اعمى النهار
29/10/2008, 21:52
:ss: الجائزة :ss:
"لا تنس أن تقرأ ما تيسر من الذكر،في سرك قبل أن تصل
الى قصر الثقافة يا أمي"قالت لي الوالدة وهي تودعني عند الباب!!" قبل أن تضيف"وحاذر أن تراك جارتنا أم فوزي وأنت تعبر زقاق المخيم،إنها إمرأة مشؤومة !! ثم بدأت كعادتها ترش الماء عند عتبة المنزل في أماكن خطواتي....."وبحركة سريعة من يدها تأكدت أن حرزي الخصوصي ثابت في مكانه بين طيات ثيابي الداخلية!!
"اطمئني،أجبتها ،وابتسامة خفيفة تضيء روحي و أنا أراها تريق الماء ورائي خوفا علي من الحسد ،وتتمتم بكلامغامض حدست أنه دعاء لي بالتوفيق!! تلك هي أمي ...أحمل قامتها في عيني .... وأقرأ تفاصيل نظراتها التي لا ترى سوى ظلالأجساد أبناءها جيدا ...
لها في وحدة صباحها حينما تأخذني عنها أسوار المدرسةالثانوية تسليةُ في أشعار لا تمل من تفردها على لسانها ....
تلك هي أمي .... لبست رداء السنين من نظرتي ...
ومشطت شعرها بابتسامتي ... وتكحلت برؤيتي ...
رأت الحياة من نافذة عيني ... وتنفست هواء صدري ...
فقدت وطنا غاليا ... ووجدتني أمامها لأحمل وجه أبي القعيد !!! ...أما والدي .....فألح علي للمرة الألف أن أتأكد من وجود ما يكفيني من شواقل لأصل إلى قلعة الصمود في مدينة رام الله الخالدة.....ومعي أحملنسخة أصلية من قصة الغصن الواعد ،وقصاصات الجرائد التي تحدثت عن تفوقي الباهر في مسابقة جائزة العودة للسنة الماضية وحصولي على المرتبة الخامسة،ونصحني والدي للمرة الأخيرة أنأنتبه إلي ضرورة تقديم قدمي اليمنى عند الدخول إلى قصر الثقافة ،قبل أن يهمس في أذني :"كن أمامهم شديد التهذيب ولبقا يا بني: قل لهم إن والديساهم في النضال ضد الانجليز واليهود ،وأننا عائلة وطنية على الدوام ... أحكي لهم عن قصة هجرتنا وأملنا في العودة لديارنا ولا تنس قصة استشهاد عمك حمدان ،قل لهم أننا مستعدون للقيامبالواجب كلما استدعى الأمر ذلك!!. قل لهم بأن يرصدوا اسمنا عندهم في أول قافلة للعودة الميمونة الى ديار الأجداد يا بني"......
لا أدر لم دارت بخلدي حينذاك أحاديث والدي ابن السبعين عاما عن أيام طفولته قبل رحيله عن الرملة عنوة بفعل الاحتلال البغيض .... لم أستطع أن أمنع تلك الدمعة من السقوط على وجنتي حين تذكرت حديث أمي عن لحظة مخاضها لكي تأتي بي لأصبح أحد ما جنت به أيديهم إلى هذه الدنيا الكئيبة ،ليجدوا أنفسهم بواد غير ذي زرع....
كم تمنيت وقتها لو كنت أملك المزيد من الشواقل لأنقلهم معي إلى موقع الحفل البهيج ولكي ينعموا برفقتي بلذة الفوز المؤزر الذي أنا ذاهب إليه....أما فاطمة ،أختي الكبيرة ،فقد أصرت على أنتطمئن بنفسها للمرة الأخيرة على أناقتي ومظهري العام ،فراحت تعدل من ربطة عنقي وتحاول يائسة أنتجعل بدلتي الرخيصة التي استلفتها من جارنا تاجر القماش الثري،منسجمة معجسدي النحيلانها بقية أخوتي ...أخوتي الذين تقاسمت واياهم ذات صباح رغيف الخبز في افطارنا ... وأحتسينا جميعا من نفسإبريق الشاي ... لم يقل لنا الزمن كل عجائبه ... ولم نكن نعرف كل أسراره ، ننظر سويا الىوجه أبي ... كل صباح ... وندعوا له بالشفاء ... ونلف نظراتنا إلى وجه أمي ونجدها تمضغ قطعة من الخبز ونسبغ عليها دعائنا بطول العمروالصحة ... كنا بجلستنا تلك ولا نزال كزهور منثورة على بساط حوشنا ... نستمد من أشعةالشمس قوة لساعات النهار المقبلة ... أمي هي نور الشمس فيها.......
