yass
06/11/2008, 13:38
دونيا صوفيّا هي الملكة صوفيّا, زوجة الملك خوان كارلوس الأول, ملك اسبانيا. و لمن لا يعلم, اسبانيا دولة ملكية دستورية تعتمد على النظام البرلماني ثنائي المجلس المنتخب ديمقراطيا, و للملك دور تمثيلي و بروتوكولي فقط لا غير.
عنوان هذه المقال اقتبسته من اسم أحد مجموعات شبكة الفيسبوك, و التي تعيد ذكر نفس المصطلح الذي قاله ملك اسبانيا لهوغو شافيز العام الماضي في مؤتمر الدول الإيبيرو- أمريكية, عندما استشاط غيضا من مقاطعة الرئيس الفنزويلي المتكررة لمداخلة رئيس الوزراء الاسباني ثاباتيرو.
سبب إنشاء هذه المجموعة, و كتابة هذا المقال, هو الجدل الدائر حاليا في جميع الأوساط الإعلامية و الثقافية و الشعبية في اسبانيا, حول تصريحات منسوبة للملكة نُشرت في كتاب للصحفية بيلار أوربانو يدور حول حياة الملكة و مجموعة مقابلات معها, و أُطلق هذا الكتاب بمناسبة عيد ميلاد الملكة السبعين منذ أيام.
الجدل و الاستنكار من قبل أغلبية الدوائر المثقفة يدور حول حديث الملكة في الكتاب عن رأيها الشخصي بالعديد من القوانين و القضايا الهامة, و إطلاقها أحكاما شخصية حول أمور بت البرلمان الاسباني فيها و أصدر قوانين تنظمها.
قد تبدو ردة الفعل حول كلمات الملكة مبالغ بها لمن لا يعلم خصوصية العلاقة ما بين الحكومة و القصر الملكي في اسبانيا, و تطوّر هذه العلاقة خلال سنوات التحويل الديمقراطي, و حتى بعد ترسّخ الديمقراطية في البلاد في بداية ثمانينات القرن الماضي.
لا يمكن إنكار و لا حتى "مكيجة" أن إعادة الملكية إلى اسبانيا هي إرث لعهد الديكتاتور فرانكو, فالـ "جنراليسيمو" انقلب على الجمهورية الثانية الاسبانية و تسبب بحرب أهلية دامت 3 سنوات لينتصر فيها و يقيم نظاما شموليا دام 40 عاما, و هو من عيّن الملك خوان كارلوس الأول (ابن الوريث التاريخي الحقيقي لسلالة بوربون التي كانت تحكم اسبانيا قبل الإطاحة بها و إقامة الجمهورية الثانية) خليفة له كرأس للدولة. و نص القَسَم الذي قرأه الملك خوان كارلوس بعد وفاة الديكتاتور عام 1975 يتضمن التعهد بـ" حماية مبادئ الحركة القومية كنظام قيادة للدولة" (الحركة القومية هي التيار السياسي للجنرال فرانكو المتمثل بالكتائب الاسبانية و مجموعات أخرى من الأحزاب اليمينية المتطرفة).
لو أن إعادة الشرعية المسلوبة منذ انقلاب فرانكو على الحكومة الجمهورية كان كاملا, لكان الملك أول من يجب مسحه من خريطة الطريق الديمقراطي, لكن الظرف التاريخي للدولة في ذلك الزمان, بالإضافة إلى دور الملك الفعّال جدا في إحياء مسيرة الديمقراطية و الجهود التوافقية بين مختلف الأطراف جعلته ينال الاعتراف بالشرعية من قبل جميع التيارات السياسية في تلك الفترة, و أدت إلى دخول الملكية التمثيلية في الدستور الديمقراطي الجديد.
لا يمكن التفكير بالتحوّل الديمقراطي الاسباني دون الدور الذي لعبه الملك, إن كان لضبط الجيش الذي كان يدين بالولاء للعهد القديم, أم جهوده الجبارة في إحلال التفاهم و التوافق بين أطراف متنازعة على مدى أكثر من نصف قرن. كل هذه الأمور جعلته أحد آباء الديمقراطية الاسبانية, و لاعب أساسي فيها.
