسلحة والأموال»، وبأنه «خدم سابقاً برتبة ملازم لقائد المتمردين أبي مصعب الزرقاوي». أما كوكبورن فوصفه بأنه «قائد في تنظيم القاعدة أرسل مقاتلين الى داخل العراق».
وعلى المنوال نفسه، نقلت المراسلة الديبلوماسية لصحيفة «ذي تايمز» كاثرين فيلب الادعاء بأن الجنود الأميركيين دخلوا سورية وخاضوا معركة قصيرة تبادلوا خلالها إطلاق الرصاص مع «أبو غادية» وأعضاء في خليته.
وتبدو هذه الأخبار وكأنها تبرر هذه الغارة في ذهن القارئ، إذ يصبح الهدف منها جديراً بانتقاص سيادة بلد ما على نسق أن «الغاية تبرر الوسيلة». ولكن مقتل «أبي غادية» والمعركة ضده يبقيان في نطاق الادعاءات الأميركية التي لم تعضدها الأدلة. وعلى رغم ذلك، لم يشر أي من الكتاب الوارد ذكرهم إلى أن مصادر هذه الأخبار كانت أميركية.
إضافة الى ذلك، لم تر كل من جريدتي «ذي صن» أو «ذي اندبندنت» أن من المناسب نشر الرسائل المحددة الواضحة والمهذبة التي أرسلتها إلى كلتيهما لافتاً الانتباه الى النقاط التي جاء ذكرها.
أما المحرر الديبلوماسي لصحيفة «ذي ديلي تيليغراف» ديفيد بلير فبادر مشكوراً وبكل لياقة الى الاستجابة رأساً لرسالتي الالكترونية التي سألته فيها عن نقل خبر وفاة «أبي غادية» كحقيقة مسلم بها قائلاً: «أشكرك جزيل الشكر على رسالتك الالكترونية مؤكداً لك أن النقطة التي أثرتها لا شك في محلها، وقد قمت بتصحيح النسخة المنشورة من مقالي على الشبكة الإلكترونية بما يتفق مع ذلك. وقد تكون لاحظت أن النسخة المطبوعة مختلفة كلية إذ لم تتضمن الادعاء الذي أشرت اليه. وما حدث في الحقيقة هو أن النسخة المنشورة على الشبكة جرى تحديثها من شخص أجهل هويته، فأدخل الفقرة المذكورة في وقت متأخر من الليل. وبناء عليه، جرى تصحيح ذلك شاكراً لك لفت انتباهي اليها».
وتضمنت تقارير الغارة الأميركية تذكيراً بالغارة الاسرائيلية العام الماضي، عندما قصفت اسرائيل موقعاً سورياً بالقنابل وادعت بأنه كان منشأة نووية (الأمر الذي نفته سورية بشدة). ومع ذلك، وعلى رغم أن ادعاء اسرائيل لم يعضده أي دليل حتى تاريخه، فقد ساقه البعض في تقاريره على أنه حقيقة مسلم بها.
أود أن أكرر ثانية أن مثل هذه الأمور توحي للقارئ بأن ينظر الى القصف الإسرائيلي على أنه ضرورة لا بد منها لوقف تطوير المفاعلات النووية في منطقة شديدة التوتر وسريعة الاشتعال.
وتشمل الملامة في هذا المجال كاتباً في صحيفة «الديلي ميل» لم ينشر اسمه بل نشر مقاله تحت عنوان «النفاثات الإسرائيلية تقصف موقعاً سورياً نووياً بالقنابل». كما جاء في افتتاحية صحيفة «ذي غارديان» أن «طائرات مقاتلة تقصف مفاعلاً نووياً قيد الإنشاء في الصحراء». ولكن سايمون تيسدول المحلل السياسي للصحيفة أخذ هذا الأمر في الحسبان، ووصف الهدف على أساس «الزعم بأنه منشأة نووية»، ولو أنه حتى في هذه الحالة أيضاً غيّب ذكر «الإنكار السوري» كلية عن المقال.
ولكن، على الأقل، نشرت صحيفة «ذي غارديان» رسالتي عن الموضوع، فيما لم تنشرها صحيفة «ذي مايل» بل إن الأسوأ من ذلك هو ما جاء في مقال هذه التابلويد ونصه: «يعتقد بأن سورية ستستمر في برنامجها النووي مقتفية خطى إيران التي تحرص على تعدد مواقع تطوير هذا البرنامج في أماكن مختلفة ليتعذر تدميرها بضربة واحدة».
ولم يتطرق المقال الى الجهة التي تتبنى هذا الاعتقاد، على رغم أهمية ذلك إذ أنه إضافة الى عدم وجود أي أدلة تعززه، فإنني لا أذكر قطعاً أنني رأيت مثل هذا الادعاء طوال السنوات الثمانية الماضية التي راقبت خلالها عن كثب التغطية الإعلامية البريطانية للعالم العربي بأكمله بما فيه سورية. وقطعاً لم يأت ذكر هذا الادعاء سواء كان ذلك في التغطية الصحافية البريطانية للغارة الأميركية أو للقصف الإسرائيلي. كما برز ادعاء آخر نُقل كحقيقة مسلم بها وهو أن الحدود السورية هي «الطريق التي يمر منها 90 في المئة من الجهاديين الأجانب الى العراق». وأوردته هذه المرة المراسلة الديبلوماسية لـ»ذي تايمز» كاثرين فيلب.
