مجنون يحكي وعاقل يسمع
21/10/2008, 22:37
قال صديقي..
ـ سأرحل إلى بلاد المال والخضرة والأمان والحسان.
ـ متى الإياب؟
ـ وهل يعرف الغريب متى يعود؟!
ـ للغربة ثمن فادح.
ـ وللأوطانِ المحاصرة بالذلّ والجوع ثمنٌ أفدح.
وسافر كل منا في غربته.... وابتلع الزمان من عمرينا ثلاثين عاماً على ما يعدّون.. قالوا عاد صديقك نبيل.. وقالوا عاد كسير الروح والجسد.. وقالوا لقد اختار أن يموت على أرض الوطن..
ذهبتُ للقائك.. ناديتُك وروحي تجهش.. ويعتصرُ القلبَ حزنٌ عصي.. تلقّيتني والدموعُ تائهةٌ في عينيك النادمتين.. ضمّمتني إلى بقايا جسدك.. تلّمّست غضون وجهي.. شعري المحترق..
ـ لقد استرّد الزمان ما أعطى.
شممتك.
ـ أما زلتَ تحبُّ عطر البنفسج؟
ـ أنسيتَ أن الفتاتين اللتين أحببناهما معاً.. كانتا تحبان عطر البنفسج.
جلستَ قربي.. أشعلنا نار الذكريات وطفقت تحلم.. قلتَ..
ـ غداً.. سوف أخرجُ من باب دارنا القديم في البوّابة.. أمشي بضعَ خطوات.. أتلمّس نقوش بابكم (ما شاء الله ـ يا فتّاح يا عليم) أتطاول على رؤوس أصابعي.. أطرق بابكم.. دق.. دق.. تفتح لي أختك عائشة.. يشرق لي وجهها القمريّ الصغير وغمازتاها الآسرتان. يأتيني صوت أمك:
ـ من على الباب يا عائشة؟
ـ نبيل يا أمي.
ـ ادخل يا بني.
أدخلُ.. تتلقّاني أمك وهي تشدُّ الماءَ من البئر وجهها الخمري ينضجُ عرقاً.. تسألني عن أمي.. تناديك لتخرج معي.. تُعانقني.. تضحك أمك.
ـ كأنكما لم تريا بعضكما منذ سنوات.
ننطلق نحو باب الدار.
ـ إلى أين يا عفاريت؟
لا نردّ.. تهزُّ رأسها قائلة (جيل أدرع لا يشبع ولا يسمع) لا نستطيع أن نقول لـها أننا ذاهبان إلى سوق القصّابين لجلب قطّتين صغيرتين نتسلّى بهما.. فقد بدأت العطلة الصيفية وتاهت منا القطّتان القديمتان (فلّة وشامة) نمضي عبر الزقاق نحاذر حمار جدك الذي يقف في العرض معانداً ويقطع درب البوابة بجسده الضخم.. نحتال عليه ونعبر كالبرق بسرعة من خلفه.. تكافئنا على جرأتنا شجرةُ الياسمين في أول الزقاق وقد نثرت زهورها على الأرض لكل العابرين.. نتشمّمها قليلاً ونجري عبر الحي.. نتوقّف أمام باب الحمّام.. نرقبُ النساء القادمات مع بناتهن وهن يحملن الصرر المليئة بالثياب وطعام الحمام، نتجرأ قليلاً ونلحق بهن.. نتسلّل.. نخطو بضع خطوات داخل البراني.. نقفُ عند بركة السمك الأحمر.. تأتينا من الجّواني أصواتُ النساء والأطفال وروائح الصابون والبيلون.. ثم نهرب كالأرانب المذعورة حين يهدر كالرعد صوت (المعلمة).
ـ ماذا تفعلان هنا يا سعادين؟.. هيا اجلبوا آباءكم أيضاً.
نمضي بين دكاكين الحي.. يغرينا بائع حلوى المسك والعنبر نشتري بنقودك أو نقودي قطعة نقتسمها.. نمضغها على مهل.. يحرقنا العطش.. ندخل دكان الحلاق حيث خابية الماء المليئة دائماً.. لا نأبه للزبائن الشيوخ الذين يرمقوننا.. نشرب حتى الارتواء.. يسعل أحدهم ثم يسأل.. كما يسألنا كلّ مرة ندخل فيها لنشرب..