بعد أن تأكد الجميع ،أن كل شيء على ما يرام ،سمحوا لي أخيرا أنأعبر بوابة البيت إلى الزقاق الضيق!!طفرت من عيني دموع سرعان ما مسحتها بيدي ،عندماالتفتُ في آخر الزقاق،ورأيت أمي وفاطمة وأبي وباقي أخوتي متسمرين جميعا أمام الباب يتابعوننيبأعين شاردة!!
"إنها مسؤولية ثقيلة ،صرخ صوت ما من أقصى الروح!!والفشلممنوع،مستحيل!!
هذه العائلة عاشت الحرمان سنوات طويلة ،وازدادت أمورها تعقيدا،منذ أحيل والدي على التقاعد ،وبلغت الفاطمة مبلغ الزواج!! ،واحتيج إلىتجهيزها!!
حين وصلت مكالمة الأخوة من مركز بديل معلنة فوزي بمسابقة القصة القصيرة بجائزة العودة لأدب الأطفال وحصولي على المرتبة الخامسة طرت الى أهلي لأبلغهم النبأ .... وقتها ولمدة أسبوع وحتى موعد الاحتفال في قصر الثقافة في مدينة رام الله ،دبتفي هذه الأسرة حياة جديدة،وانتشت أحلام مكبوتة،وأشرقت آلاف الشموس الخامدة،وانتعشتالأماني العذاب ،عندما علم أبي بالخبر سجد شكرا لله ،وقرر أن يصوم كلالأيام التي تسبق الحفل ،ونذر أن يذبح كبشا أقرن ويوزع لحمه على الفقراء فرحا بالجائزة المرتقبة....... أما أمي فملأت أرجاء المنزل بالزغاريد ،حتى امتلأ الحوش بالجيرانوالفضوليين ،ولم تضع وقتا:طافت على كل الأولياء والصالحين لتفي بنذورها القديمة،ولتترجى "أحباب الله والمقربين منه" أن "يقفوا "مع ابنها في اليوم الأول من شهر أيار............. "!!
وسمعتها تقول لفاطمة:إذا حصل أخوك على الجائزة ،سنخطب له "فائزة " ابنة الجيران، نعم.... الزواج نصف الدين وأنا أريد أن أفرح به قبل "منام عيني"،وبعد أن أزوجكبدورك ،سأذهب للحج أنا وأبوك!!وبعد ذلك سأقول:مرحبا بك أيها الموت!!"فأخوتك الصغار سيتكفل بهم أخوك صلاح .....
بينما سيارةالتاكسي تشق بي الشوارع المزدحمة الملتوية في مدينة رام الله في وقت ما بعد الظهيرة بقليل ،بدت لي أروقتها أقل بشاعة رغم ما يعتريني من فرحة ممزوجة بحزن دفين لا أعرف مصدره.... والناسأكثر ألفة ،ولم أطلب من السائق أن يغير المحطة عندما فتح مذياع السيارة على إذاعة صوت النجاح !!بل إن نشرة الأخبار بدت لي للمرة الأولىمقنعة و مبهجة أيضا!!
بل ورددت بحدة على السائق عندما تأفف بصوت مسموع من سلوكبعض المواطنين الذين يعبرون الطريق دون انتباه للإشارة الضوئية ،وسمعت نفسي أقول له:كل شيء في هذاالبلد طيب وجميل!!
" تاه بي الخيال لحظة .... ورحت أفكر في شيء ما ثم تنبهت وإذا بالسائق يعرج طريق جانبي ثم يقف فجأة أمام مبنى بهيج وجميل ليقول: تفضل ،هنا مقر قصر الثقافة " سمعت سائق "التاكسي "يقول ليوهو يهز كتفي برفق ليخرجني من أحلامي المجنحة التي استغرقتني أكثر الرحلة!!
