-
دخول

عرض كامل الموضوع : ومرَّت خمس عجاف أخرى


حسون
11/08/2005, 17:36
تشير معظم الأمور التي تجري في سوريا الآن إلى أن حقبة الاستنقاع لا تزال متواصلة فيها. ومعظم يافطات الحقبة المستمرة منذ حوالي أربعة عقود لا تزال تصدم العين في كل مكان...ويتأكد لدى السوريين يوماً عن يوم أن غياب الأشخاص أو تغييبهم لا يغير كثيراً في الأوضاع السائدة... وضمن هذا النحو يبدو أيضاً أن عمر شخوص الطبقة الحاكمة واستبدال حرسٍ قديم بحرسٍ جديد، لا يسهم كثيراً في تغيير ما هو مهترىءٍ وبالٍ وفاسد في المجتمع، إذا لم تتغير الأفكار حول علاقات السلطة بالمجتمع، وحول علاقات الدولة بمؤسسات المجتمع المدني، وحول دور الحزب السياسي في المجتمع والدولة، وحول موقع الأجهزة الأمنية من الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وموقع هذه الأجهزة من السياسة والاقتصاد. وفي الواقع إذا أردنا أن نتكلم على فرق بين حقبة الرئيس الأب وحقبة الرئيس الابن، فهو في الحقبة الثانية يتعلق على المستوى الداخلي بمزيد من الفكفكة والتمزق في النسيج الاجتماعي والتنويعة السكانية، وعلى المستوى الخارجي بمزيد من العزلة التي راحت تحيط بسوريا يوماً عن يوم عربيا ودولياً. ولقد جاء المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم ليؤكد بشكلٍ جلي و شديد الوضوح على التمسك بكل تقاليد وعلاقات المرحلة السابقة والمراوحة في المكان رغم اختلاف الزمان.




ولقد قامت السلطة على هامش انعقاد المؤتمر بممارسات وإجراءات، كلها كانت تؤشر إلى هدمِ آمالٍ قد بناها البعض، وإلى حقائق لا توحي بانفتاح على الشعب والمجتمع. وكان إدخال الحزب السوري القومي الاجتماعي(عصام المحايري) إلى الجبهة الوطنية التقدمية من أولى هذه المؤشرات، وفي الواقع لم يكن توقيت هذا الإدخال مجرد صدفة، بل كان رسالةً فحواها إحياء رميم الجبهة الوطنية التقدمية وتأكيداً على وجهة نظر النظام، أنها الصيغة المفضلة والمقبولة لديه بالنسبة إلى ممارسة العمل السياسي في سورية، والصيغة المجربة والناجحة من أجل بقاء أي حزب سياسي ينضوي في إطارها لا يتعدى دوره الدور السياسي التزييني، ومحرم عليه حتى تقديم الاقتراحات والنصائح من حليف ثانوي إلى حليف رئيسي.

والحدث الآخر الذي قامت به السلطات الأمنية السورية على هامش انعقاد المؤتمر العاشر لحزب البعث يتعلق بمنتدى (جمال الأتاسي)؛ هذه النافذة الصغيرة والمتواضعة، التي تغنى بها يوماً الرئيس السوري أمام الصحافة العالمية كدلالة على حرية التعبير في سورية، ينصب عليها غضب السلطة دفعة واحدة، فيعتقل أحد أعضاء لجنتها الإدارية الكاتب والناشط السياسي وعضو لجان إحياء المجتمع المدني علي العبدالله، وبعد أيام تعتقل لجنة المنتدى بكاملها ويفرج عنها بعد عدة أيام لما أحدث هذا الاعتقال من استنكار وإدانة في داخل سورية وفي العالم العربي والأوساط الدولية، ومن ثم لجأت هذه السلطات إلى إغلاق المنتدى نهائيا وتحول هذا المنتدى بقدرة قادر في نظر النظام من بقعة ضوء وفسحة للتعبير إلى شبيه لمنظمة القاعدة!!!! كم كانت تشكل خطراً على النظام وحزب البعث بقعة الضوء هذه التي أسست باسم أحد أهم الأعضاء المؤسسين لحزب البعث العربي الاشتراكي.

وعلى هامش المؤتمر كانت هنالك اعتقالات لناشطين سياسيين وناشطين في مجال حقوق الإنسان من مختلف التيارات والاتجاهات مثل (محمد رعدون رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان ) وبعضهم كان معتقلاً سابقاً في حملة ربيع دمشق في عام 2001 (حبيب صالح)، وأحدهم كان يحمل أعداداً من نشرة الموقف الديمقراطي التي يصدرها التجمع الوطني الديمقراطي المعارض(حسن زينو) وآخر كان قد شارك في تأبين العالم الإسلامي المتنور معشوق الخزنوي الذي صفي جسدياً في نفس الفترة الزمنية في ظروف غامضة(رياض درار(.....

وأما في داخل المؤتمر فكل التسريبات الإعلامية من داخله تتكلم على عدم إجراء انتخابات وعدم وجود غرفة سرية وعمليات فرز وأن قائمة أسماء القيادة الجديدة عرضت على المؤتمرين للموافقة فقط. والتناقض الكبير هنا أن من يعطي لنفسه الحق في إدارة الدولة والمجتمع ويلقي الوعود بمزيد من المشاركة السياسية لا يقيم أدنى حدٍ للديمقراطية في داخله.

ما جرى على هامش المؤتمر من ممارسات سلطوية في المجتمع السوري، يضع شكوكاً هائلة حول مصداقية التوصيات التي صدرت في البيان الختامي والتي تتعلق بالمشاركة السياسية وقانونٍ للأحزاب وقانونٍ للمطبوعات ودراسةٍ لحالة الطوارئ، المعلنة في سوريا من قبل(مجلس قيادة الثورة) منذ 8 أذار عام 1963 وغير المقرة شرعياً من أي (مجلس للشعب) منذ ذلك التاريخ.

