yass
14/11/2008, 02:18
تأثرا بموجة النوستالجيا الفراتية التي عصفت بي منذ فترة, كنت أقلّب صفحات الانترنت بحثا عن مقاطع مكتوبة أو مسموعة لصنف الموليّا الشعري الغنائي, و دام البحث العقيم ما يقارب النصف ساعة, حتى وصلت, باستخدام محرك البحث, إلى أرشيف جريدة الفرات حيث وجدت خبرا قديما, يكاد يقارب العامين من العمر, حول أمسية لفرقة الرقة للفنون الشعبية في دار الأسد للثقافة.
الخبر لم ينفعني في بحثي أبدا, حيث أنه كان عبارة عن سطر و نصف يكاد يكون اسم الصحفي و المكتب الفرعي التابع له, المدرج أسفل الخبر, أطول من الخبر بحد ذاته. لكن هذا الموقع لفت نظري, فجريدة الفرات أعلم بوجودها كفرع لمؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر (حكومية) في مدينة دير الزور لكنني لم أكن أعلم بوجود موقع لها على الانترنت أو أنها تدرج أخبار الرقة, حتى و إن كانت أخبار مدينتي في هذه الجريدة (التي يفترض أنها محلية) و كأنها أخبار ألاسكا أو سيبيريا, لقلّتها و قلة الاهتمام بها.
قلّبت صفحات الأرشيف بحثا عن أخبار أخرى للرقة, فعندما يكون المرء بعيدا عن مدينته يكون كل ما يتعلق بها محط اهتمام, حتى لو كان إعلان استجرار مناقصة بالظرف المختوم لمديرية الخدمات الفنية, و وجدت خبرا جعلني أستشيط غضبا, بل وقهرا حتى, و أنساني تماما ما كنت أبحث عنه. و أعاد إلى ذهني مواقف سابقة حصلت, خاصة بقضية اهتم فيها اهتماما شديدا, قد يكون بسبب الموقف الذي حصل لي في طفولتي, و الذي سأرويه بعد قليل.
الخبر كان عن زيارة السيد محافظ الرقة و الرفيق أمين فرع الحزب إلى أحد مدارس المدينة الابتدائية لافتتاح ملحق صفي لزيادة استيعاب المدرسة من الطلاب, و على اعتبار أن الزيارة كانت متزامنة مع الاحتفال بإحدى المناسبات العتيدة (لا أذكر إن كانت ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة, أم سبعة نيسان يا رفاق.. ميلاد الحزب العملاق) فقد حضر السيدان الزائران احتفالا نظّمه طلاب المدرسة بهذه المناسبة القومية, و في نهاية الخبر كانت الجملة التي استفزتني, و القائلة:" و في نهاية الاحتفال قام السيد المحافظ و الرفيق أمين الفرع بتوزيع هدايا و مستلزمات دراسية و رياضية على بعض طلاب المدرسة من الفقراء و المحتاجين".
اعترف بصدور شتائم من فمي كنت أجهل معرفتي بوجودها.
تخيّلت موقف الطفل و هو يتلقى "الإحسان" أمام جميع زملائه, و بل و تخيّلت معلم الصف يلقّنه عبارات الشكر و العرفان التي يجب أن يتلوها على مسمع "المحسنين" على هذه الهبات و المكرمات الفظيعة, و التي أكاد أجزم أنها لم تكلّف أكثر من كلفة وقود الذي حرقته سيارات الموكب الذي أقلّ المحافظ من قصره المخملي إلى المدرسة. و شعرت للحظات بشعور الطفل و هو يتلقى نظرات زملائه بأحسن الأحوال, و أشياء أخرى أيضا, فلا يوجد أقسى من الأطفال على بعضهم البعض.
قد يلومني البعض على "فرط الحساسية" و يرى في الأمر شيئا ايجابيا, كما حصل معي عندما رويت الحادثة لصديق لي و استغرب غضبي العارم بل و عاتبني بشدة عليه. لكنني عاجز على أن أرى في هذا الشيء إحسانا, بل أراه إذلالا, و تحطيما للطفل بتعريضه للنظرات بهذا الشكل, و كان رد صديقي أن الطفل يتألم من البرد و الجوع, و ليس من النظرات, الأمر الذي عارضته بشدة, فموقف كهذا قد يسبب جرحا نفسيا لا يندمل في وجدان طفل مهما كان ذخر معاناته, فإنه ما زال حساسا جدا و معرض للإصابة بسهولة.