أحسست أنقلبي يكاد يسقط بين قدمي.......نقدت السائق أجرته ،وأنا أحاول أن أتماسك، ،جرجرت جسميإلى مدخل قصر الثقافة في الساحة الخارجية لأجد بعض الشبان والشابات الجالسين على درجات المبنى وتقدمت لتأدية السلام وقمت بالتعريف على نفسي .... وكم كنت ثملا حين لمحت البعض منهم يتهامس ليقول : انه صلاح الدين ..........الفائز معنا بجائزة القصة ... وتقدم الموجودون للسلام والتهنئة .. وأمام قاعات القصر الفسيحة ..... تسمرت عيناي أمام يافطة عريضة مكتوبة بخط رقميأنيق،كانت تحتل نصف الواجهة البلورية للقاعة الرئيسية :" مهرجان جائزة العودة / مركز بديل.. تألقت فرحا وتيها وبدأت أجمع قواي وأنا أبحث عن نفسي التائهة كابن لمخيم الصمود كما يحلو للبعض أن يسميه وكم عدت لأمني النفس هواها وكم جال في خاطري ذاك المسن الذي أدعوه أبي وكم تمنيت وتمنيت في تلك اللحظة .........
رحت أجول وأصول بين جنبات معرض البوسترات المنتشرة على جانبي القاعة الواسعة وكلي أمل بأن أجد اسمي ولو على قصاصة صغيرة وكان ذاك هو مجمل الحلم الذي يراودني طيلة رحلتي إلى القصر ..... إنني لا أفهم معنى أن أبقى في عالم مليء بالمتناقضات،عالم تكبد فيه الحزن عناء نفسهليحيا بين الأضلاع..
حين ودعت أهلي وعدتهم بالعودة بجائزة العودة الثمينة كنت أحمل بضع وعشرين شيكلا في جيوبي وإحدى عشر ذكرى مؤلمة في ذاكرة لا زالت تنبض بالحياة ،كنت أفكر أن أشارك في الجائزة الكبرى؛لأراهن على ما تبقى وسيتبقى من عمر الفرح في نفس أهلي.
لن تخدش العيونعباءة الصمت التي اعتدت أن ألتحفها حين وقف عريف الحفل على منصة مسرح قصر الثقافة وأمام عدسات البث المنتشرة على الجوانب ،ليعلن عن أسماء الفائزين ولتقليدهم الجوائز،في السنة الأولى من عمري ابتسمت لعضي إصبع أمي حين استعجلت تحسس سنياللبني ، وفي السنة الخامسة تدحرجت جدتي فمت ضحكا وماتت هي كمداً، وفي صباح السنةالعاشرة من عمري أتذكره جيدا كانت فرحتي لا تضاهي حين دسست ورقة في حقيبة بنت جيرانيأعلن لها عن أول خفقات قلبي ليموت تحت أقدام أخاها في مساء نفس اليوم ..
أبي لايريد أن يعترف بحقي في التصرف بفرحة مستقبلي حين نلت شهادة الثانوية العامة فكانمنذها فشلي..هههههههههه
لا أدر لم ساورتني تلك الذكريات وأنا أترقب قدوم اسمي ولكن أنى للتعيس أن يجد حظا هاربا من صاحبه؟؟؟؟؟؟؟؟
تركت المقعد في هدوء مريب سيطر على قاعة المسرح ، ورحت الى مسؤول الحفل عند مدخل المسرح لأسأل عن طبيعة جائزتي ........أخذت درع العودة ممزوجا باسمي وقد نحت عليه..... مجللا ببعض الأخطاء الإملائية.... . خرجت وقلبي مملوء بالمرارة.....ممزوجا ببعض الفرح المميت حزنا على مقابلة تلك الأسرة التي قررت أن تحلم بعد عناء تسعة وخمسين عاما من الشتات.... عند أولمنعطف مددت يدي وانتزعت الدرع . رمقته وألقيت به في ظرف بلاستيكي كان بحوزتي. بقيت على أطراف المخيم أتجول بين الطرقات الجانبية حتى حل ظلام الليل ثم دلفت إلى منزلي سريعا كي لا يراني أهلي .... دخلت لغرفتي المُظلِمَة، أغلقَت الباب، وقفت قليلاً بجانبِهِقبل أن أحكِمَ إغلاقه متأملاً لا شيء، ثمّ أشعلت مفتاحَ الضوء الضّعيف وَدعوتالأريكة لتمارسَ نشاطها اليومي بالبقاء تحتي، تَنَفَّست بِقوةٍ هذه المرَّة، وَفَاضَ دمعي. تمددت على سريري المتهالك ورحت في إغفاءة حالمة بالعودة للمشاركة في الجائزة القادمة....وفي الصباح... صحوت على صوت أمي وهي تقول بابتهاج وفرح :قم يا صلاح الدين..... قم يا صلاح الدين .
