باشق مجروح
29/05/2008, 21:26
من يمنح الحرية؟
د.سعيد حارب
كاتب من الامارات
قبل زيارة رئيس وزراء دولة عربية إلى دولة عربية أخرى جاءه أهالي وأعيان إحدى القرى وطلبوا منه أن يتوسط لدى الدولة التي سيزورها لتخفيف الحكم على أحد أبنائهم المسجون هناك بسبب تهمة جنائية خطيرة وتقصير تلك المدة أو نقل السجين إلى بلده حتى يتمكن أهله من زيارته، فوعدهم خيراً، وقد وفى بوعده، فحين قابل مسؤول تلك الدولة طلب منه أن يحقق رغبة أهل المسجون، فقال له سأنظر بالموضوع، وفي صباح اليوم التالي كان ضابط برتبة كبيرة يقف أمام غرفة الضيف ومعه السجين، ويقول له: لقد صدرت الأوامر بالعفو عن «مسجونك»، فعقدت الدهشة لسان رئيس الوزراء، فلم يكن يعتقد أن «الكرم» سيصل إلى هذا الحد، فقد توقع أن يخفف الحكم عليه أو تتم الموافقة على نقله إلى بلده، لكنه عاد بالسجين معه على طائرة الرئاسة، وروى لمرافقيه تلك القصة ثم أردف قائلاً: أتعلمون.. إن المسألة جد خطيرة!! فالذي يستطيع أن يخرج إنساناً من السجن بكلمة.. يستطيع أن يدخل غيره بكلمة كذلك!!
لقد لخص هذا المسؤول العربي حال الحريات في بلاد العرب، بل كثير من بلاد الشرق، فالحرية ليست حقاً مكتسباً للإنسان تحفظه الأنظمة والقوانين، بل هو منحة يمتلكها شخص أو مجموعة أشخاص أو حزب، وهم الذين يسطرون القانون، ومن يملك القانون فله الحق في استخدامه كيفما شاء، ومن هنا يمكننا أن نفهم الخروقات التي تتعرض لها الحرية، إذ إن كافة التبريرات لا قيمة لها لوقف السيل الهائل من التقارير المحلية والدولية حول خرق حقوق الإنسان في البلاد العربية، إذ لا توجد سلطة قانونية في كثير من هذه البلاد، وإذا وجدت فهي لتسيير الشؤون العامة وللفصل في القضايا التي تحدث بين الناس، لكن هذا الفصل إنما هو رهين بيد السلطة العليا التي تعطيها بعض القوانين والدساتير لفرد واحد، إذ بإمكانه أن «يمسح» كل ما يفعله القضاء، فله الحق -وفقاً للدستور- بالعفو والأمر بالاعتقال والسجن والنفي، بل يصل الأمر إلى أن تتعارض تلك الأوامر مع الأحكام القضائية فتكون الغلبة للقرار وليس للحكم القضائي، وهذه أكبر المشكلات التي يعاني منها النظام القضائي العربي، بل يعاني منها الإنسان العربي الذي لا يثق بنظامه القضائي، وإذا وثق بالقضاة والمحاكم كمؤسسات فإنه لا يثق في ما بعد ذلك، لأنه يعلم أن حكم القضاء معلق بإرادة فرد إن شاء أمضاه وإن شاء أوقفه، فالذي يصدر حكم ببراءته يتم إعادة سجنه أو عدم الإفراج عنه إن كان موقوفاً، أو يعاد اعتقاله أو غير ذلك من وسائل حجز الحريات، والأسباب كثيرة وكلها مقنعة، ولا مانع هنا من وجود مؤسسات تشريعية تفصل القوانين والأنظمة كما هو مطلوب منها، وتقوم بتغيير الدساتير خلال جلسة واحدة لا تستمر أكثر من ساعة ليقف الجميع مصفقاً لهذا الإنجاز وهم لا يعلمون أنهم يصفقون لموت القانون وغياب الحرية، ثم يطلب من المواطن بعد ذلك أن يحترم