-
دخول

عرض كامل الموضوع : فن الصعلكة وأدب بن الورد


muzahem
21/09/2008, 03:28
الصعلوك : الفقير والجمع صعاليك ، وصعاليك العرب فتَّاكها . والصعلوك الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد ، أما ما اصطلح عليه الأدب العربي في الصعلوك فهو (( الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا وقد جردته من وسائل العيش فيها وسلبته كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها )) .
تشكل ظاهرة الصعلكة إحدى الفنون الأدبية المميزة مع سائر الفنون الأخرى كالشعر الغنائي بأنواعه المتعددة كالمديح والفخر والرثاء وغيره ، والنثر الفني كالقصة والخطابة ، والجامع لهما التأثير في مسامع القراء والسامعين . تضاف إلى ظاهرة الصعلكة باعتبارها فن أدبي مزية كانت السمة الغالبة في بدء تشكيلها . ومعلوم أن الشعر الجاهلي كان موطن الصعلكة الأول ومنه انبثقت قيمها وصفاتها ، ولا ريب أن كل ظاهرة تحمل معها بعدا ماديا يفسر لنا الإرهاصات التي أدت إلى نشوءها ، فحياة البادية وشظف العيش والجفاف وشقاء الفقر ونفاد الحيلة ، هي الصفات الصارخة لمجتمع الجاهلية الغارق في القيم البدائية الأولى ، ويلمح في دواوين الشعراء الجاهليين ممن اشتهروا بالصعلكة ميولا اشتراكية تثير الغرابة خاصة إذا عرفنا أن الجوع والفقر والحرمان هي عوامل تجعل من صاحبها إنسانا يحاول الحصول على ما يسد احتياجاته الأساسية في الحياة فان بقيت فضلة معنوية فهي تساوي في مقدارها واستعداد صاحبها حب الإيثار الذي تغنى به الشعراء كثيرا ، وفي أخبار الصعاليك في عصر ما قبل الإسلام تتجلى هذه الروح الاشتراكية بأبلغ صورها وأكثرها إثارة للعاطفة ويبرز اسم عروة بن الورد كأعظم شعراء الصعاليك بل هو المؤسس الحقيقي لمذهب الصعلكة في مقاربة تبتعد عن الغلو والشطط ، وهو بهذا لم يحصل على لقبه عروة الصعاليك جزافا بل عن استحقاق شعري وعاطفي أشار إليه النقاد وعلماء اللغة والبلاغة بل أن صعلكة ابن الورد أثارت إعجاب وإكبار الخليفة عبد الملك بن مروان ، فحملته أن يقول (( ما يسرني أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني ، إلا عروة بن الورد )) ويقول معاوية بن أبي سفيان (( لو كان لعروة ولد لأحببت أن أتزوج إليهم )) . ولا ريب أن حياة عروة هي كشف لطبيعة مذهب الصعلكة واتجاهاتها وأسلوبها في التعاطي مع حياة يغلب عليها الطابع المادي الصرف . يقول عروة بن الورد في إحدى قصائده :
وإني امرؤ عاف إنائي شركة وأنت امرؤ عاف إنائك واحـد
أتهزأ مني أن سمنت وان ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسَّم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح المـاء والمـاء بارد
احسب أن الاشتراكية الحديثة لو اقتصرت على هذه الأبيات التي قالها عروة شعارا وطريقة ومذهبا لكان فيها الغنى والكفاية في إيضاح أهدافها ، مع ملاحظة هامة أن النظريات الاشتراكية كانت في جوانب كثيرة مجرد أكداس للكلمات يمليها ترف ذهني مضطلع في عرض النظرية لكنها في شعر بن الورد فعل تطبيقي أخذ شقين رئيسين أولهما إنشاء مذهب فني وجداني جذب القرائح لتتبعه والاستشهاد به علاوة على إبراز الجو التاريخي لحقب الناس وازمانهم وطبائعهم ، والشق الثاني هو ما أشرنا إليه من نزعة اشتراكية فعلية تعد ثورة على نظم العهد الجاهلي الذي تشتد فيه برجوازية حادة وسط شقاء مطبق على نواحي الحياة ، فهو إذن من هذه الناحية فعل تطبيقي اشتراكي بصورة بسيطة وعفوية لا يستغلق فهمها . وربما يظن ظان أن حياة الصعلكة هي في مضمونها قطع للطريق وغارات ونهب أي بمعنى آخر لصوصية احترافية لأناس كرسوا أنفسهم لهذا الغرض ، وهو استفسار مهم يدعو إلى التعريج إليه وإيضاحه ، لكن الباحث والمطلع على أدب الصعلكة لا سيما صعلكة ابن الورد يكتشف جوانب إيجابية تخفف من وقع هذه الكلمة (( اللصوصية )) إلى حد كبير وأهمها أن صعاليك ذلك العصر كانوا يتذممون ويتحرجون من قطع سبيل فقير معدوم أو متوسط الحال بل انهم تذمموا من الغني الكريم ممن اشتهر بجوده وعفته وإسراعه إلى نجدة الملهوف واقتصروا على الغني اللئيم الذي كنز ماله ومنعه فاصبح مشهورا بالبخل والشح والأثرة . وتجد هذه الغارات الطريفة على اؤلئك الصنف مبثوثة في كتب الأدب والتراث وهي لا تخلو من طرافة وحذق وذكاء يتخللها حوار منقول على لسان البطل أو من خلال نقل المشاهد على وجه الدهر من مصدرها أنحاء القبائل والأحياء ، ومنها قصة غارة ابن الورد على قبيلة تضم صهرا لهم ترك أعمامه وأقام فيهم ، وكيف دخل في خفية وترقب لتتبع ما سوف يحصل ويكون في رواية هذا الصهر الذكي والمتردد في حزمه واتخاذه للقرار . ومما يخفف اكثر من وقع الكلمة اللصوصية أسلوب رئيس الصعاليك في اختيار مجموعته فيروى أن الشاعر بن الورد (( كان إذا أصاب الناس شدة وتركوا في دارهم المريض والكبير ، يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته ويكنف عليهم ويكسوهم ، ومن قوي منهم أما مريض فيبرأ من مرضه أو ضعيف تثوب قوته ، خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا حتى انه كان في قسمة الغنيمة يؤثرهم على نفسه وكان كثيرون منهم يعودون إلى أهلهم وقد اخصبوا وتمولوا أما عروة فلم يكن سخاءه يتيح له أن يحفظ شيئا مما يكسب )) . ومن صعاليك العرب ممن اشتهروا بالصعلكة السليك ابن السلكة وتأبط شرا والشنفرى ، وهؤلاء عرفوا بأغربة العرب ، وهو مصطلح وضعه العرب لأولئك الذين ولدوا لام سوداء ، فتركهم آباءهم تذمما من الانتساب إليهم ، لكنهم اظهروا قوة ونجابة أهلتهم إعجاب العرب لهم والإشارة إليهم ، ومن هؤلاء الاغربة أيضا عنترة بن شداد أو عنترة العبسي صاحب الملحمة المشهورة ، وهؤلاء الصعاليك الثلاثة من الشعراء المشهورين ، كانت لهم مقطوعات شعرية تعد من أحلى ما نظم العرب ، كاللامية المنسوبة إلى الشاعر الشنفرى والمعروفة بلامية العرب على غرار لامية العجم المنسوبة للشاعر الطغرائي .