عدا عن أنني لست ضد مساعدة الطلاب المحتاجين بطبيعة الحال, بل أنني أراه واجبا مقدسا لحكومة لا تستطيع أن تتذرّع بقلة الموارد كي لا تقوم بهذا العمل النبيل عندما نرى ما تنفقه على الزينة و اللافتات في كل مناسبة من المناسبات. لكنني ضد الإذلال. و هذا إذلال و لا أستطيع أن أجد له اسم آخر.
غضبي من الخبر الذي قرأته, يعود إلى شيء مشابه عايشته في طفولتي, و ترك في نفسي أثر كبيرا, و جعلني اهتم جدا بقضية "أدب الإحسان".
كنا في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي, لا أذكر بالضبط, عندما فتح مدير المدرسة باب الصف مقاطعا الحصة, و هو يحمل كيسا أسود اللون, و بدون مقدمات بدأ سردا طويلا عريضا عن الفقر و أنه ليس عيبا و ليس أمرا يجب الخجل منه, إلى آخر هذه الديباجة, ثم أنهى خطبته العصماء بتلاوة اسم تلميذة, سأسميها هنا "سمر", و أعطاها الكيس و هو يقول لها أنها بيجاما رياضية مساعدة من منظمة طلائع البعث, و خرج من الصف.
عادت سمر إلى مقعدها, و بدأت بالبكاء بالتزامن مع ارتفاع أصوات الضحك التي انطلقت لحظة إغلاق الباب وراء المدير, و عبثا حاولت المعلمة إسكات التلاميذ, فقررت إنهاء الحصة و أمرتنا بالخروج إلى الباحة. و بقيت في الصف مع سمر, تواسيها و تجفف لها دموعها, و أجلستها على كرسيها و خلف طاولتها بقية الدوام (الأمر الذي كان شرفا رفيعا بالنسبة لتلاميذ صفي, فقد كان طريقة المكافأة لدى معلمتنا) و رافقتها إلى البيت بعد نهاية الدوام.
لا أستطيع أن أتذكر أيام المدرسة دون أن أتذكر معلمتي بحنين, فقد كانت, و ما زالت, إنسانة عظيمة, معلمة و أم رائعة جدا, و لها فضل كبير على أجيال, و لن أنسى فضلها علي مهما حييت... إلى اليوم لا أكلّم أحدا من معارفي في الرقة إلا و حاولت إيصالها تحياتي.
الموقف آلمني بشدة لحظتها, لأنني كنت أعرف سمر جيدا, فهي رفيقة لعب في الحارة, فهي جارتي, أبوها سكير مدمن على القمار, و ينفق على هاتين الآفتين جل ما يكسبه من عمله في السمكرة و التمديدات الصحية, و أمها إنسانة مكافحة و ذات خلق رائع, تعمل على مساعدة بعض ربات المنزل في الحارة في أعمالهن المنزلية و في غسيل السجاد و تحضير المؤن, و غالبا ما كان يُطلب منها المساعدة ليس للحاجة لها, بل لإعطائها مبلغا ماديا كانت ترفضه أغلب الأحيان بشكل شرس لتقبله في النهاية تحت وطأة الحاجة المدقعة.
عدا عن ذلك, فالأم تمت بصلة قربى بعيدة لأبي, و هذه القربى البعيدة كانت مبررا لكي يهتم أبي بأمر العائلة جدا, إن كان بالمساعدة التي توافق الأم على قبولها, أو حتى بإيقاف الزوج عند حده عندما كان يعود إلى المنزل مخمورا, و يصب جام غضبه لخيبته و فشله على الزوجة المسكينة و الأولاد, بالذات أعتقد أن المرة الوحيدة التي رأيت أبي يستخدم العنف فيها كانت ضد هذا الزوج السافل.
سمر كانت تلميذة مجتهدة جدا, و ذكية بشكل ملفت للنظر, و هي كبرى أخوتها الأربعة.
بعد يومين من هذه الحادثة, حضرت أم سمر إلى بيتنا تريد الحديث مع أبي, و طلبت منه أن يتوسّط لدى مديرة مدرسة أخرى (هي للصدفة نفس مدرسة الخبر الذي أثار غضبي) كي تنقل سمر إليها, فبعد موقف البيجاما ترفض سمر بشكل قاطع الذهاب إلى المدرسة و تريد أن تتركها و تجلس في البيت. حاول أبي إقناع سمر و تشجيعها لكنه عجز عن ذلك, ففعل ما طلبت منه والدتها, و انتقلت سمر إلى المدرسة الأخرى.