و بسبب معرفة الملك بأن منطقية وجوده هشة بعض الشيء, فقد سعى إلى بنائها عن طريق قيامه بدور تمثيلي جيد, و الالتزام بمنصبه البروتوكولي دون الدخول في أي نقطة من تفاصيل الحياة السياسية, التي يعلم أنها من صلاحية السلطات المنتخبة فقط. و بسبب دوره التاريخي, و التزامه بحدود رسمها لنفسه بشكل صارم, فقد نال احترام و دعم كل الجهات السياسية, حتى التي لا يمكن التفكير بدعمها لملك, كالشيوعيين, الذين يحتفظ قادتهم التاريخيون بعلاقة طيبة جدا مع الملك, و شهيرة تلك الصيحة لأحد قادتهم و هو يصافح الملك في أوائل الثمانينات و يقول له :"لتسقط الملكية.. عاش الملك".
بالإضافة للدور السياسي و التاريخي للملك, فقد بنى لنفسه ببراعة دعما شعبيا و حبا له منقطع النظير, فهو إنسان - على الأقل أمام الناس- مرح و بسيط جدا لدرجة المبالغة حتى, و كسر البروتوكول و التدابير الأمنية لتبادل النكت مع الجمهور في زيارة رسمية هو أمر معتاد جدا, أو أن تراه يذهب ليصطحب أحفاده إلى المدرسة كأي جد عادي, أو حتى أن يترك افتتاحا رسميا قبل نهايته ليعطي مقابلة مع مراسل برنامج تلفزيوني فكاهي يعترف أنه من متابعيه الأوائل و يشارك في مقالبه, أو أن يذهب لحضور مباريات نادي خيتافي المتواضع دون إخبار مسبق و يقفز فرحا مع الأهداف دون أي اعتبار لأي هيبة بروتوكولية.
كل هذه الأمور, جعلت الشعب يتقبّل الملكية, غالبا بسبب شخصية الملك الساحرة, و براعته في تجنّب إغضاب منتقديه بالحفاظ على صمت مقدّس في كل ما له علاقة بالسياسة. و هذا أعطاه كذلك بعض الصلاحيات, أو بالأحرى غض البصر عن شؤون عديدة لا تخضع لقوانين محددة, مثل تمويل القصر الملكي و الإعفاء الضريبي (حسب الدستور الاسباني فإن العائلة المالكة لا تمتلك حق الملكية الخاصة, و جميع أملاك التاج الملكي ملك للدولة, حتى مجوهرات الملكة الخاصة, و هدايا عرس الأميرات), و السماح ببعض العادات و الأعراف الموروثة و القائمة ضمن العائلة المالكة و الوسط الأرستقراطي المحيط بها, و هذه الأعراف قد تتناقض أحيانا مع بعض قوانين الدولة, مثل قانون الأحوال الشخصية.
اعتياد الناس على هذا الدور للقصر الملكي, الذي لا يزعج أحدا, جعلهم يستشيطون غيضا عند نشر الكتاب الذي تتحدث فيه الملكة عن رأيها في العديد من القضايا, ليس لأن رأيها مزعج, بل أنه متوقع جدا من سليلة عائلة مالكة (اليونانية) و زوجة ملك, فهو رأي يميني محافظ, ليس متطرفا بل أنه رأي عادي حتى لشخص بسنها. بل أن الغضب ناتج عن أنه يعتبر تدخلا من القصر الملكي في ما لا يعنيه, و خرقا للاتفاق غير المعلن مع القوى السياسية القائم على دعم استمرار الملكية و تمويلها, مقابل عدم التدخل و لو بشكل بسيط.
لفت نظري كذلك أن القصر الملكي أصدر بيانا يوضّح فيه أن رأي الملكة هو رأي شخصي يمثلها كشخص و ليس رأي زوجة رأس الدولة (بروتوكوليا) أو رأي القصر الملكي في هذه القضايا, و أنها تفوّهت به في جلسة خاصة و لم تكن تبغي أن يكون عاما و لم تكن تعلم إنه سوف ينشر في الكتاب. الملفت للنظر في هذه النقطة هو أن القصر الملكي ليس مجبرا على توضيح شيء, فملكة اسبانيا, قانونيا, هي مواطنة اسبانية تملك حرية التعبير و القول. لكن ما حدث هو خرق للعرف أو للقانون غير المكتوب القائل بانعزال القصر الملكي عن الشؤون السياسية للدولة.
أثار ابتسامتي كذلك أن كتابا عن ملكة اسبانيا لم يمر على أي جهة رقابية, فالصحفية أرسلت نسخة قبل النشر إلى القصر الجمهوري كبادرة ذاتية, و لم يطلبوا شطب شيء منه, و لم أبتسم لأنني أستغرب هذا الشيء طبعا, و لكن لأنني حاولت إسقاط هكذا حادثة على واقع بلداننا, و كيف يمكن أن تكون ردود الأفعال إن وجدت.
