yass
12/09/2008, 23:54
"طير و علّي يا حمام, فوق سطوح بيوتنا... "
هكذا كانت تبدأ أغنية الطفلة اللبنانية الشهيرة, التي كان صوتها أشبه بنشيد طفولة جيل كامل.. جيل مواليد أواسط الثمانينات من القرن الماضي.. كنا نسمعها بشكل شبه إجباري, أيام القناة السورية الوحيدة و برامج الأطفال الساعة الرابعة و نصف.. و ما أجمل هذا الإجبار..
كنا نسمعها في رياض الأطفال, في المدارس, في البيت... حيث هناك أطفال و جهاز ستريو.. تسمع ريمي بندلي تغني..
هذا الأغنية بالذات لها عندي ذكرى قوية الحفر في ذهني...
كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري عندما كانت هذه الأغنية تعرض يوميا تقريبا على شاشة التلفزيون السوري.. سمعتها عددا لا نهائيا من المرات حتى حفظتها عن ظهر قلب... بدون فهم أغلب الكلام غالبا..
مع هذه الأغنية بدء تفكيري حول الحرب.. و حول السلام..
في آخر سنين الحرب الأهلية اللبنانية, و لاعتبارات خاصة بالتوزيع الإداري لأبناء المحافظات في خدمة العلم على مختلف ألوية الجيش السوري, فقد كان هناك الكثيرون من أبناء مدينة الرقة في لبنان يقضون فترة خدمة العلم.. و منهم ابن عمي و ابن عمتي في تلك الفترة, و لذلك كانت أخبار لبنان مهمة للغاية في وسطي العائلي..
كنت أسمع كلمة حرب, اطلاق نار, شهيد, جريح... و من هذه المصطلحات غير الطفولية البتة...
في تلك الأيام... كان أبي قد عاهد نفسه بعد انتهاء فترة خدمة العلم أن يقضي معي و مع أخوتي الاثنين (لم تكن الصغيرة قد ولدت بعد) وقتا أطول.. كونه أضاع جزءا من طفولتنا في مشفى حرستا العسكري.. و لذلك كان من المعتاد أن يقضي فترة العصر يلعب معنا و يحادثنا و يعلمنا بعض الأشياء.. و كنت أطرح الأسئلة الكثيرة و يحاول هو الإجابة عليها بطريقة يفهمها ابن السنين الأربع...
و في يوم جمعة (أذكر أنه يوم جمعة لأن جدتي –رحمها الله- كانت عندنا للغداء) سألت أبي عن معنى كلمة حرب.. فأخبرني أن الحرب هي أمر بشع جدا.. هي حالة يتعارك فيها الناس لسبب معين و يموت فيها ناس كثيرون بدون ذنب.. و أنها أمر كريه و بغيض جدا... و عكسها كلمة سلام.. و هي السعادة و الهناء و الحياة... و هناك حرب في لبنان و في فلسطين... فسألته: لبنان حيث عبد الله ابن عميمة و ريمي بندلي و أمها فيروز؟ (في تلك الفترة كنت مقتنعا جدا أنه إذا كانت ريمي بندلي طفلة لبنانية و فيروز سيدة لبنانية, فإن ريمي بندلي هي ابنة فيروز... سذاجة طفل..) فأجابني بنعم..
جلست أفكر مطولا في الأمر.. حيث أنني طيلة فترة طفولتي كنت أشرد لدقائق طويلة جدا وحدي أفكر في أمر ما .. حتى أن أهلي فكروا جديا بعرضي على طبيب نفساني... و فكرت أنه اذا كان هناك حرب في لبنان.. و في لبنان يموت ناس و أطفال .. فإن هذا أمر سيء جدا.. و ريمي بندلي في خطر... و تذكرت أيضا أن ريمي بندلي تقول في أغنيتها:"يا رب يظل السلام ساكن حد بيوتنا"... إذا ريمي بندلي تريد السلام, الذي تعلمت منذ قليل أنه عكس الحرب و أنه شيء جميل..
صار عند ابن السنوات الأربع معضلة جديدة: اذا كانت ريمي بندلي تريد السلام.. فلماذا لا تحققه؟ إنها "تطلع عالتلفزيون" و بالتالي يجب أن تكون قوية و قادرة على كل شيء لأن الذين يظهرون على التلفزيون هم ناس مهمون جدا و يستطيعون فعل أي شيء... فعدت إلى مستشاري الفكري الخاص... أبي.. سألته عن هذا فأجابني أنها ربما لم تذهب للحديث مع المتعاركين لتقنعهم, و اقترح علي أن نكتب لها رسالة كي ندعوها للذهاب و الحديث معهم (مع أمها فيروز) .. و قال لي أن أرسم شيئا جميلا على ورقة ثم أعطيه إياها ليكتب على خلفيتها الرسالة و يرسلها بالبريد إلى لبنان..