اليوم سمر معلّمة صف بعد إكمال دراستها بفضل كفاح أمها, و حالفهم الحظ بوفاة الوالد منذ سنوات (مؤسف جدا أن أعتبر وفاة شخص حظا جيدا) و دخولها معهد إعداد المدرسين و تخصصها باللغة الإنكليزية, و تكسب من عملها في مدرسة على أطراف المدينة و من بعض الدروس الخصوصية لأبناء الحارة ما يكفيها لإعالة نفسها و أمها, فإخوتها, و جميعهم ذكور, لم يكملوا دراستهم لكنهم تعلموا لحسن الحظ الكفاح و العمل من أمهم, و افتتحوا ورشة نجارة صغيرة تكفيهم لإعالة نفسهم.
أعتقد أن الأم عرفت لأول مرة معنى الحياة بفضل ابنتها, و أثّر في نفسي بشدة رؤيتها سعيدة لأول مرة عندما جاءت لزيارتي عندما زرت الرقة العام الماضي.
ليس الفقر عيبا, لا شك في ذلك, بل أن النجاح قد يكون مشرفا للفقير أكثر بكثير من نجاح الغني لأنه تحدّى صعابا مضاعفة و اجتاز عوائق أكبر. و الإحسان للفقير هو فعل نبيل و إنساني, و هو واجب اجتماعي على كل من استطاعه. لكن الإحسان ليس فقط بشقّه المادي, بل أنه يحمل شقا أخلاقيا يتضمن ضرورة المحافظة على كرامة المحسن إليه و منع جرحه و الابتعاد عن الإساءة إليه.
و الإحسان الكامل يجب أن يكون سريا, فهكذا يقول المنطق, و ليس أسلوبا دعائيا, فاستخدام الإحسان كطريقة للتظاهر و الرياء و التشاوف هو من أحقر الأفعال التي يمكن أن أتخيّلها. و في هذا المجال استشهد دائما بحديث نبوي, رغم علمانيتي , و هو ذلك القائل بأن أحد الرجال السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل تصدّق بصدقة فأخفاها, حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" و منه اقتبست عنوان هذه المقالة.
فبئس من رأى الإحسان إلى فقير وسيلة إشهار, فهذا الشخص هو الفقير... بأخلاقه, مهما كان ثرائه المادي فاحشا.
Yass
الخبر لم ينفعني في بحثي أبدا, حيث أنه كان عبارة عن سطر و نصف يكاد يكون اسم الصحفي و المكتب الفرعي التابع له, المدرج أسفل الخبر, أطول من الخبر بحد ذاته. لكن هذا الموقع لفت نظري, فجريدة الفرات أعلم بوجودها كفرع لمؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر (حكومية) في مدينة دير الزور لكنني لم أكن أعلم بوجود موقع لها على الانترنت أو أنها تدرج أخبار الرقة, حتى و إن كانت أخبار مدينتي في هذه الجريدة (التي يفترض أنها محلية) و كأنها أخبار ألاسكا أو سيبيريا, لقلّتها و قلة الاهتمام بها.
قلّبت صفحات الأرشيف بحثا عن أخبار أخرى للرقة, فعندما يكون المرء بعيدا عن مدينته يكون كل ما يتعلق بها محط اهتمام, حتى لو كان إعلان استجرار مناقصة بالظرف المختوم لمديرية الخدمات الفنية, و وجدت خبرا جعلني أستشيط غضبا, بل وقهرا حتى, و أنساني تماما ما كنت أبحث عنه. و أعاد إلى ذهني مواقف سابقة حصلت, خاصة بقضية اهتم فيها اهتماما شديدا, قد يكون بسبب الموقف الذي حصل لي في طفولتي, و الذي سأرويه بعد قليل.
الخبر كان عن زيارة السيد محافظ الرقة و الرفيق أمين فرع الحزب إلى أحد مدارس المدينة الابتدائية لافتتاح ملحق صفي لزيادة استيعاب المدرسة من الطلاب, و على اعتبار أن الزيارة كانت متزامنة مع الاحتفال بإحدى المناسبات العتيدة (لا أذكر إن كانت ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة, أم سبعة نيسان يا رفاق.. ميلاد الحزب العملاق) فقد حضر السيدان الزائران احتفالا نظّمه طلاب المدرسة بهذه المناسبة القومية, و في نهاية الخبر كانت الجملة التي استفزتني, و القائلة:" و في نهاية الاحتفال قام السيد المحافظ و الرفيق أمين الفرع بتوزيع هدايا و مستلزمات دراسية و رياضية على بعض طلاب المدرسة من الفقراء و المحتاجين".