ـ أبناء من أنتم؟
أعاند ولا أربدّ.. فترد أنت..
ـ أنا ابن سعيد الحايك.
ـ إي.. إي.. والدك كان معي في حرب الترعة وأسرَنا الإنجليز.
نخرج قبل أن ينطلق صاحب العكاز الأسير برواية ما جرى.. نتوقّف أمام باب قاعة النشاء.. تخترق أنوفنا رائحةُ حمض نفاذة... تغرينا العتمة المجهولة في الداخل.. نتسلّل.. يتبدّد الظلام عن برك مليئة بالقمح والماء.. تُرعشنا البرودة.. نختلس قطعة نشاء غضّة نتذوقها... تلسع لساننا.. نبصقها.. نحثُّ الخطى نحو السوق ترافقنا دكاكين النساجين.. نقف أمام دكان العم الياس.. نصفُ جسده في حفرة النول قدماه تضغطان (الدوس) يده اليسرى تشدُّ الدّفة بقوة نحو حافة النسيج، اليمنى تشدّ (الحدّافة) والعينان تلاحقان المكوك يميناً ويساراً.. يتوقف قليلاً.. نتأمل يديه البارعتين وهي تدفع (المكاييك)( ) الصغيرة بين خيطان السّدى فيصنع بخيوطها الذهبية والفضية زنانير جميلة ستزيّن غداً خصور الصبايا.. نودّعه ثم نجري نحو السوق.. يصادفنا (موسى السكران) وهو عائدٌ إلى الحي يغني مواله الحزين (ياقوت وجهك شبه البدر لا لا) نلتصق بتجويف أحد الأبواب يصمت.. يرمقنا بعينيه الداميتين.. يحدّق إلينا.. نتجمّد من الرعب.. ربما تذكّر أننا قد طاردناه بحجارتنا مع بقية أطفال الحيّ منذ أيام ونحن نصيح به يا سكران.. لكّنه يمضي متابعاً مواله وهو يترنّح من السكر والهوى.
أصبحتْ غرقان في بحرِ الأسى وحدي
يا جامعَ الشمل يجمعني بكم وحدي
وبحبّكم بس.. لكن غيركم. لا لا
اقتربنا من سوق الحشيش تستقبلنا دقاتُ النجارين وهم يصنعون النمليات والصّرافات وصناديقُ الأعراس ويزخرفونها بألوان زاهية بسيطة.. نمضي... تدغدغ أنوفنا روائح القطايف الساخنة وقد انتشرت فوق أطباق القش.. فنحلم بها أزواجاً تضمّ القشدة ويسيل فوقها قطر السكر.. ندخل السوق المسقوف نرنو بدهشة إلى الدكاكين الطافحة بالأثواب والأقمشة. نرقب الصبايا على واجهات الصاغة يتأملن متنهدّات الأساور وخواتم الخطبة.. ننعطف نحو سوق العطّارين تتعلّق عيوننا بالعلب والزجاجات المرصوفة على الرفوف وهي تخفي أسراراً لا يعلهما سوى أولئك الباعة الصامتين.. ندخل سوق الحدادين.. نحاذر الشرر المتطاير من شحذ المناجل والسكاكين. وأخيراً نصلُ يا صديقي إلى سوق القصّابين لا يعنينا أبداً اللحم العملاق المتدّلي للأبقار والجمال بل نبحثُ بين الأرجل وتحت الطاولات عن القطط الصغيرة.. ألمح إحداها فأتسلل بمكر.. أغافلُ الهرة الصغيرة فأخطفها جارياً بها غير آبه بخرمشاتها وموائها المتواصل.. انتظرك بعيداً فتفعل ما فعلت ونعدو هاربين بالقطّتين.. نضّمهما إلى صدرينا فتأنسان بنا بعد طول مواء.. نصل الحيّ غانمين.. يلتفُّ حولنا أترابنا متوسّلين فنسمح لمن يأتي لـهن بالطعام باللمس أو الحمل وسرعان ما ينهال علينا الخبز وقطع الجبن والقريشة.. نرقب القطتين بشغف وهي تأكل. تنادينا أمهاتنا فيتسلّل كلّ منا إلى داره يخفي قطّته وراء ظهره.. يفضحُني المواء.. تصرخ بي أمي.