القانون وهو الذي لا يحمل لهذا القانون أدنى تقدير واحترام، لأنه يعلم أنه ما وضع إلا لتقييد حريته، كما أنه لم يعلم عنه شيئاً إلا بعد صدوره في الجريدة الرسمية، ولذلك يحاول الإفلات منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهو يتهرب من الضرائب، ويختلس متى ما تيسر له ذلك، ويتلف المال العام متى ما غابت عنه أعين الرقيب، فهو ليس معنياً بهذا القانون ولا هو شريك فيه، لأن الذي وضع القانون لم يمثله ولم يختره كما يحدث في الدول الغربية حين يختار الناس ممثليهم بإرادتهم الحرة ليكونوا أعضاءً في البرلمانات يشرّعون -نيابةً عن الناس- قوانينهم وأنظمتهم ثم يعمل الجميع على تطبيقها، إذ يشعر الإنسان حينها أنه شريك في تشريع هذا القانون، وأنه مسؤول عنه وعن تطبيقه، وأن عليه واجب الاحترام، وحتى حين يقع في مخالفة تستدعي تطبيق القانون يعلم أنه يطبق قانوناً شارك في صنعه، لكنه في عالم العرب لا يعنيه شيء من ذلك؛ فالقانون يأتيه مفصلاً من سلطات لم يخترها، فكيف له أن يحترم هذا القانون أو يعمل على تطبيقه!
إن البحث في مشكلات حقوق الإنسان وتقاريرها في البلاد العربية سيبقى ناقصاً ما لم يتم البحث في أساس المشكلة، وهو من يملك الحرية، وهل هي منحة أم حق مكتسب، إن الواقع يشير إلى أنها مازالت في معظمها منحة يحصل عليها الإنسان مثلما يحصل على التعليم المجاني أو العلاج، ويمكن وقفها أو تضييقها متى ما شاء المانح ذلك، أو متى ما غضب على «الممنوح» فكما يملك المنح يملك المنع، والمطلوب في كل الأحوال أن تصبح الحرية وسيلة لكسب «التبعية» و«الولاء» للمانح، إذ بيده أن يغلق أبواب الحياة على «الممنوح» إذا هو خالف شرط «المنحة»، بل ربما سُحبت هذه «المنحة» وتحولت إلى «محنة» إذا زاد غضب «المانح» أو زاد عصيان «الممنوح»، إن واقعنا العربي مليء بالشواهد والأمثلة على ذلك، وهي أمثلة ربما لم تصل إلى تقارير حقوق الإنسان الدولية، لأنها تمارس دون ضوابط أو حتى مخالفات قانونية، فلكل شيء تشريعه ولكل شيء ثمنه، وقد انعكس هذا التصور على دور المواطن في كثير من الدول العربية، فهو لاينتج أو يعمل أو يطور من أجل خدمة الوطن أو أداء لواجب العمل، بل إرضاءً «للمانح» ويتوقف عطاؤه وجهده وفقا «للرضى» و«الغضب»، وهنا تسقط كل نظريات التنمية البشرية وتقدير الإنتاج ومكافأة المجد، لأن كل ذلك وسيلة للمحافظة على المكاسب التي حصل عليها الإنسان ويخشى ضياعها، لقد جاء والد عنترة بن شداد يطلب منه أن «يكر» مع القوم دفاعا عن القبيلة، فقال عنترة «إنما أنا عبد لا أعرف الكر ولكن أعرف الحلب والصر» فقال له والده: كر وأنت حر!! فأصبح عنترة الذي عرفه التاريخ، لقد غيرت كلمة الحرية عنترة لأنه يعلم أن المستعبد، أيا كانت صورة العبودية، لايمكن إلا أن يكون عبداً لمن يملك حريته، وأنه لا يستطيع القيام إلا بالأعمال الدنيا، أما عظائم الأعمال فلا يقوم بها إلا الأحرار!!