"لا تنس أن تقرأ ما تيسر من الذكر،في سرك قبل أن تصل
الى قصر الثقافة يا أمي"قالت لي الوالدة وهي تودعني عند الباب!!" قبل أن تضيف"وحاذر أن تراك جارتنا أم فوزي وأنت تعبر زقاق المخيم،إنها إمرأة مشؤومة !! ثم بدأت كعادتها ترش الماء عند عتبة المنزل في أماكن خطواتي....."وبحركة سريعة من يدها تأكدت أن حرزي الخصوصي ثابت في مكانه بين طيات ثيابي الداخلية!!
"اطمئني،أجبتها ،وابتسامة خفيفة تضيء روحي و أنا أراها تريق الماء ورائي خوفا علي من الحسد ،وتتمتم بكلامغامض حدست أنه دعاء لي بالتوفيق!! تلك هي أمي ...أحمل قامتها في عيني .... وأقرأ تفاصيل نظراتها التي لا ترى سوى ظلالأجساد أبناءها جيدا ...
لها في وحدة صباحها حينما تأخذني عنها أسوار المدرسةالثانوية تسليةُ في أشعار لا تمل من تفردها على لسانها ....
تلك هي أمي .... لبست رداء السنين من نظرتي ...
ومشطت شعرها بابتسامتي ... وتكحلت برؤيتي ...
رأت الحياة من نافذة عيني ... وتنفست هواء صدري ...
فقدت وطنا غاليا ... ووجدتني أمامها لأحمل وجه أبي القعيد !!! ...أما والدي .....فألح علي للمرة الألف أن أتأكد من وجود ما يكفيني من شواقل لأصل إلى قلعة الصمود في مدينة رام الله الخالدة.....ومعي أحملنسخة أصلية من قصة الغصن الواعد ،وقصاصات الجرائد التي تحدثت عن تفوقي الباهر في مسابقة جائزة العودة للسنة الماضية وحصولي على المرتبة الخامسة،ونصحني والدي للمرة الأخيرة أنأنتبه إلي ضرورة تقديم قدمي اليمنى عند الدخول إلى قصر الثقافة ،قبل أن يهمس في أذني :"كن أمامهم شديد التهذيب ولبقا يا بني: قل لهم إن والديساهم في النضال ضد الانجليز واليهود ،وأننا عائلة وطنية على الدوام ... أحكي لهم عن قصة هجرتنا وأملنا في العودة لديارنا ولا تنس قصة استشهاد عمك حمدان ،قل لهم أننا مستعدون للقيامبالواجب كلما استدعى الأمر ذلك!!. قل لهم بأن يرصدوا اسمنا عندهم في أول قافلة للعودة الميمونة الى ديار الأجداد يا بني"......
لا أدر لم دارت بخلدي حينذاك أحاديث والدي ابن السبعين عاما عن أيام طفولته قبل رحيله عن الرملة عنوة بفعل الاحتلال البغيض .... لم أستطع أن أمنع تلك الدمعة من السقوط على وجنتي حين تذكرت حديث أمي عن لحظة مخاضها لكي تأتي بي لأصبح أحد ما جنت به أيديهم إلى هذه الدنيا الكئيبة ،ليجدوا أنفسهم بواد غير ذي زرع....
كم تمنيت وقتها لو كنت أملك المزيد من الشواقل لأنقلهم معي إلى موقع الحفل البهيج ولكي ينعموا برفقتي بلذة الفوز المؤزر الذي أنا ذاهب إليه....أما فاطمة ،أختي الكبيرة ،فقد أصرت على أنتطمئن بنفسها للمرة الأخيرة على أناقتي ومظهري العام ،فراحت تعدل من ربطة عنقي وتحاول يائسة أنتجعل بدلتي الرخيصة التي استلفتها من جارنا تاجر القماش الثري،منسجمة معجسدي النحيلانها بقية أخوتي ...أخوتي الذين تقاسمت واياهم ذات صباح رغيف الخبز في افطارنا ... وأحتسينا جميعا من نفسإبريق الشاي ... لم يقل لنا الزمن كل عجائبه ... ولم نكن نعرف كل أسراره ، ننظر سويا الىوجه أبي ... كل صباح ... وندعوا له بالشفاء ... ونلف نظراتنا إلى وجه أمي ونجدها تمضغ قطعة من الخبز ونسبغ عليها دعائنا بطول العمروالصحة ... كنا بجلستنا تلك ولا نزال كزهور منثورة على بساط حوشنا ... نستمد من أشعةالشمس قوة لساعات النهار المقبلة ... أمي هي نور الشمس فيها.......