ـ من أين أتيت بهذه القطة المسكينة يا عفريت؟
ـ من السوق.
ـ ألا تخاف أن يخطفك أحد من أمك في يوم ما؟
أحلم أن مارداً ماكراً قد خطفني من الفراش وطار بي بعيداً يقهقه. أتوّسل فلا يرد.. يحلّق بي في سماء حمراء.. ثم يلقيني في صحراء يأسرها الجفاف والحرّ والغبار والجراد.. أبكي.. أصرخ.. توقظني أمي.. تشدّني إلى صدرها تقرأ لي الفاتحة والمعوّذتين.. تسقيني ماء من طاسة تزينها آية الكرسي.. ثم تأمرني أن أعيد القطة الصغيرة إلى أمها.. أعدها بصدق ولكني أنسى...
صمت صديقي وأطرق ماسحاً دموعه...
كيف سأخبره بأنني ذهبت مراراً إلى حيّنا القديم.. لم أجد شجرة الياسمين عند مدخل البوابة.. بل اخترقت أنفي روائح نتنة لا أدري من أين تنبعث.. الحجارة الزرقاء صارت جدراناً من إسمنت أصم.. وضاعت الحلقة الحديدية التي كان جدي يربط بها حماره العنيد.. الباب الخشبي ذو النقوش ضاع.. وأختي ذات الوجه القمري المدور.. رحلت مع زوجها إلى بلاد النفط وهي أسيرة البيت وستة أولاد وزوج لا يشبع من الحجّ والصوم والصلاة وجمع المال..
الحمّامُ مغلق غارت مياهه وانطفأت ناره وهجرته النساء والصبايا.. الوجوه الوديعة التي ألفناها قطفها الموت بشراهة.. والوجوه التي تحدق إلي الآن لا أعرفها ولا تعرفني.. وقبل أن أغادر الحي.. لحق بي طفل يشبهك ويشبهني.. قال لي.
ـ عبثاً تبحث عن جنتك يا عم.. لقد صارت هشيماً.
مازال صديقي يحلم ومازلتُ أبحث بيأس عن جنتي.. ومازالت المدينة تمتلئ برائحة الموت والحرائق ومواء قطتين ضائعتين..
نور الدين الهاشمي
ـ سأرحل إلى بلاد المال والخضرة والأمان والحسان.
ـ متى الإياب؟
ـ وهل يعرف الغريب متى يعود؟!
ـ للغربة ثمن فادح.
ـ وللأوطانِ المحاصرة بالذلّ والجوع ثمنٌ أفدح.
وسافر كل منا في غربته.... وابتلع الزمان من عمرينا ثلاثين عاماً على ما يعدّون.. قالوا عاد صديقك نبيل.. وقالوا عاد كسير الروح والجسد.. وقالوا لقد اختار أن يموت على أرض الوطن..
ذهبتُ للقائك.. ناديتُك وروحي تجهش.. ويعتصرُ القلبَ حزنٌ عصي.. تلقّيتني والدموعُ تائهةٌ في عينيك النادمتين.. ضمّمتني إلى بقايا جسدك.. تلّمّست غضون وجهي.. شعري المحترق..
ـ لقد استرّد الزمان ما أعطى.
شممتك.
ـ أما زلتَ تحبُّ عطر البنفسج؟
ـ أنسيتَ أن الفتاتين اللتين أحببناهما معاً.. كانتا تحبان عطر البنفسج.
جلستَ قربي.. أشعلنا نار الذكريات وطفقت تحلم.. قلتَ..
ـ غداً.. سوف أخرجُ من باب دارنا القديم في البوّابة.. أمشي بضعَ خطوات.. أتلمّس نقوش بابكم (ما شاء الله ـ يا فتّاح يا عليم) أتطاول على رؤوس أصابعي.. أطرق بابكم.. دق.. دق.. تفتح لي أختك عائشة.. يشرق لي وجهها القمريّ الصغير وغمازتاها الآسرتان. يأتيني صوت أمك:
ـ من على الباب يا عائشة؟
ـ نبيل يا أمي.
ـ ادخل يا بني.
أدخلُ.. تتلقّاني أمك وهي تشدُّ الماءَ من البئر وجهها الخمري ينضجُ عرقاً.. تسألني عن أمي.. تناديك لتخرج معي.. تُعانقني.. تضحك أمك.
