-
دخول

عرض كامل الموضوع : تشيخوف..كـان كاتبـاً رائعـاً وطبيبـاً سيئـاً فـي معالجـة نفسـه


achelious
01/10/2008, 00:31
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
تشيكوف

ـ «إنني أموت!» هتف تشيخوف باللغة الألمانية في أثر الدكتور إريك شفيرير الذي خرج لتوّه من الغرفة بعد أن أوصى بكوب من الشمبانيا للمريض.
ـ «كانت معرفته باللغة الألمانية قليلة جداً»، علّقت زوجته أولغا كنيبر على هتافه هذا بعد سنوات.
ـ «إنني أموت!» كرّر تشيخوف بالروسية، كما لو أنه يترجم هتافه الأخير لزوجته اللّمّاحة التي تتقن الألمانية جيداً والتي ترافقه في رحلته الأخيرة.
كان ذلك في ليلة الثاني من تموز ( حسب التقويم القديم ) من عام 1904 في منتجع بادن فيلر. وكانت صحة تشيخوف قد ساءت جداً في ربيع عام ,1904 ما جعل الأطباء الروس ينصحونه بالسفر إلى خارج روسيا، فجاء اختيار هذا المنتجع الجبلي في جنوب ألمانيا. وبوصولهما أدرك تشيخوف بلا أي لبس ما كان ينتظره هنا، لكنه مع ذلك ظلّ يتحدث عن مشاريعه بالكتابة والسفر، حتى لقد فرح بالفرصة التي اقتنصتها زوجته الحبيبة عندما تركته فجأة في المنتجع، فزفّ الخبر إلى أخته ماريّا في رسالة: »لقد سافرت أولغا إلى سويسرا لتعالج أسنانها« فبدا الأمر كما لو أن العزيزة أولغا فعلت ذلك لتؤكد مرة أخرى على الشبه بين موت تشيخوف وموت إيفان إيليتش بطل رواية تولستوي القصيرة التي اعتبرها بعض النقاد المصدر الرئيس لقصة تشيخوف »حكاية مملة«. كانت زوجة إيفان إيليتش منشغلة عن احتضار زوجها بحياتها الاجتماعية الزاخرة بالاستقبالات المرحة والناس الجذّابين تاركةً إياه مع سرير نظيف، وحائط أصمّ، وخادم رائع.
قال إيساك ألتشولّر طبيب تشيخوف في يالطا: «إن الزوجة الشابة التي أحبها أنطون بافلوفيتش بجنون تكشّفت عن أنانية مرعبة ... كانت تترك المريض وحيداً لشهور عديدة».
قال إيفان بونين: «أولغا ممثلة لا تترك خشبة المسرح إلا نادراً، ثم إن علاقاتها مع أخت أنطون بافلوفيتش معقدة، وهذا ما ترك أثره على صحته، فيتألم تارة من أجل هذه، وأخرى من أجل تلك، وأحياناً من أجلهما معاً. أعتقد أن هذا انتحار! أسوأ من سخالين ....».
نعم فبالإضافة إلى فشل مسرحية النورس في عرضها الأول، وإلى انشغال أولغا الحبيبة، ثم إلى عدم اكتشاف دواءٍ للسل حتى ذلك الحين، كان المقرّبون من تشيخوف يعيدون تأزّم وضعه الصحي أيضاً إلى جزيرة سخالين.
كتب الدكتور إريك شفيرير بعد وفاة تشيخوف يلومه على سخالين وعلى أسفاره الأخرى: «كان كاتباً رائعاً ولكنه طبيب سي ء جداً ما دام جرؤ على أسفاره في الوقت الذي كان عليه كمصدور أن يتدفّأ ويشرب الحليب الساخن مع توت العلّيق ...».
كان تشيخوف قد توجه في عام 1890 إلى سيبيريا، لكي يزور بعد ذلك جزيرة سخالين ـ منفى المحكومين بالأعمال الشاقة، فوصف ترحاله عبر أنهار سيبيريا ودروبها في مجموعة مقالات «عبر سيبيريا». ثم جمع في سخالين مادة وثائقية ضخمة عن السجناء والسكان المحليين متحاوراً مع الكثيرين منهم ودارساً بالتفصيل ظروف حياتهم اليومية، ثم عن إدارة السجون وتعسف الموظفين، ما جعله بعد عودته من سفره الشاق الطويل يتخلى عن إعجابه الشديد برواية تولستوي القصيرة «سوناتا كريتزر».