و أتساءل كذلك, ختاما, متى سوف نستطيع أمر "قوادنا الملهمين" بأن يخرسوا, عندما يتجاوزون حدودهم..
Yass
عنوان هذه المقال اقتبسته من اسم أحد مجموعات شبكة الفيسبوك, و التي تعيد ذكر نفس المصطلح الذي قاله ملك اسبانيا لهوغو شافيز العام الماضي في مؤتمر الدول الإيبيرو- أمريكية, عندما استشاط غيضا من مقاطعة الرئيس الفنزويلي المتكررة لمداخلة رئيس الوزراء الاسباني ثاباتيرو.
سبب إنشاء هذه المجموعة, و كتابة هذا المقال, هو الجدل الدائر حاليا في جميع الأوساط الإعلامية و الثقافية و الشعبية في اسبانيا, حول تصريحات منسوبة للملكة نُشرت في كتاب للصحفية بيلار أوربانو يدور حول حياة الملكة و مجموعة مقابلات معها, و أُطلق هذا الكتاب بمناسبة عيد ميلاد الملكة السبعين منذ أيام.
الجدل و الاستنكار من قبل أغلبية الدوائر المثقفة يدور حول حديث الملكة في الكتاب عن رأيها الشخصي بالعديد من القوانين و القضايا الهامة, و إطلاقها أحكاما شخصية حول أمور بت البرلمان الاسباني فيها و أصدر قوانين تنظمها.
قد تبدو ردة الفعل حول كلمات الملكة مبالغ بها لمن لا يعلم خصوصية العلاقة ما بين الحكومة و القصر الملكي في اسبانيا, و تطوّر هذه العلاقة خلال سنوات التحويل الديمقراطي, و حتى بعد ترسّخ الديمقراطية في البلاد في بداية ثمانينات القرن الماضي.
لا يمكن إنكار و لا حتى "مكيجة" أن إعادة الملكية إلى اسبانيا هي إرث لعهد الديكتاتور فرانكو, فالـ "جنراليسيمو" انقلب على الجمهورية الثانية الاسبانية و تسبب بحرب أهلية دامت 3 سنوات لينتصر فيها و يقيم نظاما شموليا دام 40 عاما, و هو من عيّن الملك خوان كارلوس الأول (ابن الوريث التاريخي الحقيقي لسلالة بوربون التي كانت تحكم اسبانيا قبل الإطاحة بها و إقامة الجمهورية الثانية) خليفة له كرأس للدولة. و نص القَسَم الذي قرأه الملك خوان كارلوس بعد وفاة الديكتاتور عام 1975 يتضمن التعهد بـ" حماية مبادئ الحركة القومية كنظام قيادة للدولة" (الحركة القومية هي التيار السياسي للجنرال فرانكو المتمثل بالكتائب الاسبانية و مجموعات أخرى من الأحزاب اليمينية المتطرفة).
لو أن إعادة الشرعية المسلوبة منذ انقلاب فرانكو على الحكومة الجمهورية كان كاملا, لكان الملك أول من يجب مسحه من خريطة الطريق الديمقراطي, لكن الظرف التاريخي للدولة في ذلك الزمان, بالإضافة إلى دور الملك الفعّال جدا في إحياء مسيرة الديمقراطية و الجهود التوافقية بين مختلف الأطراف جعلته ينال الاعتراف بالشرعية من قبل جميع التيارات السياسية في تلك الفترة, و أدت إلى دخول الملكية التمثيلية في الدستور الديمقراطي الجديد.
لا يمكن التفكير بالتحوّل الديمقراطي الاسباني دون الدور الذي لعبه الملك, إن كان لضبط الجيش الذي كان يدين بالولاء للعهد القديم, أم جهوده الجبارة في إحلال التفاهم و التوافق بين أطراف متنازعة على مدى أكثر من نصف قرن. كل هذه الأمور جعلته أحد آباء الديمقراطية الاسبانية, و لاعب أساسي فيها.
و بسبب معرفة الملك بأن منطقية وجوده هشة بعض الشيء, فقد سعى إلى بنائها عن طريق قيامه بدور تمثيلي جيد, و الالتزام بمنصبه البروتوكولي دون الدخول في أي نقطة من تفاصيل الحياة السياسية, التي يعلم أنها من صلاحية السلطات المنتخبة فقط. و بسبب دوره التاريخي, و التزامه بحدود رسمها لنفسه بشكل صارم, فقد نال احترام و دعم كل الجهات السياسية, حتى التي لا يمكن التفكير بدعمها لملك, كالشيوعيين, الذين يحتفظ قادتهم التاريخيون بعلاقة طيبة جدا مع الملك, و شهيرة تلك الصيحة لأحد قادتهم و هو يصافح الملك في أوائل الثمانينات و يقول له :"لتسقط الملكية.. عاش الملك".