د.سعيد حارب
كاتب من الامارات
قبل زيارة رئيس وزراء دولة عربية إلى دولة عربية أخرى جاءه أهالي وأعيان إحدى القرى وطلبوا منه أن يتوسط لدى الدولة التي سيزورها لتخفيف الحكم على أحد أبنائهم المسجون هناك بسبب تهمة جنائية خطيرة وتقصير تلك المدة أو نقل السجين إلى بلده حتى يتمكن أهله من زيارته، فوعدهم خيراً، وقد وفى بوعده، فحين قابل مسؤول تلك الدولة طلب منه أن يحقق رغبة أهل المسجون، فقال له سأنظر بالموضوع، وفي صباح اليوم التالي كان ضابط برتبة كبيرة يقف أمام غرفة الضيف ومعه السجين، ويقول له: لقد صدرت الأوامر بالعفو عن «مسجونك»، فعقدت الدهشة لسان رئيس الوزراء، فلم يكن يعتقد أن «الكرم» سيصل إلى هذا الحد، فقد توقع أن يخفف الحكم عليه أو تتم الموافقة على نقله إلى بلده، لكنه عاد بالسجين معه على طائرة الرئاسة، وروى لمرافقيه تلك القصة ثم أردف قائلاً: أتعلمون.. إن المسألة جد خطيرة!! فالذي يستطيع أن يخرج إنساناً من السجن بكلمة.. يستطيع أن يدخل غيره بكلمة كذلك!!
لقد لخص هذا المسؤول العربي حال الحريات في بلاد العرب، بل كثير من بلاد الشرق، فالحرية ليست حقاً مكتسباً للإنسان تحفظه الأنظمة والقوانين، بل هو منحة يمتلكها شخص أو مجموعة أشخاص أو حزب، وهم الذين يسطرون القانون، ومن يملك القانون فله الحق في استخدامه كيفما شاء، ومن هنا يمكننا أن نفهم الخروقات التي تتعرض لها الحرية، إذ إن كافة التبريرات لا قيمة لها لوقف السيل الهائل من التقارير المحلية والدولية حول خرق حقوق الإنسان في البلاد العربية، إذ لا توجد سلطة قانونية في كثير من هذه البلاد، وإذا وجدت فهي لتسيير الشؤون العامة وللفصل في القضايا التي تحدث بين الناس، لكن هذا الفصل إنما هو رهين بيد السلطة العليا التي تعطيها بعض القوانين والدساتير لفرد واحد، إذ بإمكانه أن «يمسح» كل ما يفعله القضاء، فله الحق -وفقاً للدستور- بالعفو والأمر بالاعتقال والسجن والنفي، بل يصل الأمر إلى أن تتعارض تلك الأوامر مع الأحكام القضائية فتكون الغلبة للقرار وليس للحكم القضائي، وهذه أكبر المشكلات التي يعاني منها النظام القضائي العربي، بل يعاني منها الإنسان العربي الذي لا يثق بنظامه القضائي، وإذا وثق بالقضاة والمحاكم كمؤسسات فإنه لا يثق في ما بعد ذلك، لأنه يعلم أن حكم القضاء معلق بإرادة فرد إن شاء أمضاه وإن شاء أوقفه، فالذي يصدر حكم ببراءته يتم إعادة سجنه أو عدم الإفراج عنه إن كان موقوفاً، أو يعاد اعتقاله أو غير ذلك من وسائل حجز الحريات، والأسباب كثيرة وكلها مقنعة، ولا مانع هنا من وجود مؤسسات تشريعية تفصل القوانين والأنظمة كما هو مطلوب منها، وتقوم بتغيير الدساتير خلال جلسة واحدة لا تستمر أكثر من ساعة ليقف الجميع مصفقاً لهذا الإنجاز وهم لا يعلمون أنهم يصفقون لموت القانون وغياب الحرية، ثم يطلب من المواطن بعد ذلك أن يحترم القانون وهو الذي لا