-
دخول

عرض كامل الموضوع : ذئب البراري . . هرمان هيسه


dot
29/05/2008, 22:21
كنت أجلس مترقباً في غرفة ( قروسطية )، لم أكن أعرف في البداية سوى أنني أنتظر الإذن بالدخول على شخص مرموق، ثم تذكرت أن هذا الشخصَ ليس إلا السيد ( دي غوتة ) للأسف لم أكن هنا بصفة شخصية ولكن بوصفي مراسلاً صحفياً لمجلة ما. وكنت قلقاً جداً، ماذا جئت أفعل في هذه القلعة؟ إضافة إلى ذلك كنت عرضةً للتحرّش من قبل عقرب اكتشفت للتوّ أنه يصعد يمشي على ساقي صاعداً إلى أعلى حاولت التخلصَ منه بتحريك ساقي، ولكني لم أدرِ أين انزلق، ولم أجرؤ على وضع يدي في أي مكان.
زدْ على ذلك أنني لم أكن متأكداً إذا ما كنتُ - فعلا - أنتظر الإذن بالدخول على ) ماتيسون ( بدلا من السيد ( غوتة ) الذي كنت - في الحلم – أخلط بينه وبين (بورجر) ذلك أنني أنسب إليه " قصائد إلى موللي".
في الحقيقة، مقابلة مع (موللي) تروق لي أكثر، أتخيّلها رائعةً، رقيقة، ممشوقة، ليليّة. لو لم أكن هنا من أجل المجلّة! لكان توتري يتصاعد منصبَّاً شيئاً فشيئاً على ( غوتة ) حيث وجدتني أنسب إليه كل العيوب والنقائص الممكنة. أما العقرب - رغم أنه خطر ومختبئ قربي، لم يكن الشرير الذي توقعته أن يكون من طينة طيبة. بل أعتقد أن له أشياء مشتركة مع ( موللي )، كأن يكون رسولاً منها، أو تعويذةً جميلة شريرة للأنوثة والخطيئة ... لكنّ موظفاً فتح الباب على مصراعيه، فوقفت ودخلت.
كان العجوز ( غوتة ) واقفاً، كان قصيراً عابساً دون عداوة، يلمع على صدره وسام فخريّ على شكل نجمة مشعّة. يبدو كأنه مازالَ يسيّر العالم من أعلى متحفه ( بوايمر).
منذ أن لمحني، حرّك رأسه كغراب عجوز، وصاح عالياً:
" إذاً أنتم أيها الشبان، أظنّ أنكم لا تتفقون كثيراً معنا ومع جهودنا؟ " - تماماً ! قلت متجمِّداً بنظرته الوزارية: نحن الشباب لسنا متفقين معكم أيها السيد العجوز. أنتم تلمعون أكثر مما يجب، فخامتكم تبالغون في الأناقة والادعاء. وتبالغون في الابتعاد عن الصدق... وهذا هو المهم، أظن أنكم تبالغون في الابتعاد عن الصدق.
أحنى العجوز رأسه الصلبة قليلاً، وبينما تنفرج شفتاه القاسيتان - ذات التجاعيد الرسمية - عن ابتسامة رقيقة طفولية، دقّ قلبي بسرعة مفاجئة لأنني تذكرت لحظتها: "من تلك الأعالي يسقط ضوء الغروب"، وأن هذا الرجل وهذا الفم أنجبا تلك الأبيات. منذ تلك اللحظة أحسست أنني فقدت أسلحتي وحججي وأن بإمكاني أن أسجد تلقائيا أمامه. لكني ظللت واقفاً وسمعت فمه المتبسم يقول لي:
- هكذا! تتهمني بالنفاق إذن؟ ما هذه العبارات الضخمة؟ هل بإمكانك أن تشرح لي؟