اعترف بصدور شتائم من فمي كنت أجهل معرفتي بوجودها.
تخيّلت موقف الطفل و هو يتلقى "الإحسان" أمام جميع زملائه, و بل و تخيّلت معلم الصف يلقّنه عبارات الشكر و العرفان التي يجب أن يتلوها على مسمع "المحسنين" على هذه الهبات و المكرمات الفظيعة, و التي أكاد أجزم أنها لم تكلّف أكثر من كلفة وقود الذي حرقته سيارات الموكب الذي أقلّ المحافظ من قصره المخملي إلى المدرسة. و شعرت للحظات بشعور الطفل و هو يتلقى نظرات زملائه بأحسن الأحوال, و أشياء أخرى أيضا, فلا يوجد أقسى من الأطفال على بعضهم البعض.
قد يلومني البعض على "فرط الحساسية" و يرى في الأمر شيئا ايجابيا, كما حصل معي عندما رويت الحادثة لصديق لي و استغرب غضبي العارم بل و عاتبني بشدة عليه. لكنني عاجز على أن أرى في هذا الشيء إحسانا, بل أراه إذلالا, و تحطيما للطفل بتعريضه للنظرات بهذا الشكل, و كان رد صديقي أن الطفل يتألم من البرد و الجوع, و ليس من النظرات, الأمر الذي عارضته بشدة, فموقف كهذا قد يسبب جرحا نفسيا لا يندمل في وجدان طفل مهما كان ذخر معاناته, فإنه ما زال حساسا جدا و معرض للإصابة بسهولة.
عدا عن أنني لست ضد مساعدة الطلاب المحتاجين بطبيعة الحال, بل أنني أراه واجبا مقدسا لحكومة لا تستطيع أن تتذرّع بقلة الموارد كي لا تقوم بهذا العمل النبيل عندما نرى ما تنفقه على الزينة و اللافتات في كل مناسبة من المناسبات. لكنني ضد الإذلال. و هذا إذلال و لا أستطيع أن أجد له اسم آخر.
غضبي من الخبر الذي قرأته, يعود إلى شيء مشابه عايشته في طفولتي, و ترك في نفسي أثر كبيرا, و جعلني اهتم جدا بقضية "أدب الإحسان".
كنا في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي, لا أذكر بالضبط, عندما فتح مدير المدرسة باب الصف مقاطعا الحصة, و هو يحمل كيسا أسود اللون, و بدون مقدمات بدأ سردا طويلا عريضا عن الفقر و أنه ليس عيبا و ليس أمرا يجب الخجل منه, إلى آخر هذه الديباجة, ثم أنهى خطبته العصماء بتلاوة اسم تلميذة, سأسميها هنا "سمر", و أعطاها الكيس و هو يقول لها أنها بيجاما رياضية مساعدة من منظمة طلائع البعث, و خرج من الصف.
عادت سمر إلى مقعدها, و بدأت بالبكاء بالتزامن مع ارتفاع أصوات الضحك التي انطلقت لحظة إغلاق الباب وراء المدير, و عبثا حاولت المعلمة إسكات التلاميذ, فقررت إنهاء الحصة و أمرتنا بالخروج إلى الباحة. و بقيت في الصف مع سمر, تواسيها و تجفف لها دموعها, و أجلستها على كرسيها و خلف طاولتها بقية الدوام (الأمر الذي كان شرفا رفيعا بالنسبة لتلاميذ صفي, فقد كان طريقة المكافأة لدى معلمتنا) و رافقتها إلى البيت بعد نهاية الدوام.
لا أستطيع أن أتذكر أيام المدرسة دون أن أتذكر معلمتي بحنين, فقد كانت, و ما زالت, إنسانة عظيمة, معلمة و أم رائعة جدا, و لها فضل كبير على أجيال, و لن أنسى فضلها علي مهما حييت... إلى اليوم لا أكلّم أحدا من معارفي في الرقة إلا و حاولت إيصالها تحياتي.