قال تشيخوف قبل جزيرة سخالين في رسالة إلى بيليشيف: «من بين كل ما يُكتب الآن عندنا وفي الخارج تكاد لا تعثر على عمل يضاهي سوناتا كريتزر من حيث أهمية الفكرة وجمال الأداء».
ثم قال بعد جزيرة سخالين في رسالة إلى سوفورين: «إن سوناتا كريتزر الآن مضحكة بالنسبة إليّ وتبدو مربَكة، فإما أن رحلتي ( إلى سخالين ) جعلتني أبلغ سن الرشد أو أنني جُننت ـ الشيطان أعلم بي».
وبهذه المناسبة كفّ تشيخوف عن متابعة كتابة مشروع روايته الوحيدة «قصص من حياة أصدقائي»، بعد أن كان ورّط بطلها بموقفه المتحمس من «سوناتا كريتزر» قبل سخالين، وإن كان أكثر الحديث عن هذه الرواية لكثير من معارفه، وعلى مدى سنوات ظلّ يعد بإنجازها القريب:
كتب في رسالة إلى أخيه الكسندر في عام 1887 يقول : «عندي رواية ليست مملة، ولكنها لا تصلح لمجلة».
وكتب يقول في رسالة إلى غريغوروفيتش في عام 1888: «تتناول الرواية بعض العائلات والقضاء كلّه بغاباته وأنهاره ومراكبه. في مركز القضاء شخصيتان رئيستان، رجل وامرأة، تتحلّق حولهما الأحجار الأخرى».
وفي رسالة إلى سوفورين كتب يقول في عام 1889: «إنني أكتب هذه الرواية على شكل قصص منتهية منفردة وشديدة الصلة بعضها ببعض عبر مجموعة من المغامرات والأفكار والشخصيات، ولكل قصة عنوانها الخاص».
رواية النبلاء
لكنه، مع ذلك، لم ينجز هذه الرواية، بل سجّل موقفاً مثيراً سيظهر بعدئذ في كتاب »«تشيخوف في مذكرات معاصريه»، إذ قال : «لم يتقن كتابة الرواية إلا النبلاء»، الشرط الذي لا يستوفيه هو نفسه فقد كان جده لأبيه قنّاً افتدى نفسه وأولاده في عام ,1844 أي قبل ولادة تشيخوف بست عشرة سنة فقط.
قال الناقد ليف شيستوف المعاصر لتشيخوف في مقالة له بعنوان «إبداع من لا شيء»: »إن تشيخوف في أعماله الأولى هو الأقلّ شبهاً من أي أحد بتشيخوف الذي اعتدنا عليه في أعوامه الأخيرة، فتشيخوف الشاب مرح، لا مبالٍ، وأشبه ما يكون بطائر يرفرف بجناحيه، وقد كان يطبع أعماله في المجلات الساخرة. لكنه بين عامي 1888 ـ 1889 عندما كان في السابعة والعشرين ـ الثامنة والعشرين من العمر ظهر عنده عملان: قصة «حكاية مملة» ومسرحية «إيفانوف» وضع بهما بداية لإبداع جديد... حيث لا وجود الآن لتشيخوف المرح، فثمة هنا إنسان عابس متجهّم يخيف بكلماته حتى أكثر الناس المجرّبين والمحنكين».