وهذه الشكوك الهائلة عبر عنها الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين السوريين والعرب والأجانب. فيقول (بيير بريار) في الفيغارو: " يشك معظم السوريين وبشكل كبير أن يكون للمؤتمر القوة أو القدرة لكي يواجه المصدر الحقيقي للمآسي الوطنية وهو: استئثار أجهزة الأمن بالسياسة والاقتصاد، بالشراكة مع النواة الصلبة حول عائلة الرئيس". ويقول الخبير الاقتصادي السوري سمير العيطة: "الدولة ضعيفة أمام أجهزة الأمن والقصر" ثم يضيف فيقول: "أن مجتمع الأعمال يطالب بتكافؤ الفرص وبعلاقات جيدة مع الخارج ووضوح في السياسات الاقتصادية". ويقول الصحفي الصديق لسوريا باتريك سيل: " يظهر الانطباع العام جواً من السطو وغياب القانون مع أجهزة مخابرات تعمل على سجيتها لا يستطيع الرئيس أو لا يتمكن من ضبطها". وفي السياق نفسه تقول المحللة السياسية مروى داوودي: " إن الإصلاحات السياسية ضرورية، وأنه يجب مواجهة مشكلة الفساد وإنهاء تسلط أجهزة الأمن على الدولة".

وإذا نزلنا إلى مستوى الوضع الداخلي العام في سورية نرى في الفترة الأخيرة أن ما يثير القلق الشديد تفاقم التفكك في النسيج الاجتماعي الذي راح يعبر عن نفسه بمظاهر من العنف والمشاجرات الواسعة غير العادية، و لم تقتصر على أحداث القامشلي التي جرت في العام الماضي على اثر مباراة لكرة القدم، والتي أدت إلى اشتباكات عنيفة ودموية على أساس قومي بين أكراد وعرب، وإنما أخذت تتناول مناطق أخرى كما جرى في منطقة عفرين، وكما جرى في الربيع الماضي من مشاجرات واشتباكات في مدينة مصياف اتخذت طابعاً شخصياً في البداية ومن ثم اتخذت طابعاً طائفياً، وما جرى من شجار دموي في قرية كفر نبل في محافظة إدلب، وأخيراً كانت الأحداث الدامية والخطيرة التي انتهت بخسائر مادية كبيرة في مدينة القدموس. وهذه الأحداث لا يمكن فصلها عن الوضع السياسي السائد في سوريا الذي يقوم بتعميق الفجوة يوماً عن يوماً بين القمة والقاع الاجتماعي. ويتوضح لدينا المشهد الداخلي السوري إذا عرفنا أنه يوجد 5.3 مليون فقير من السوريين وهم يشكلون 30 في المائة من السكان، بينهم مليون شخص لا يتمكنون من الحصول على الحاجات الأساسية من الغذاء وغيره " وأن 60% منهم من أهالي المناطق الشمالية الشرقية"؛ ولقد ارتفعت اللامساواة في سوريا بين عامي 1997-2004 إلى حدود كبيرة ويستهلك حوالي 20% من السكان الأكثر ثراءً حوالي 45% من الإنفاق، وهذا يتزامن مع أخبار الثروات الطائلة بالملايين والمليارات التي جناها كبار رموز السلطة، وأما بالنسبة للبطالة الحقيقية فهي أكثر من 30%..

وعلى مستوى العلاقات الخارجية لا يبدو المشهد أفضل حالاً فالعزلة تتفاقم من حولنا والأمر لا يتعلق فقط بسياسة الولايات المتحدة إزاء سوريا وإنما بالاتحاد الأوربي بشكل كامل، وفي هذا الإطار يعرب السفير السوري في لندن عن تشاؤمه حيال احتمال توقيع اتفاق الشراكة السورية الأوربية خلال الرئاسة البريطانية للاتحاد، وخاصة أن الولايات المتحدة طلبت من أوربا تأخير التوقيع الرسمي للشراكة، وكذلك الحال بالنسبة للعلاقات بين سوريا والدول العربية فهي ليست في أحسن حالها؛ وخاصة العلاقات مع لبنان التي انخفضت إلى درك كبير ووصلت إلى حال من الحصار والقطيعة. والنظام في سوريا رغم كل ما جرى لا يزال يرى في العلاقة اللبنانية السورية أنها محكومة باتجاهين لا ثالث لهما: إما السيطرة السورية الكاملة على لبنان أو القطيعة الكاملة معه، وهو مصر ألا يفسح في المجال لخيار ثالث يقوم على التكافؤ والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

إن الاستعصاء في المشهد السوري يكمن في أن النظام القائم يضع مصالحه كطبقة حاكمة قبل مصالح الدولة والوطن، ولذلك فهو لا يقيم أي وزن للتغيير السياسي الذي هو مفتاح هذا الاستعصاء، فيرهن على الدوام علاقاته الخارجية بمقايضات تضمن له عدم الاقتراب من هذا التغيير السياسي...... ولذلك يبقى دخول الدب الخارجي إلى الكرم يقع على مسؤوليته هو، أي على عاتق من يبذل المستحيل ويستميت من أجل تأبيد معادلة هذا الاستعصاء القائمة على تفكيك أي محاولة لإعادة السياسة إلى المجتمع وبناء أي ميدان للنقاش العام بين المجتمع المدني والدولة الذي يعتبر من أهم عوامل قوة الدولة الحديثة.

"نشرة الرأي 44"