رسمت جبلا أخضر و شجرة أكبر من الجبل و بيت صغير و طفل بحجم البيت و نهر و بقرة و شمس و غيوم و سياج خشب.. و أعطيت الرسم لأبي لكي يكتب خلفه الرسالة و يذهب لإرسالها للبريد...
تأخر تأثير رسالتي أكثر من سنة و نصف... كنت أسأل أبي دائما إن كانت الحرب قد انتهت و كان يجيبني بالنفي لكنه يشجعني بالقول أن البريد يتأخر كثيرا و لم تصل الرسالة بعد... و عندما تصل سوف تنتهي الحرب...
و انتهت الحرب بعد شهور... بدون تفاصيل لا يمكن لطفل أن يفهمها... المفهوم الوحيد أن الحرب قد انتهت.. و كنت سعيدا جدا لأنني ساهمت بانتهاء الحرب لأنني قلت لريمي بندلي أن تذهب إلى الـ" عمو اللي عندو مسدس" و تقول له أن يوقف الحرب لأنها لا تريدها بل تريد السلام...
وجدت الرسم بعد سنين في عيادة أبي ضمن ألبوم يضم صورنا العائلية... و تذكرت و أبي تجربتي كصانع للسلام و نحن نضحك و نستذكر براءة الطفولة, و اعترف لي أبي أنه طلب مني الرسم كي يرتاح من أسئلتي ساعة أو ساعتين لأنه كان متعبا جدا و يعاني من الصداع... و أتذكر بعد الضحك دمعات صغيرة في عيون أبي...
ما زال الرسم عند أبي يحتفظ به كاحتفاظه بساعة جدي القديمة... و أنا ما زلت أحتفظ بذكراه... و رغم مرور عشرين عام تقريبا... و رغم كل التوازنات السياسية و الدولية و النفوذات و الصراعات... رغم كل شيء... أحيانا أرمي كل هذه الأمور و المفاهيم السياسية و الإستراتيجية ..في قمامة أفكاري...و أعود إلى براءة طفولة الأعوام الأربع... و أقنع نفسي من جديد... أن ريمي بندلي هي من أنهى حرب لبنان...
Yass
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
هكذا كانت تبدأ أغنية الطفلة اللبنانية الشهيرة, التي كان صوتها أشبه بنشيد طفولة جيل كامل.. جيل مواليد أواسط الثمانينات من القرن الماضي.. كنا نسمعها بشكل شبه إجباري, أيام القناة السورية الوحيدة و برامج الأطفال الساعة الرابعة و نصف.. و ما أجمل هذا الإجبار..
كنا نسمعها في رياض الأطفال, في المدارس, في البيت... حيث هناك أطفال و جهاز ستريو.. تسمع ريمي بندلي تغني..
هذا الأغنية بالذات لها عندي ذكرى قوية الحفر في ذهني...
كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري عندما كانت هذه الأغنية تعرض يوميا تقريبا على شاشة التلفزيون السوري.. سمعتها عددا لا نهائيا من المرات حتى حفظتها عن ظهر قلب... بدون فهم أغلب الكلام غالبا..
مع هذه الأغنية بدء تفكيري حول الحرب.. و حول السلام..
في آخر سنين الحرب الأهلية اللبنانية, و لاعتبارات خاصة بالتوزيع الإداري لأبناء المحافظات في خدمة العلم على مختلف ألوية الجيش السوري, فقد كان هناك الكثيرون من أبناء مدينة الرقة في لبنان يقضون فترة خدمة العلم.. و منهم ابن عمي و ابن عمتي في تلك الفترة, و لذلك كانت أخبار لبنان مهمة للغاية في وسطي العائلي..
كنت أسمع كلمة حرب, اطلاق نار, شهيد, جريح... و من هذه المصطلحات غير الطفولية البتة...
في تلك الأيام... كان أبي قد عاهد نفسه بعد انتهاء فترة خدمة العلم أن يقضي معي و مع أخوتي الاثنين (لم تكن الصغيرة قد ولدت بعد) وقتا أطول.. كونه أضاع جزءا من طفولتنا في مشفى حرستا العسكري.. و لذلك كان من المعتاد أن يقضي فترة العصر يلعب معنا و يحادثنا و يعلمنا بعض الأشياء.. و كنت أطرح الأسئلة الكثيرة و يحاول هو الإجابة عليها بطريقة يفهمها ابن السنين الأربع...