بعد أن تأكد الجميع ،أن كل شيء على ما يرام ،سمحوا لي أخيرا أنأعبر بوابة البيت إلى الزقاق الضيق!!طفرت من عيني دموع سرعان ما مسحتها بيدي ،عندماالتفتُ في آخر الزقاق،ورأيت أمي وفاطمة وأبي وباقي أخوتي متسمرين جميعا أمام الباب يتابعوننيبأعين شاردة!!
"إنها مسؤولية ثقيلة ،صرخ صوت ما من أقصى الروح!!والفشلممنوع،مستحيل!!
هذه العائلة عاشت الحرمان سنوات طويلة ،وازدادت أمورها تعقيدا،منذ أحيل والدي على التقاعد ،وبلغت الفاطمة مبلغ الزواج!! ،واحتيج إلىتجهيزها!!
حين وصلت مكالمة الأخوة من مركز بديل معلنة فوزي بمسابقة القصة القصيرة بجائزة العودة لأدب الأطفال وحصولي على المرتبة الخامسة طرت الى أهلي لأبلغهم النبأ .... وقتها ولمدة أسبوع وحتى موعد الاحتفال في قصر الثقافة في مدينة رام الله ،دبتفي هذه الأسرة حياة جديدة،وانتشت أحلام مكبوتة،وأشرقت آلاف الشموس الخامدة،وانتعشتالأماني العذاب ،عندما علم أبي بالخبر سجد شكرا لله ،وقرر أن يصوم كلالأيام التي تسبق الحفل ،ونذر أن يذبح كبشا أقرن ويوزع لحمه على الفقراء فرحا بالجائزة المرتقبة....... أما أمي فملأت أرجاء المنزل بالزغاريد ،حتى امتلأ الحوش بالجيرانوالفضوليين ،ولم تضع وقتا:طافت على كل الأولياء والصالحين لتفي بنذورها القديمة،ولتترجى "أحباب الله والمقربين منه" أن "يقفوا "مع ابنها في اليوم الأول من شهر أيار............. "!!
وسمعتها تقول لفاطمة:إذا حصل أخوك على الجائزة ،سنخطب له "فائزة " ابنة الجيران، نعم.... الزواج نصف الدين وأنا أريد أن أفرح به قبل "منام عيني"،وبعد أن أزوجكبدورك ،سأذهب للحج أنا وأبوك!!وبعد ذلك سأقول:مرحبا بك أيها الموت!!"فأخوتك الصغار سيتكفل بهم أخوك صلاح .....
بينما سيارةالتاكسي تشق بي الشوارع المزدحمة الملتوية في مدينة رام الله في وقت ما بعد الظهيرة بقليل ،بدت لي أروقتها أقل بشاعة رغم ما يعتريني من فرحة ممزوجة بحزن دفين لا أعرف مصدره.... والناسأكثر ألفة ،ولم أطلب من السائق أن يغير المحطة عندما فتح مذياع السيارة على إذاعة صوت النجاح !!بل إن نشرة الأخبار بدت لي للمرة الأولىمقنعة و مبهجة أيضا!!
بل ورددت بحدة على السائق عندما تأفف بصوت مسموع من سلوكبعض المواطنين الذين يعبرون الطريق دون انتباه للإشارة الضوئية ،وسمعت نفسي أقول له:كل شيء في هذاالبلد طيب وجميل!!
" تاه بي الخيال لحظة .... ورحت أفكر في شيء ما ثم تنبهت وإذا بالسائق يعرج طريق جانبي ثم يقف فجأة أمام مبنى بهيج وجميل ليقول: تفضل ،هنا مقر قصر الثقافة " سمعت سائق "التاكسي "يقول ليوهو يهز كتفي برفق ليخرجني من أحلامي المجنحة التي استغرقتني أكثر الرحلة!!