الموقف آلمني بشدة لحظتها, لأنني كنت أعرف سمر جيدا, فهي رفيقة لعب في الحارة, فهي جارتي, أبوها سكير مدمن على القمار, و ينفق على هاتين الآفتين جل ما يكسبه من عمله في السمكرة و التمديدات الصحية, و أمها إنسانة مكافحة و ذات خلق رائع, تعمل على مساعدة بعض ربات المنزل في الحارة في أعمالهن المنزلية و في غسيل السجاد و تحضير المؤن, و غالبا ما كان يُطلب منها المساعدة ليس للحاجة لها, بل لإعطائها مبلغا ماديا كانت ترفضه أغلب الأحيان بشكل شرس لتقبله في النهاية تحت وطأة الحاجة المدقعة.
عدا عن ذلك, فالأم تمت بصلة قربى بعيدة لأبي, و هذه القربى البعيدة كانت مبررا لكي يهتم أبي بأمر العائلة جدا, إن كان بالمساعدة التي توافق الأم على قبولها, أو حتى بإيقاف الزوج عند حده عندما كان يعود إلى المنزل مخمورا, و يصب جام غضبه لخيبته و فشله على الزوجة المسكينة و الأولاد, بالذات أعتقد أن المرة الوحيدة التي رأيت أبي يستخدم العنف فيها كانت ضد هذا الزوج السافل.
سمر كانت تلميذة مجتهدة جدا, و ذكية بشكل ملفت للنظر, و هي كبرى أخوتها الأربعة.
بعد يومين من هذه الحادثة, حضرت أم سمر إلى بيتنا تريد الحديث مع أبي, و طلبت منه أن يتوسّط لدى مديرة مدرسة أخرى (هي للصدفة نفس مدرسة الخبر الذي أثار غضبي) كي تنقل سمر إليها, فبعد موقف البيجاما ترفض سمر بشكل قاطع الذهاب إلى المدرسة و تريد أن تتركها و تجلس في البيت. حاول أبي إقناع سمر و تشجيعها لكنه عجز عن ذلك, ففعل ما طلبت منه والدتها, و انتقلت سمر إلى المدرسة الأخرى.
اليوم سمر معلّمة صف بعد إكمال دراستها بفضل كفاح أمها, و حالفهم الحظ بوفاة الوالد منذ سنوات (مؤسف جدا أن أعتبر وفاة شخص حظا جيدا) و دخولها معهد إعداد المدرسين و تخصصها باللغة الإنكليزية, و تكسب من عملها في مدرسة على أطراف المدينة و من بعض الدروس الخصوصية لأبناء الحارة ما يكفيها لإعالة نفسها و أمها, فإخوتها, و جميعهم ذكور, لم يكملوا دراستهم لكنهم تعلموا لحسن الحظ الكفاح و العمل من أمهم, و افتتحوا ورشة نجارة صغيرة تكفيهم لإعالة نفسهم.
أعتقد أن الأم عرفت لأول مرة معنى الحياة بفضل ابنتها, و أثّر في نفسي بشدة رؤيتها سعيدة لأول مرة عندما جاءت لزيارتي عندما زرت الرقة العام الماضي.
ليس الفقر عيبا, لا شك في ذلك, بل أن النجاح قد يكون مشرفا للفقير أكثر بكثير من نجاح الغني لأنه تحدّى صعابا مضاعفة و اجتاز عوائق أكبر. و الإحسان للفقير هو فعل نبيل و إنساني, و هو واجب اجتماعي على كل من استطاعه. لكن الإحسان ليس فقط بشقّه المادي, بل أنه يحمل شقا أخلاقيا يتضمن ضرورة المحافظة على كرامة المحسن إليه و منع جرحه و الابتعاد عن الإساءة إليه.
و الإحسان الكامل يجب أن يكون سريا, فهكذا يقول المنطق, و ليس أسلوبا دعائيا, فاستخدام الإحسان كطريقة للتظاهر و الرياء و التشاوف هو من أحقر الأفعال التي يمكن أن أتخيّلها. و في هذا المجال استشهد دائما بحديث نبوي, رغم علمانيتي , و هو ذلك القائل بأن أحد الرجال السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل تصدّق بصدقة فأخفاها, حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" و منه اقتبست عنوان هذه المقالة.
فبئس من رأى الإحسان إلى فقير وسيلة إشهار, فهذا الشخص هو الفقير... بأخلاقه, مهما كان ثرائه المادي فاحشا.
Yass