-
دخول

عرض كامل الموضوع : تأملات حرة


tiger
06/06/2008, 21:52
أحبُّوا وفكِّروا في حريَّة، واتركوا ما تبقَّى لله.
ڤكتور هوغو، "أشياء مرئية" (1877)



حين لا تكون الحقيقة حرَّة لا تكون الحريَّة حقيقية.
جاك پريڤير، "مشاهد"


وأجدني هذه الأيام التي يبدو فيها وكأن الجهالة على وشك أن تسيطر على عوالمنا – وأنا هنا لا أفكر فقط في العوالم المحيطة بنا، في العراق ولبنان وغزة، بل وفي...
مدننا التي يسودها التفكيرُ المزدوج والكلامُ المزدوج...
في مدينتي، وفي مدن أخرى تشبهها، مدينتي الكئيبة، حيث لا يجوز لنا التعبيرُ إلا ضمن أُطُرٍ يحدِّدها العسس، مدينتي الجميلة بطبيعتها وطيبة ناسها، التي تستوعب حتى العسس، مدينتي التي لم أحببْها يومًا كما أحبها اليوم... –
أجدني – أقول – أحلم، متفكرًا في حالي وفي حالها، وكتحصيل حاصل، في أحوالكم، يا أبناء بلادي...
لأنني، وإنْ كنت، مثلكم، سجينًا بجسدي ضمن إطار مدينتنا، – التي قد تبدو اليوم رمادية! – مقيدًا بشرائعها، فإني لم أشعر بنفسي يومًا أكثر حرية مما أنا عليه الآن، تفكيرًا وقلبًا وضميرًا.

وأتساءل عن "هويتي"، وإلى أيِّ تيار أنتمي؟ وسبب تساؤلي هو أني لم أعد أشعر بالانتماء المطلق لأيٍّ من الهويات المعلَنة، ولا لأيِّ تيار من التيارات السائدة، ولا لأيِّ حزب من الأحزاب، المرخَّص منها وغير المرخَّص؛ كما أني لم أعد أشعر بنفسي مقيدًا بأية شريعة من الشرائع، ولا بأيِّ دين من الأديان التي أحترمها كلَّها.

لأني، وإنْ كنت مصنَّفًا ومسجلاً كتابع لدين من أديان هذه المدينة وأحمل هويته "الرسمية"، فإني لم أعد مؤمنًا إلاَّ بما يتضمَّنه جميعُ الأديان والشرائع والهويات من مبادئ مشتركة تجمع بين البشر وتسعى إلى ما تراه حقيقةً ساميةً توحِّد بين الجميع، حقيقة أساسها ومنطلقها وغاية سُؤلها محبة وكرامة الإنسان والبهيمة والبيئة والطبيعة.

فقد أصبحت أخاف من ذلك الجانب العدواني المميز والقاتل لهوياتنا المعلَنة وعقائدنا المفترَضة – ذلك الجانب الذي يضعني في مواجهة الجوانب العدوانية والقاتلة لهويات وعقائد أخرى، فيجعلها تبدو وكأنها تصارعني، كما أبدو وكأني أصارعها، بينما المشترك فيما بيننا جميعًا يبقى واقع أننا بشر، نسعى لأن نعيش في سلام على هذه الأرض التي بوسعها استيعابنا كلَّنا، مهما اختلفتْ تلاوينُنا، كما تستوعب سوانا من الكائنات.


وأحاول أن أصنِّف نفسي تصنيفًا أكثر تحديدًا، فأتجاوز إطار هذه المدينة التي أحب، فأجدني أقرب، من حيث القناعة والضمير، إلى أولئك الذين، على مرِّ العصور، تخلَّوا عن "الحقائق الأزلية" لمجتمعاتهم وشرائعهم وما تدَّعيه من قيم، فرفضوا جانبها العقائدي المنبثق من منطق السلطة، ولم يعتقدوا إلاَّ بما تُمليه عليهم ضمائرُهم وتقتنع به عقولُهم الحرة؛ أولئك القلَّة بين القلَّة الذين كانوا أحرارًا على مرِّ العصور، ففكروا وحلَّلوا، ولم يلتزموا، في آخر المطاف، إلاَّ بقناعاتهم وضمائرهم؛ أولئك "المفكرين الأحرار"، كما كانوا يُدعَون.
مفكرًا وحرًّا – هذا ما أسعى اليوم لأن أكون.
أن نكون أحرارًا وأن نفكر – هذا ما أسعى لإقناعكم به، يا أبناء مدينتي.

لأنه ما أحوجنا اليوم إلى حرية التفكير والالتزام، ما أحوجنا إلى أناس

[...] يتفكَّرون، منطلقين في الرحلة الكبرى، رحلة استكشاف محتويات وعيهم وجذور ألمهم، مسترشدين بمكتشفات الآخرين حينًا، متجاهلينها أحيانًا، مناقشين المذاهب كلَّها، والمحرَّمات كلَّها، والمقدسات كلَّها، والأنبياء والمعلِّمين كلَّهم، ضاربين عرض الحائط بالوصفات الجاهزة جميعًا، السياسية منها والفلسفية والأخلاقية والدينية، غير مكتفين بـ"الحقائق" الممضوغة والمستهلَكة، رافضين كلَّ سلطة – ماخلا سلطة الروح، معتذرين عن ممارسة أية سلطة – ماعدا سلطة الضمير الحي. هذه الحفنة من "المساكين"، الموسومين غالبًا بالجنون، [الذين هم] "ملح الأرض"، [و]خميرة عالم جديد، عالم بلا حدود، بلا مصالح، بلا طبقات، بلا عنصريات، بلا قوميات، بلا مذاهب، بلا تحزُّبات، عالم خالٍ من العنف، تبلغ فيه الإنسانيةُ سنَّ رشدها.