- بكلّ سرور! مثل كل العقول الكبيرة، عرفت الريبة واليأس من الحياة الإنسانية: روعة اللحظة ونهايتها البائسة، استحالة الانطلاق نحو الآفاق الرحبة إلا عبر زنزانة اليوميّ المتكرّر، الحنين المحرق لمملكة الفكر ومقاومته الأبدية القاتلة للعطش المقدس، لبراءة الطبيعة، ذلك الهلع من أن تظل معلّقا في الفراغ والشك، وذلك اليقين من البقاء محكوماً بالزيادة والنقصان، بالمحاولة الأبدية، بالطريق المسدود للذة الخالصة في الهواية... باختصار، بكل الطرق المقطوعة، وبالجدران، وباليأس الحارق للإنسانية.
كل ذلك عرفته، سيادتكم، وقد صرّحت به مراتٍ عديدة، ورغم ذلك، وقياساً بحياتكم الخاصة، فقد سلكتم طريقاً معاكساً. وقد عرضت نفسك مثالاً للإيمانِ والتفاؤل، وأظهرت لنفسك وللآخرين أن لجهودنا الفكرية المضنية غاية ومعنى. لقد صممتَ أذنيك عن نداءات الهاوية السحيقة للنهاية وعن الصوت الحقيقي لليأس الصادق داخلك كما هو الحال في داخل ( كلايست ) و ( بيتهوفن ) وادّعيتم - أثناء عشرات السنين - حيازةَ مجموع المعارف والقيم وتصنيع الحروف وتوزيعها، كلّ سنواتك الطويلة الخرفة في ( وايمر )، وفي محاولة لتخليد اللحظات لم يكن في إمكانك سوى تحنيط الطبيعة وتلخيصها بقناع. هذا هو النفاق الذي نلومكم عليه.
مفكرا ينظر إليّ المستشارُ مباشرة في عينيّ، وفمُه دائم الابتسام، ثم وأمام دهشتي سألني:
- إذا كان الأمر كذلك " فالناي السحري " لموزارت تبدو لك كريهة جدّا؟ وقبل أن أجد الوقت للاحتجاج واصل: " الناي السحري "، تصور الحياة معزوفة خفيفة وتنشد أحاسيسَنا، الزائلة منها والخالدة المؤلهة، إنها لا تنتمي إلى السيد بيتهوفن لكنها تؤسّس للتفاؤل والإيمان.
- أعرف، أعرف، صحتُ مفزوعاً. الله وحده يعلم لماذا لجأت إلى " الناي السحري " بالذات، السنفونية التي أفضّلها على أي شيء في الوجود. لكن موزارت لم يعش حتى الثانية والتسعين. ولم يدّعِ مثلك، هذا التغليف الأنيق لحميمياته، لم يكن دعيّاً. لقد غنى سنفونيّاته الإلهية وعاش فقيراً ومات شاباً محتاجاً مغمورا.
كنت أختنق من ضيق التنفس، كان عليّ أن أقول آلاف الأشياء بعشر كلمات، وحبات العرق بدأت تنزّ من جبيني. تكلم ( غوتة ) بأريحيّة كبيرة قائلا: ً
- صحيح، أظن أنه خطأ لا يٌغتفر أني عشت حتى الثانية والتسعين. ولكني لم أتمتعْ بالقدر الذي تتصوّره. لقد أصبت: أعتقد أن مقاومة الموت، وإرادة الحياة غير المعقلنة، والجامحة، هي الدافع الذي يحرّك كلّ الناس المميّزين. ولكن، وبما أنه يجب أن نموت في النهاية، فقد أثبتّ ذلك يا صديقي الصغير، في الثانية والتسعين - باليقين نفسه - كما لو أني متّ مراهقاً. أريد أن أقول أيضا - دون أن أعلم إن كان هذا سيدعّم رأيي -: إنّ في طبيعتي الكثير من الطفولة، والكثير من الغرابة والرغبة في الترفيه، وحتى العبث. وقد أمضيت وقتاً طويلاً لأعرف أنه علينا أن نتوقف يوماً عن اللعب.
قال كلماته الأخيرة وهو يبتسم بمكرِ طفلٍ شقيّ. طالت قامته، واختفت هيئته الوقورة المصطنعة.