يحمل لهذا القانون أدنى تقدير واحترام، لأنه يعلم أنه ما وضع إلا لتقييد حريته، كما أنه لم يعلم عنه شيئاً إلا بعد صدوره في الجريدة الرسمية، ولذلك يحاول الإفلات منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهو يتهرب من الضرائب، ويختلس متى ما تيسر له ذلك، ويتلف المال العام متى ما غابت عنه أعين الرقيب، فهو ليس معنياً بهذا القانون ولا هو شريك فيه، لأن الذي وضع القانون لم يمثله ولم يختره كما يحدث في الدول الغربية حين يختار الناس ممثليهم بإرادتهم الحرة ليكونوا أعضاءً في البرلمانات يشرّعون -نيابةً عن الناس- قوانينهم وأنظمتهم ثم يعمل الجميع على تطبيقها، إذ يشعر الإنسان حينها أنه شريك في تشريع هذا القانون، وأنه مسؤول عنه وعن تطبيقه، وأن عليه واجب الاحترام، وحتى حين يقع في مخالفة تستدعي تطبيق القانون يعلم أنه يطبق قانوناً شارك في صنعه، لكنه في عالم العرب لا يعنيه شيء من ذلك؛ فالقانون يأتيه مفصلاً من سلطات لم يخترها، فكيف له أن يحترم هذا القانون أو يعمل على تطبيقه!
إن البحث في مشكلات حقوق الإنسان وتقاريرها في البلاد العربية سيبقى ناقصاً ما لم يتم البحث في أساس المشكلة، وهو من يملك الحرية، وهل هي منحة أم حق مكتسب، إن الواقع يشير إلى أنها مازالت في معظمها منحة يحصل عليها الإنسان مثلما يحصل على التعليم المجاني أو العلاج، ويمكن وقفها أو تضييقها متى ما شاء المانح ذلك، أو متى ما غضب على «الممنوح» فكما يملك المنح يملك المنع، والمطلوب في كل الأحوال أن تصبح الحرية وسيلة لكسب «التبعية» و«الولاء» للمانح، إذ بيده أن يغلق أبواب الحياة على «الممنوح» إذا هو خالف شرط «المنحة»، بل ربما سُحبت هذه «المنحة» وتحولت إلى «محنة» إذا زاد غضب «المانح» أو زاد عصيان «الممنوح»، إن واقعنا العربي مليء بالشواهد والأمثلة على ذلك، وهي أمثلة ربما لم تصل إلى تقارير حقوق الإنسان الدولية، لأنها تمارس دون ضوابط أو حتى مخالفات قانونية، فلكل شيء تشريعه ولكل شيء ثمنه، وقد انعكس هذا التصور على دور المواطن في كثير من الدول العربية، فهو لاينتج أو يعمل أو يطور من أجل خدمة الوطن أو أداء لواجب العمل، بل إرضاءً «للمانح» ويتوقف عطاؤه وجهده وفقا «للرضى» و«الغضب»، وهنا تسقط كل نظريات التنمية البشرية وتقدير الإنتاج ومكافأة المجد، لأن كل ذلك وسيلة للمحافظة على المكاسب التي حصل عليها الإنسان ويخشى ضياعها، لقد جاء والد عنترة بن شداد يطلب منه أن «يكر» مع القوم دفاعا عن القبيلة، فقال عنترة «إنما أنا عبد لا أعرف الكر ولكن أعرف الحلب والصر» فقال له والده: كر وأنت حر!! فأصبح عنترة الذي عرفه التاريخ، لقد غيرت كلمة الحرية عنترة لأنه يعلم أن المستعبد، أيا كانت صورة العبودية، لايمكن إلا أن يكون عبداً لمن يملك حريته، وأنه لا يستطيع القيام إلا بالأعمال الدنيا، أما عظائم الأعمال فلا يقوم بها إلا الأحرار!!