ورغم أن تشيخوف يخرم تصنيف شيستوف الحاد بقصص لا تمتّ إلى المرح بصلة في أعماله الأولى («شقاء» التي كتبها في عام 1886 و«تيفوس» التي تعود إلى عام 1887) وبقصص مرحة في أعوامه الأخيرة (منها قصة «في أيام ما بعد عيد الميلاد» المكتوبة في عام 1899)، ورغم أن شيستوف ينتهي في مقالته بإطلاق أحكام أخلاقية على تشيخوف ويحمّل تولستوي تبعة «ضلاله» إذ جرّأه على مثل هذه الأعمال، حين كتب قبله «موت إيفان إيليتش»، رغم كل ذلك فإن شيستوف قد أشار إلى منعطف خطير في سيرة تشيخوف الإبداعية في العامين 1888ـ .1889 لكن المسألة إذا حصرناها بالمرح والتجهّم فقط إنما تُفقد تشيخوف الكثير من أهمية إنجازه الكبير ابتداءً من هذين العامين. ولا بد هنا من ملاحظة أن بذرة هذا الانعطاف تعود إلى فترة سبقت هذا التاريخ، وتحديداً إلى التاريخ الذي قرأ فيه تشيخوف مقالة إيفان تورغينيف: «دون كيخوت وهاملت» المنشورة في عام ,1860 وقد ورد أول ذكر لها عند تشيخوف في رسالة إلى أخيه ميخائيل في عام 1879 ينصحه فيها بقراءة رواية سرفانتس ومقالة تورغينيف إياها. ولكن ما الذي أجّل ظهور هذه البذرة المبكّرة في أدب تشيخوف حتى عامي 1888 ـ 1889 هل كان مرحه في أعماله الأولى مجرد قناع للفتوّة؟ أم تطلّب »تجهّمه« مزيداً من الدرس والتأمل بأعمال تورغينيف (بصورة خاصة: «الآباء والبنون» و «رودين» و«مذكرات صياد»)، وأعمال دوستويفسكي ( وبصورة خاصة «أوراق من القبو» و «الأبله» و «الزوج الأبدي» و «الأخوة كارامازوف») وأعمال تولستوي («موت إيفان إيليتش» و«سوناتا كريتزر » رغم سخالين، وشخصيات محددة من أعمال كبرى مثل بيير في الحرب والسلم) وغونتشاروف («أبلوموف») وغوغول (المعطف) و سيلبتسوف (الوقت الصعب) وقصص غارشن. وربما اقتضى «تجهّمه» ذاك المزيد من الثقة بأن ما كان يواجهه إنما هو الموت المحتم القريب بعد تجاهله إصابته بالسل طيلة بصقه الدم الذي استمرّ منذ عام 1884 (السنة التي تخرج فيها من كلية الطب).
إنني أموت
انعطاف تشيخوف الجديد هذا تجلّى بأبطال متنوّرين قلقين يعانون من حياة لا تليق بهم ومن عزلةٍ رغم اختلاطهم بالآخرين ومن عجز أمام واقع متعثر مربك متخلف، كما يعانون من خمولهم الخاص ومن أوهامٍ غير قادرين على التخلص منها، وتطلّعٍ إلى حقيقة لا يتوصلون إليها، لكنهم مستعدون للتضحية بحيواتهم في سبيلها، إنهم معلمون، أطباء، مهندسون، قساوسة، ضباط، وفنانون مبثوثون كلهم تقريباً في رحاب الريف الروسي في تضادّ جارح في الغالب مع أبطال آخرين لأن تشيخوف لا يقصر قصصه عليهم إلا في أعمال نادرة، فهو غالباً ما يشبكهم بعلاقات مع آخرين لا يبدون مجرد إكسسوارات لإظهارهم. إن هؤلاء الآخرين مشغولون كأنداد يتخذون أحياناً صورة التنويع على البطل نفسه، فتكون الشخصية مقلوب الشخصية التي تجاورها في القصة نفسها، فيشكلان معاً وجهين لجوهر واحد كما في قصص «جيران» و«خوف» و «المبارزة»، أو يكون الأبطال الآخرون من طينة مختلفة تماماً كما في «منزل صيفي جديد»، عندما يعالق تشيخوف بطلَه المتنور بجمع من فلاحين يتفاوتون هم أنفسهم بالتدرّج بين الجهل المطبق اللئيم والشفافية العفوية الرحيمة. وهكذا فإن قصة تشيخوف في هذه المرحلة ليست قصة فرد كما في معظم قصصه «المرحة» الأولى، بل قصة لوحة كاملة غنية بإيقاعات مختلفة إن بالشخصيات المتنوعة المتكافئة أو بعلاقاتها بعضها ببعض.
قال تشيخوف في رسالة إلى لينتفاروفا في عام 1888: « إنني أتقن الحديث عن موضوعات طويلة بقليل من الكلام».
وكان توماس مان قد وصّف عمل تشيخوف بقوله: « في إبداعه كله ـ رفضٌ للضخامة الملحمية، لكنه مع ذلك يحيط بروسيا التي لا حدود لها».
ـ «إنني أموت!» كرّر تشيخوف بصوت خافت، ثم تناول كاس الشمبانيا.
التفت إلى زوجته، نجمة مسرح موسكو الفني أولغا ليوناردوفنا كنيبر، وابتسم لها ابتسامة وصفتها فيما بعد بالمدهشة، ثم تمتم، كأنما لنفسه، بكلماته الأخيرة:
ـ «منذ زمن بعيد لم أشرب الشمبانيا ...»
شرب الكأس كلها على هينته، ثم استلقى بهدوء وبطء شديدين على جنبه الأيسر .... وأغمض عينيه.

خليل الرز
السفير الثقافي