ـ كأنكما لم تريا بعضكما منذ سنوات.
ننطلق نحو باب الدار.
ـ إلى أين يا عفاريت؟
لا نردّ.. تهزُّ رأسها قائلة (جيل أدرع لا يشبع ولا يسمع) لا نستطيع أن نقول لـها أننا ذاهبان إلى سوق القصّابين لجلب قطّتين صغيرتين نتسلّى بهما.. فقد بدأت العطلة الصيفية وتاهت منا القطّتان القديمتان (فلّة وشامة) نمضي عبر الزقاق نحاذر حمار جدك الذي يقف في العرض معانداً ويقطع درب البوابة بجسده الضخم.. نحتال عليه ونعبر كالبرق بسرعة من خلفه.. تكافئنا على جرأتنا شجرةُ الياسمين في أول الزقاق وقد نثرت زهورها على الأرض لكل العابرين.. نتشمّمها قليلاً ونجري عبر الحي.. نتوقّف أمام باب الحمّام.. نرقبُ النساء القادمات مع بناتهن وهن يحملن الصرر المليئة بالثياب وطعام الحمام، نتجرأ قليلاً ونلحق بهن.. نتسلّل.. نخطو بضع خطوات داخل البراني.. نقفُ عند بركة السمك الأحمر.. تأتينا من الجّواني أصواتُ النساء والأطفال وروائح الصابون والبيلون.. ثم نهرب كالأرانب المذعورة حين يهدر كالرعد صوت (المعلمة).
ـ ماذا تفعلان هنا يا سعادين؟.. هيا اجلبوا آباءكم أيضاً.
نمضي بين دكاكين الحي.. يغرينا بائع حلوى المسك والعنبر نشتري بنقودك أو نقودي قطعة نقتسمها.. نمضغها على مهل.. يحرقنا العطش.. ندخل دكان الحلاق حيث خابية الماء المليئة دائماً.. لا نأبه للزبائن الشيوخ الذين يرمقوننا.. نشرب حتى الارتواء.. يسعل أحدهم ثم يسأل.. كما يسألنا كلّ مرة ندخل فيها لنشرب..
ـ أبناء من أنتم؟
أعاند ولا أربدّ.. فترد أنت..
ـ أنا ابن سعيد الحايك.
ـ إي.. إي.. والدك كان معي في حرب الترعة وأسرَنا الإنجليز.
نخرج قبل أن ينطلق صاحب العكاز الأسير برواية ما جرى.. نتوقّف أمام باب قاعة النشاء.. تخترق أنوفنا رائحةُ حمض نفاذة... تغرينا العتمة المجهولة في الداخل.. نتسلّل.. يتبدّد الظلام عن برك مليئة بالقمح والماء.. تُرعشنا البرودة.. نختلس قطعة نشاء غضّة نتذوقها... تلسع لساننا.. نبصقها.. نحثُّ الخطى نحو السوق ترافقنا دكاكين النساجين.. نقف أمام دكان العم الياس.. نصفُ جسده في حفرة النول قدماه تضغطان (الدوس) يده اليسرى تشدُّ الدّفة بقوة نحو حافة النسيج، اليمنى تشدّ (الحدّافة) والعينان تلاحقان المكوك يميناً ويساراً.. يتوقف قليلاً.. نتأمل يديه البارعتين وهي تدفع (المكاييك)( ) الصغيرة بين خيطان السّدى فيصنع بخيوطها الذهبية والفضية زنانير جميلة ستزيّن غداً خصور الصبايا.. نودّعه ثم نجري نحو السوق.. يصادفنا (موسى السكران) وهو عائدٌ إلى الحي يغني مواله الحزين (ياقوت وجهك شبه البدر لا لا) نلتصق بتجويف أحد الأبواب يصمت.. يرمقنا بعينيه الداميتين.. يحدّق إلينا.. نتجمّد من الرعب.. ربما تذكّر أننا قد طاردناه بحجارتنا مع بقية أطفال الحيّ منذ أيام ونحن نصيح به يا سكران.. لكّنه يمضي متابعاً مواله وهو يترنّح من السكر والهوى.