ما أحوجنا إلى أناس يتمتعون بأخلاقيات عالية ليست

[...] مستمَدة تمامًا من الماضي، ولا من عاداته وتقاليده ومفاهيمه وقوانينه، ولا من أديانه حتى، – وإنْ كانت هذه جميعًا تتجسد حتمًا في بعضٍ كثيرٍ منه، – بل هي كانت، وستبقى، ذلك المثل الأعلى الذي يتطور متصاعدًا ويسعى إليه البشرُ من خلال تفهُّمهم الصحيح لما هو مفيد لهم ولحياتهم.


وأتساءل هنا: أمؤمن أنا يا ترى أم ملحد؟ أتساءل في قلق، وأجدني أتوصل إلى قناعة مفادها أن لا أهمية لهذا التساؤل على الإطلاق! – لأن الأهم من أن نكون "مؤمنين" أو "ملحدين" هي الطريقة التي نمارس بها إيماننا أو عدم إيماننا؛ لأن الأهم من هذا كلِّه هو القلق الدائم الذي يتملَّكنا أمام ما تطرحه الحياةُ علينا من تساؤلات وتحديات؛ هذا القلق الذي لا نستطيع إلغاءه والذي هو وليد الفكر والقلب معًا؛ هذا القلق الذي أصبحت مقتنعًا اليوم بأنه أهم ما ينبغي لنا الحفاظ عليه في آخر المطاف.
لأنه، على الرغم من كون التفكير مخاطرةً في حدِّ ذاته، – وهذه حقيقة ليس بوسع أحدٍ إنكارُها! – فإن عدم التفكير موت للحياة، إن لم نقل إنه رفض لها؛ ورفض الحياة خطيئة لا تُغتفَر! فقد خُلقنا لكي نحيا: كل شيء يدعونا إلى الحياة، وكتحصيل حاصل، كل شيء يدعونا إلى التفكير وإلى التأمل.

وأتساءل: هل جيد يا ترى مشهد تلك الأعداد الغفيرة من "المؤمنين" في مدينتي؟ لأنني أشعر بغُصَّة حين أنظر إلى أشكالهم وأتفكَّر في خنوعهم؛ لأنني أشعر بالحزن حين أتأمل كيف يؤدون، بكلِّ ورع، فرائضهم وصلواتهم؛ لأن السؤال الذي يراودني حين أنظر إليهم هو: هل مازالت نفوسُهم حيَّة؟ وكيف يمكن لها أن تكون حيَّة تلك النفوس التي ترفض الشك ولا تعرف معنى القلق؟! وأجدني أشعر بالمرارة نفسها حين أتأمل، في المقابل، فيمَن يواجههم من "ملحدين"، فأصطدم بالتساؤلات نفسها.
وأتساءل أيضًا: كيف بوسعنا مواجهة هذا الخنوع و/أو هذا التمرد الزائف يا ترى، وكيف يمكن لنا التعامل معهما؟
وأتساءل أيضًا وأيضًا: ...


ألم يئن الأوان لكي يخرج من الظل ذلك الإنسانُ القلقُ والمتسائل؟
ذلك الإنسان الذي أتخيله عاديًّا، وليس بطلاً على الإطلاق: إنسان يعرف مدينته ويتفهم سواها؛ إنسان لا يؤرقه ماضيه ولا يجد تناقضًا بين المنطق وبين المشاعر؛ إنسان ينهل من الينابيع كلِّها ويتذوق الحقائق كلَّها؛ وخاصةً – نعم خاصة – إنسان يرفض السهولة.

وأتخيله جامعًا في الوقت نفسه بين الجد وبين الخفَّة: جِدِّي، قطعًا نعم، لأن ما نواجهه من مشكلات يتطلب ذلك؛ جِدِّي لأن الأرض تتألم ولأن غضب البشر والطبيعة يتصاعد؛ ولكنه أيضًا، بالقدر نفسه، قادر على التحلِّي بتلك الخفَّة الجميلة التي من دونها يصبح الجِدُّ لا يطاق.

وأتخيله حكيمًا حين يلزم حينًا، ويرتكب، أحيانًا، بعض الحماقات، أيضًا حين يلزم؛ إنسانًا بوسعه أن يحيا، في الوقت نفسه، بين إخوانه وأن يكون وحيدًا؛ إنسانًا يشعر بالسكينة حين ينام، وبالقلق حين يستيقظ؛ إنسانًا بوسعه الانتباه والحضور والمثابرة و... الضحك...
شاعرًا كأكبر الشعراء في قلبه، وموسيقيًّا يتحسَّس النغم...
صاحب كلمة يبذل في سبيلها حياته، وقادرًا على الصمت حين يتكلَّم...
أراه، بكلِّ بساطة، إنسانًا حرًّا، يفكر ويحب، يفرح ويتألم...


اكرم انطاكي