بالإضافة للدور السياسي و التاريخي للملك, فقد بنى لنفسه ببراعة دعما شعبيا و حبا له منقطع النظير, فهو إنسان - على الأقل أمام الناس- مرح و بسيط جدا لدرجة المبالغة حتى, و كسر البروتوكول و التدابير الأمنية لتبادل النكت مع الجمهور في زيارة رسمية هو أمر معتاد جدا, أو أن تراه يذهب ليصطحب أحفاده إلى المدرسة كأي جد عادي, أو حتى أن يترك افتتاحا رسميا قبل نهايته ليعطي مقابلة مع مراسل برنامج تلفزيوني فكاهي يعترف أنه من متابعيه الأوائل و يشارك في مقالبه, أو أن يذهب لحضور مباريات نادي خيتافي المتواضع دون إخبار مسبق و يقفز فرحا مع الأهداف دون أي اعتبار لأي هيبة بروتوكولية.
كل هذه الأمور, جعلت الشعب يتقبّل الملكية, غالبا بسبب شخصية الملك الساحرة, و براعته في تجنّب إغضاب منتقديه بالحفاظ على صمت مقدّس في كل ما له علاقة بالسياسة. و هذا أعطاه كذلك بعض الصلاحيات, أو بالأحرى غض البصر عن شؤون عديدة لا تخضع لقوانين محددة, مثل تمويل القصر الملكي و الإعفاء الضريبي (حسب الدستور الاسباني فإن العائلة المالكة لا تمتلك حق الملكية الخاصة, و جميع أملاك التاج الملكي ملك للدولة, حتى مجوهرات الملكة الخاصة, و هدايا عرس الأميرات), و السماح ببعض العادات و الأعراف الموروثة و القائمة ضمن العائلة المالكة و الوسط الأرستقراطي المحيط بها, و هذه الأعراف قد تتناقض أحيانا مع بعض قوانين الدولة, مثل قانون الأحوال الشخصية.
اعتياد الناس على هذا الدور للقصر الملكي, الذي لا يزعج أحدا, جعلهم يستشيطون غيضا عند نشر الكتاب الذي تتحدث فيه الملكة عن رأيها في العديد من القضايا, ليس لأن رأيها مزعج, بل أنه متوقع جدا من سليلة عائلة مالكة (اليونانية) و زوجة ملك, فهو رأي يميني محافظ, ليس متطرفا بل أنه رأي عادي حتى لشخص بسنها. بل أن الغضب ناتج عن أنه يعتبر تدخلا من القصر الملكي في ما لا يعنيه, و خرقا للاتفاق غير المعلن مع القوى السياسية القائم على دعم استمرار الملكية و تمويلها, مقابل عدم التدخل و لو بشكل بسيط.
لفت نظري كذلك أن القصر الملكي أصدر بيانا يوضّح فيه أن رأي الملكة هو رأي شخصي يمثلها كشخص و ليس رأي زوجة رأس الدولة (بروتوكوليا) أو رأي القصر الملكي في هذه القضايا, و أنها تفوّهت به في جلسة خاصة و لم تكن تبغي أن يكون عاما و لم تكن تعلم إنه سوف ينشر في الكتاب. الملفت للنظر في هذه النقطة هو أن القصر الملكي ليس مجبرا على توضيح شيء, فملكة اسبانيا, قانونيا, هي مواطنة اسبانية تملك حرية التعبير و القول. لكن ما حدث هو خرق للعرف أو للقانون غير المكتوب القائل بانعزال القصر الملكي عن الشؤون السياسية للدولة.
أثار ابتسامتي كذلك أن كتابا عن ملكة اسبانيا لم يمر على أي جهة رقابية, فالصحفية أرسلت نسخة قبل النشر إلى القصر الجمهوري كبادرة ذاتية, و لم يطلبوا شطب شيء منه, و لم أبتسم لأنني أستغرب هذا الشيء طبعا, و لكن لأنني حاولت إسقاط هكذا حادثة على واقع بلداننا, و كيف يمكن أن تكون ردود الأفعال إن وجدت.
و أتساءل كذلك, ختاما, متى سوف نستطيع أمر "قوادنا الملهمين" بأن يخرسوا, عندما يتجاوزون حدودهم..
Yass