وحين سألتها عن مصدر هذا الرقم الإحصائي، استشهدت بتقرير صدر عن «مركز مكافحة الإرهاب» (سي تي سي) الذي يحلل وثائق استولت عليها القوات الأميركية مما أطلق عليه اسم «خلية سنجار» التابعة لتنظيم «القاعدة» في العراق. غير أن هذه الوثيقة تضمنت الإيضاحات الآتية:
إن «مركز مكافحة الإرهاب «لا يمكنه أن يجزم بصدقية ودقة هذه السجلات عداً عن أنه يؤكد أن حكومة الولايات المتحدة رخصت نشرها وهو السبب وراء تقديمها برمتها كما هي. إن مركز مكافحة الإرهاب لا ينقح أو يصنف المعلومات.
ويجب على القراء أن يكونوا على بينة من أن تحليل البيانات التي يجرى الاستيلاء عليها على أرض المعركة محفوف بالمخاطر. ان بعض هذه السجلات الشخصية لم يملأ في شكل كامل أو منتظم وقد يكون موظفو تنظيم «القاعدة» أضاعوا بعضاً منها وبعضها الآخر قد يكون ضاع سهواً أو أتلفته القوات الأميركية. إن سجلات سنجار شهادة مذهلة عن المقاتلين الذين استوردتهم «القاعدة» الى العراق، ولكنها تبقى في صلبها سجلات منقوصة. وعلى القراء والباحثين توخي الحذر في الاستنتاجات التي تستخلص حصراً من هذه السجلات وتبنى على أساسها».
إضافة الى ذلك، بادرت فيلب بنفسها بإلحاق النبذة التالية من الوثيقة نفسها في نهاية رسالتها الاكترونية:
«الطريق الى العراق: لم تأت غالبية المقاتلين المدونين في سجلات سنجار على شرح الطريق التي سلكوها لدخولهم الى العراق».
وأبلغتني فيلب أنها لم تر ضرورة لذكر مصدر معلوماتها لأن الرقم الذي ساقته متداول ومقبول في شكل عام، علماً أن القنوات الرئيسة الأخرى التي ساقت هذا الرقم لدى نشره (وهي «نيويورك تايمز» و»اندبندنت») حرصت على ذكر مصدره. وجاء ذلك في «نيويورك تايمز» على النحو الآتي:
قال رسميون عسكريون إنه «يعتقد بأن الخلية المتمردة التي شنت القوات الأميركية غارة عليها قد قامت بتهريب نحو 90 في المئة من مجموع المقاتلين الأجانب في العراق». (ريتشارد أوبل 22/11/2007)
وجاء في «ذي اندبندنت» على النحو التالي: «قال الأميركيون إن الخلية في سنجار مسؤولة عن تهريب ما يقارب الـ90 في المئة من المقاتلين الأجانب الى العراق». (كيم سينجوبتا 23/11/2007 )
وفي نهاية المطاف قالت لي السيدة فيلب «إن وثائق القاعدة تدل على أن 603 من المقاتلين جاؤوا من طريق سورية، وهو عدد يمثل 90 في المئة من مجموع المقاتلين الأجانب في العراق بحسب التقديرات. وعلى رغم ذلك، وإضافة الى الإيضاحات التي جاء ذكرها، فإن هذه النسبة، كما أفصحت لي السيدة فيلب نفسها، تعتمد على تقديرات القوات الأميركية.
لا شك في أن هناك مقاتلين أجانب في العراق، وقد يكون قسم منهم دخل عن طريق سورية (من دون أن يعني هذا أن سورية سهلت لهم الدخول الى العراق)، ولكن هذا الرقم الإحصائي ليس حقيقة جازمة، وهو رقم غير موثوق به. كما أنه صدر عن أحد الفرقاء الأساسيين في الصراع الدائر وعليه كان على السيدة فيلب أن تصرح عن مصدر معلوماتها أســوة بالصحافيين الذين نشروا الرقم المذكور. واستنكفت السيدة عن الرد على كل النقاط التي ضمّنتها رسالتي الإلكترونية.
أبرز هذا المقال قصوراً مهماً في تغطية حدث بارز استقطب اهتماماً إعلامياً مكثفاً. وبما أن هذا الحدث - للأسف الشديد - لن يكون آخر الصواعق في الشرق الأوسط، فلا يبقى للمرء إلا أن يأمل بالاستفادة من الدروس التي أملاها هذا الحدث.
أما إذا خاب هذا الأمل - وأكاد أجزم أنه سيخيب - فسيبقى الأمر في عهدة مستهلكي الإعلام من القراء والمتفرجين والمستمعين لوضع الصحافيين أمام مسؤولياتهم بحيث تجرى مساءلتهم عمّا يكتبون بأدب وحرص على توخي الحقائق. وليس من وسيلة أقوى من إسماع أصواتكم لتصحيح الأخطاء أو لتيسير الإلمام بكل جوانب المواضيع التي يعالجها الصحافيون من طريق مدعّم بالمعلومات الدقيقة الموثقة.
ولنذكر دائماً أن الصحافيين هم أيضاً بشر وليس محتماً أن يكون لديهم أجندة خاصة، وهم غالباً ما يعترفون بالخطأ ويبادرون الى إصلاحه بكل سعة صدر ودماثة إذا جرى تبني الأسلوب المناسب للتواصل معهم.
* رئيس مجلس إدارة «الراصد الاعلامي العربي». والراصد مؤسسة أُنشئت عام 2000 لمراقبة الإعلام وتهدف الى تغطية عادلة للقضايا العربية في الإعلام البريطاني.
" الحياة"
منقول من موقع الحقيقة سورية