الجوّ حولنا مفعمٌ بموسيقى وأغاني غوطية . أسمع " زنبقة"( لموزارت ) و" وملأت الغابات والسفوح " (لشوبار). أصبح وجه ( غوتة ) شاباً وردياً ضاحكاً ومشابهاً كتوأم تارة لشوبار، وأخرى لموزارت. الوسام النجمة على صدره أصبح باقة من الجوزاء تتوسطها أقحوانة لامعة فرحة. رغم ذلك أحسّ بامتعاض، لأنّ العجوز تلاعب بأسئلتي واتهاماتي، لذلك كنت أنظر إليه بلومٍ ظاهر، ولكنه انحنى نحوي مقرّباً فمه الذي عاد إلى الطفولة الريانة، ووشوش في أذني:
- يا صغيري، إنك تتعامل مع العجوز ) غوتة ) بجدية مبالغ فيها! إنّ التعامل بجدية مع العجائز الموتى يلحق بهم الإهانة! نحن الخالدين نحب هذا. نفضل عليه الفذلكة. إن الجدية أيها الشاب، يا صديقي، تتولّد من التقدير الزائد للزمن. أنا أيضا كنت في الماضي أبالغ في تقدير الزمن، ولهذا كنت متشبثاً ببلوغ المائة. ولكنك تعلم أن الزمن لا وجود له في الأبدية. إن الأبدية ليست سوى لحظة - بالكاد - تكفي لطرفة.
في الواقع لم يعد ممكنا أن أكلمه بجدية: صار يقفز برشاقة الراقصين فرحاً بشكل طفوليّ: يلهو تارة بتحريك الأقحوانة داخل الوسام، وتارة بملابسه الرسمية. فكرت إن هذا الرجل لم يهمل على الأقل تعلّم الرقص. كان يرقص بإتقان يخطف الإعجاب. تذكرت عندها العقرب أو بالأحرى ( موللي ) وسألت ( غوتة ) أليست موللي هنا؟ انفجر بضحكة مدوية، واقترب من خزانته وفتح درجاً سحب منه مغلّفاً أنيقاً من الجلد الأسود، وفتحه وقرّبه منّي: على الجلد الداكن ترقد ساقٌ أنثوية، صغيرة ساحرة مستفزّة، متحرشة، ساق رائعة كاملة، الركبة مقوّسة قليلا، القدم ممدودة برشاقة راقصة باليه تنتهي بأرقّ أصابع يمكن تخيّلها.
مددت يدي لألمسَ الساق التي أخذت بها ولكني ما أن قرّبت إصبعين حتى خيّل إليّ أن اللعبة الصغيرة انكمشت حشمة، أو تحفّزت استعداء وشككت للحظة أنها العقرب.
أعتقد أن ( غوتة ) قد خمّن ما يجول بخاطري، خمّن هذا الشك العميق وهذا التصادم المدمّر بين الرغبة والخوف. وقرّب العقرب الرائعة من وجهي وهو يلاحظ - بفرح ظاهر -الرغبة الشبقة الجامحة وداخلي، ويرى رعدة الرعب تستبدّ بي. وأثناء لهوه بلذّتي، وبدقّ نواقيس الرعب في داخلي، عاد شيخاً ألفيّاً متحفيّاً طاعناً في شيخوخته، ووجه الشيخ الذاوي الذي يجلّله شعرٌ أبيض كالثلج يبتسم بعذوبة وبقوّة مدمّرة ، ترجع صداها بذاتها متبّلة بعبث عجوز عميق كهاوية...

ــــــــــــــــــــ
- ترجمة جمال الجلاصي/ تونس


مراجعة وتدقيق لغوي: فوزي غزلان /سوريا

* الترجمة، مقتطف لفصلٍ قصير من رواية " ذئب البراري" Le loup des steppes
La bibliothèque des chefs-d’œuvre 1996
والتي يستعدّ المترجم لنشرها.

- هيرمان هسه، الكاتب و الفيلسوف السويسري الشهير ذو الاصل الأماني ، الحاصل على جائزة نوبل للاداب عام 1946 عن روايته(لعبة الكريات الزجاجية)

نجووووووم
09/06/2008, 15:01
شكراا لك على هذا الموضوع الرائع والمفيد ,,