و في يوم جمعة (أذكر أنه يوم جمعة لأن جدتي –رحمها الله- كانت عندنا للغداء) سألت أبي عن معنى كلمة حرب.. فأخبرني أن الحرب هي أمر بشع جدا.. هي حالة يتعارك فيها الناس لسبب معين و يموت فيها ناس كثيرون بدون ذنب.. و أنها أمر كريه و بغيض جدا... و عكسها كلمة سلام.. و هي السعادة و الهناء و الحياة... و هناك حرب في لبنان و في فلسطين... فسألته: لبنان حيث عبد الله ابن عميمة و ريمي بندلي و أمها فيروز؟ (في تلك الفترة كنت مقتنعا جدا أنه إذا كانت ريمي بندلي طفلة لبنانية و فيروز سيدة لبنانية, فإن ريمي بندلي هي ابنة فيروز... سذاجة طفل..) فأجابني بنعم..
جلست أفكر مطولا في الأمر.. حيث أنني طيلة فترة طفولتي كنت أشرد لدقائق طويلة جدا وحدي أفكر في أمر ما .. حتى أن أهلي فكروا جديا بعرضي على طبيب نفساني... و فكرت أنه اذا كان هناك حرب في لبنان.. و في لبنان يموت ناس و أطفال .. فإن هذا أمر سيء جدا.. و ريمي بندلي في خطر... و تذكرت أيضا أن ريمي بندلي تقول في أغنيتها:"يا رب يظل السلام ساكن حد بيوتنا"... إذا ريمي بندلي تريد السلام, الذي تعلمت منذ قليل أنه عكس الحرب و أنه شيء جميل..
صار عند ابن السنوات الأربع معضلة جديدة: اذا كانت ريمي بندلي تريد السلام.. فلماذا لا تحققه؟ إنها "تطلع عالتلفزيون" و بالتالي يجب أن تكون قوية و قادرة على كل شيء لأن الذين يظهرون على التلفزيون هم ناس مهمون جدا و يستطيعون فعل أي شيء... فعدت إلى مستشاري الفكري الخاص... أبي.. سألته عن هذا فأجابني أنها ربما لم تذهب للحديث مع المتعاركين لتقنعهم, و اقترح علي أن نكتب لها رسالة كي ندعوها للذهاب و الحديث معهم (مع أمها فيروز) .. و قال لي أن أرسم شيئا جميلا على ورقة ثم أعطيه إياها ليكتب على خلفيتها الرسالة و يرسلها بالبريد إلى لبنان..
رسمت جبلا أخضر و شجرة أكبر من الجبل و بيت صغير و طفل بحجم البيت و نهر و بقرة و شمس و غيوم و سياج خشب.. و أعطيت الرسم لأبي لكي يكتب خلفه الرسالة و يذهب لإرسالها للبريد...
تأخر تأثير رسالتي أكثر من سنة و نصف... كنت أسأل أبي دائما إن كانت الحرب قد انتهت و كان يجيبني بالنفي لكنه يشجعني بالقول أن البريد يتأخر كثيرا و لم تصل الرسالة بعد... و عندما تصل سوف تنتهي الحرب...
و انتهت الحرب بعد شهور... بدون تفاصيل لا يمكن لطفل أن يفهمها... المفهوم الوحيد أن الحرب قد انتهت.. و كنت سعيدا جدا لأنني ساهمت بانتهاء الحرب لأنني قلت لريمي بندلي أن تذهب إلى الـ" عمو اللي عندو مسدس" و تقول له أن يوقف الحرب لأنها لا تريدها بل تريد السلام...
وجدت الرسم بعد سنين في عيادة أبي ضمن ألبوم يضم صورنا العائلية... و تذكرت و أبي تجربتي كصانع للسلام و نحن نضحك و نستذكر براءة الطفولة, و اعترف لي أبي أنه طلب مني الرسم كي يرتاح من أسئلتي ساعة أو ساعتين لأنه كان متعبا جدا و يعاني من الصداع... و أتذكر بعد الضحك دمعات صغيرة في عيون أبي...
ما زال الرسم عند أبي يحتفظ به كاحتفاظه بساعة جدي القديمة... و أنا ما زلت أحتفظ بذكراه... و رغم مرور عشرين عام تقريبا... و رغم كل التوازنات السياسية و الدولية و النفوذات و الصراعات... رغم كل شيء... أحيانا أرمي كل هذه الأمور و المفاهيم السياسية و الإستراتيجية ..في قمامة أفكاري...و أعود إلى براءة طفولة الأعوام الأربع... و أقنع نفسي من جديد... أن ريمي بندلي هي من أنهى حرب لبنان...
Yass
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////