أحسست أنقلبي يكاد يسقط بين قدمي.......نقدت السائق أجرته ،وأنا أحاول أن أتماسك، ،جرجرت جسميإلى مدخل قصر الثقافة في الساحة الخارجية لأجد بعض الشبان والشابات الجالسين على درجات المبنى وتقدمت لتأدية السلام وقمت بالتعريف على نفسي .... وكم كنت ثملا حين لمحت البعض منهم يتهامس ليقول : انه صلاح الدين ..........الفائز معنا بجائزة القصة ... وتقدم الموجودون للسلام والتهنئة .. وأمام قاعات القصر الفسيحة ..... تسمرت عيناي أمام يافطة عريضة مكتوبة بخط رقميأنيق،كانت تحتل نصف الواجهة البلورية للقاعة الرئيسية :" مهرجان جائزة العودة / مركز بديل.. تألقت فرحا وتيها وبدأت أجمع قواي وأنا أبحث عن نفسي التائهة كابن لمخيم الصمود كما يحلو للبعض أن يسميه وكم عدت لأمني النفس هواها وكم جال في خاطري ذاك المسن الذي أدعوه أبي وكم تمنيت وتمنيت في تلك اللحظة .........
رحت أجول وأصول بين جنبات معرض البوسترات المنتشرة على جانبي القاعة الواسعة وكلي أمل بأن أجد اسمي ولو على قصاصة صغيرة وكان ذاك هو مجمل الحلم الذي يراودني طيلة رحلتي إلى القصر ..... إنني لا أفهم معنى أن أبقى في عالم مليء بالمتناقضات،عالم تكبد فيه الحزن عناء نفسهليحيا بين الأضلاع..
حين ودعت أهلي وعدتهم بالعودة بجائزة العودة الثمينة كنت أحمل بضع وعشرين شيكلا في جيوبي وإحدى عشر ذكرى مؤلمة في ذاكرة لا زالت تنبض بالحياة ،كنت أفكر أن أشارك في الجائزة الكبرى؛لأراهن على ما تبقى وسيتبقى من عمر الفرح في نفس أهلي.
لن تخدش العيونعباءة الصمت التي اعتدت أن ألتحفها حين وقف عريف الحفل على منصة مسرح قصر الثقافة وأمام عدسات البث المنتشرة على الجوانب ،ليعلن عن أسماء الفائزين ولتقليدهم الجوائز،في السنة الأولى من عمري ابتسمت لعضي إصبع أمي حين استعجلت تحسس سنياللبني ، وفي السنة الخامسة تدحرجت جدتي فمت ضحكا وماتت هي كمداً، وفي صباح السنةالعاشرة من عمري أتذكره جيدا كانت فرحتي لا تضاهي حين دسست ورقة في حقيبة بنت جيرانيأعلن لها عن أول خفقات قلبي ليموت تحت أقدام أخاها في مساء نفس اليوم ..
أبي لايريد أن يعترف بحقي في التصرف بفرحة مستقبلي حين نلت شهادة الثانوية العامة فكانمنذها فشلي..هههههههههه
لا أدر لم ساورتني تلك الذكريات وأنا أترقب قدوم اسمي ولكن أنى للتعيس أن يجد حظا هاربا من صاحبه؟؟؟؟؟؟؟؟
تركت المقعد في هدوء مريب سيطر على قاعة المسرح ، ورحت الى مسؤول الحفل عند مدخل المسرح لأسأل عن طبيعة جائزتي ........أخذت درع العودة ممزوجا باسمي وقد نحت عليه..... مجللا ببعض الأخطاء الإملائية.... . خرجت وقلبي مملوء بالمرارة.....ممزوجا ببعض الفرح المميت حزنا على مقابلة تلك الأسرة التي قررت أن تحلم بعد عناء تسعة وخمسين عاما من الشتات.... عند أولمنعطف مددت يدي وانتزعت الدرع . رمقته وألقيت به في ظرف بلاستيكي كان بحوزتي. بقيت على أطراف المخيم أتجول بين الطرقات الجانبية حتى حل ظلام الليل ثم دلفت إلى منزلي سريعا كي لا يراني أهلي .... دخلت لغرفتي المُظلِمَة، أغلقَت الباب، وقفت قليلاً بجانبِهِقبل أن أحكِمَ إغلاقه متأملاً لا شيء، ثمّ أشعلت مفتاحَ الضوء الضّعيف وَدعوتالأريكة لتمارسَ نشاطها اليومي بالبقاء تحتي، تَنَفَّست بِقوةٍ هذه المرَّة، وَفَاضَ دمعي. تمددت على سريري المتهالك ورحت في إغفاءة حالمة بالعودة للمشاركة في الجائزة القادمة....وفي الصباح... صحوت على صوت أمي وهي تقول بابتهاج وفرح :قم يا صلاح الدين..... قم يا صلاح الدين .