أصبحتْ غرقان في بحرِ الأسى وحدي
يا جامعَ الشمل يجمعني بكم وحدي
وبحبّكم بس.. لكن غيركم. لا لا
اقتربنا من سوق الحشيش تستقبلنا دقاتُ النجارين وهم يصنعون النمليات والصّرافات وصناديقُ الأعراس ويزخرفونها بألوان زاهية بسيطة.. نمضي... تدغدغ أنوفنا روائح القطايف الساخنة وقد انتشرت فوق أطباق القش.. فنحلم بها أزواجاً تضمّ القشدة ويسيل فوقها قطر السكر.. ندخل السوق المسقوف نرنو بدهشة إلى الدكاكين الطافحة بالأثواب والأقمشة. نرقب الصبايا على واجهات الصاغة يتأملن متنهدّات الأساور وخواتم الخطبة.. ننعطف نحو سوق العطّارين تتعلّق عيوننا بالعلب والزجاجات المرصوفة على الرفوف وهي تخفي أسراراً لا يعلهما سوى أولئك الباعة الصامتين.. ندخل سوق الحدادين.. نحاذر الشرر المتطاير من شحذ المناجل والسكاكين. وأخيراً نصلُ يا صديقي إلى سوق القصّابين لا يعنينا أبداً اللحم العملاق المتدّلي للأبقار والجمال بل نبحثُ بين الأرجل وتحت الطاولات عن القطط الصغيرة.. ألمح إحداها فأتسلل بمكر.. أغافلُ الهرة الصغيرة فأخطفها جارياً بها غير آبه بخرمشاتها وموائها المتواصل.. انتظرك بعيداً فتفعل ما فعلت ونعدو هاربين بالقطّتين.. نضّمهما إلى صدرينا فتأنسان بنا بعد طول مواء.. نصل الحيّ غانمين.. يلتفُّ حولنا أترابنا متوسّلين فنسمح لمن يأتي لـهن بالطعام باللمس أو الحمل وسرعان ما ينهال علينا الخبز وقطع الجبن والقريشة.. نرقب القطتين بشغف وهي تأكل. تنادينا أمهاتنا فيتسلّل كلّ منا إلى داره يخفي قطّته وراء ظهره.. يفضحُني المواء.. تصرخ بي أمي.
ـ من أين أتيت بهذه القطة المسكينة يا عفريت؟
ـ من السوق.
ـ ألا تخاف أن يخطفك أحد من أمك في يوم ما؟
أحلم أن مارداً ماكراً قد خطفني من الفراش وطار بي بعيداً يقهقه. أتوّسل فلا يرد.. يحلّق بي في سماء حمراء.. ثم يلقيني في صحراء يأسرها الجفاف والحرّ والغبار والجراد.. أبكي.. أصرخ.. توقظني أمي.. تشدّني إلى صدرها تقرأ لي الفاتحة والمعوّذتين.. تسقيني ماء من طاسة تزينها آية الكرسي.. ثم تأمرني أن أعيد القطة الصغيرة إلى أمها.. أعدها بصدق ولكني أنسى...
صمت صديقي وأطرق ماسحاً دموعه...
كيف سأخبره بأنني ذهبت مراراً إلى حيّنا القديم.. لم أجد شجرة الياسمين عند مدخل البوابة.. بل اخترقت أنفي روائح نتنة لا أدري من أين تنبعث.. الحجارة الزرقاء صارت جدراناً من إسمنت أصم.. وضاعت الحلقة الحديدية التي كان جدي يربط بها حماره العنيد.. الباب الخشبي ذو النقوش ضاع.. وأختي ذات الوجه القمري المدور.. رحلت مع زوجها إلى بلاد النفط وهي أسيرة البيت وستة أولاد وزوج لا يشبع من الحجّ والصوم والصلاة وجمع المال..
الحمّامُ مغلق غارت مياهه وانطفأت ناره وهجرته النساء والصبايا.. الوجوه الوديعة التي ألفناها قطفها الموت بشراهة.. والوجوه التي تحدق إلي الآن لا أعرفها ولا تعرفني.. وقبل أن أغادر الحي.. لحق بي طفل يشبهك ويشبهني.. قال لي.
ـ عبثاً تبحث عن جنتك يا عم.. لقد صارت هشيماً.
مازال صديقي يحلم ومازلتُ أبحث بيأس عن جنتي.. ومازالت المدينة تمتلئ برائحة الموت والحرائق ومواء قطتين ضائعتين..
نور الدين الهاشمي