dot
16/05/2008, 00:06
بقلــم : علاء الدين كاتبــة
1
سِـفْـرُ الفـجـيـعـة
: تراءى ربُّ الأرباب نُهى في تلك الكوَّة، يركنُ إلى عمائه ذاويًا، وعلى فؤاده سَنةٌ من غيب. عينُه في البعيد بَدَتْ كنبع ساخن، تتَّقدُ ببعض حريق، ومن جوفه يعلو بخارٌ، يصَّعَّد إلى حلكة السماء، سادرًا وجهَ البحر بالسديم. يذَّكرُ العاشقُ الشقيُّ تارا، وكيفَ سباها من رجلها الوحشي. تارا العرَّافةُ الغانية، تلك التي تجدِّد النسائمُ ذبولاتِها كلما مرَّت. وهجُها النحاسيُّ الصلدُ يوقدُ في الناظرين إليها حُرقةَ البُعاد، وإن لاحَ بالرقص منها شهابٌ، شقَّ في الثنايا عينًا تصَّهدُ ببريقٍ، لا محالة سيخطف مَن رآه إلى العتمة.
زعموا أنها إحدى البنات اللاتي أنجبتهنَّ سرائرُ الأرض. وقيل إنَّها من طَلِّ الصحراء! أفاقت تعبرُ النداءَ بقدميها الحافيتين، فجرًا، صوب ريم البحر، تُسائلُ العابرين عن عاشق مجنون. تارا، الجنيَّةُ العاشقة، تارا الشريدة، سليلةُ النار ونَصْلِ الكهوف الغاربة، باتتْ حتَّى شروق الشمس تنتظر. وفي ليلةٍ داخَ بعبَقِها الريحُ، وانثال في حناياه الجَّرْس، أتى غريبُ اللسان أورو، يشقُّ طريقَه من خلف جبل. قالوا: هناك في الدغل مع الذئاب رأيناه يلهو، يقتتل وبني آوى، وجهَه العتيقَ تلفحُه السنونُ، ويغفو حالِمًا في الهجير كالغَرير. حَمَلَه الأريجُ إلى السفح حين جاب صدرَه توقُ الإشارة. صاحَ القلبُ: تارا... تارا... بلحنه مَضَتْ. وعن رأس العناق مع السماء هوى، بعينه لهفةُ الذئاب، ممتشقًا بخطْمه الهواءَ، يقدح بوطئه الترابُ الحَجَر.
ضمَّها في اللهاث، وعلى مرأى من السَّاهدين يسترقون من هذيها الغناء، على صدره حَنَتْ. ثمَّ بزنده الحديد شدَّ نهديها، وبالرُّعاش احترق. شقَّ طريقَ الفضَّة المتماوج في البدر على صفحة الماء، يطرقُ الجسدَ الطريَّ بالوتد. بين ذراعيه الوحشيتين، تارا كموجٍ صاخبٍ عَلَتْ، يهدر في قلبها الصخرُ، ومن صُلبه، القرينُ غرغرَ بالغواية الزَّبَد. ثم تارا، في الرجوع إلى نحرِه منها، الزفيرُ شَهَق. تارا دَنَتْ، وعلى صبِّ الأنين من عليائه ربُّ الأرباب عصفًا سَقَط.
هنا، عند هذا الجرف الصخري، لَمَحَها الربُّ بين ذراعَي الغريب تغتسلُ عاريةً في الضوء، وبالحليب النافر من أتون العشق للقرين، تارا في الأصداء سَرَتْ. أصابه، حين فخذُها لاح متلألئًا بالسهام مثلَ غريمه، العواءُ، فتأبَّد بومضةِ عشقٍ أطلقَها عليه طيشٌ. بيده قوسٌ يحمله البريدُ منذ الأبد، وبلمح الجنون الذريع في عينه الربُّ جَنَح، على موكبٍ أشرَعَ الريحَ أجنحةً، وفي عينها قد لَمَح.
تارا سُرقت: في أذن الوحشيِّ عَبَثَ الإله، فأنطق من جوفه الخرس، وعلى صوت الفجيعة صاحت النوارسُ، وذئابُ الليل للقرين عَوَتْ: نُهى اللعين سرق تارا! من حضن القرين تارا خُطفت. ذُهِلَ في أعشاشه الحمامُ نائحًا: لها كالغريم قد توحَّش. حوريات البحر أجهشت: تارا خُطفت! بين ذراعَي القرين كانت. ومن صوت النَّسر الذي جرح الريحَ بوطفِه، بلغَ العجائزَ الخبر. تضاحكن: كيف سرُّ الخلقِ الإلهَ سحر! وعند نهر المنيَّة مِلْنَ إلى همس الغروب: حَكَمَ الربُّ على نفسه بالغياب: في عشقِ تارا ربُّ الأرباب غاب.
أمَّا نُهى، فحمل تارا بين ذراعيه، ومحا خلفَه الأثر – بين ذراعيه حمل الإلهُ تارا. مسرنمةً جاءت، يشدُّها حبلٌ من الذهول، ينتحُ بشوكِه الروحَ عن البدن، يضمُّها إليه في الريح عنوةً، ومن هول العواصف الجائحة في الهزيم، بين ذراعَي الإله، هَوَتْ. على فرسه الفضيِّ حَمَلَها، فَعَلَتْ. يسابق بعَدْوِه الضوءَ، وإلى درب العماء المبثوث بين الأنواء شدَّ اللجام إليه. الطريقُ تناهى على وقع الخَبَب. تارا بخطف الجَنان رأتْ أقدامَها المرسومةَ على خطاه، فانتحت.
ربَّاتُ الخبايا في مساكنهنَّ أرسلنَ النَّدهةَ، فأنذرت: آهٍ، نُهى... من لوع الحريق إذا ناءَ في كَبَد. وقف الربُّ إجلالاً لعين الكحل التي بدت، وعلى قدميه خرَّ الإلهُ صريعًا، صريعًا على قدميه. ظهر اللوحُ الذي بيده نَحَتْ: ما جوى العشقُ قلبًا إلا أمرَه للمعشوق قلَب. اتركْ تارا... من عينها سال الدمعُ. سالا الرَّءومُ، بالسؤال عنها أغدقتْ. تارا الذبيحةُ، بجرحها أضحيتَ الذبيحَ الذي عنه الأقدارُ أخبرتْ. ها هو الوحشيُّ أورو، من صوته الخواءَ السماءُ أرعدتْ. عُدْ إلى الملك الذي رفعتَه بيديك، واترك تارا للقرين! هكذا النجومُ أمطرتْ. لكنه ألقى عنه التاجَ والصولجانَ، وفي عزمه مضى. علا سوطَ البريق، وعن الأكوان ذَهَب.
2
سِـفْـرُ النَّـذيـر
: مسكينٌ أنتَ، يا أورو! كيف على صخركَ رانَ جِلْبُ الشَّقاء! أورو... يا مَن تحجُّ إلى عرينه النساء، وعلى صرحه، إلى جرحِهنَّ يُدنين الدعاء. تارا الملتاعةُ، يا أورو... في التنهد منكَ سرقَ الربُّ النداء. تارا ومن عين الكحل المثمَّد بالوجاء أيقنت. أورو قلبُ تارا، وتارا في رقصهِ الرَّنيمِ سَنَتْ. سلبَها عند التداني نُهى. تارا ألَقُ الربِّ الدفين – فلا ولَهٌ إلا بذكر تارا، أشهدَ الربُّ على نفسه أورو القرين. في سرِّه تراءى هو، بلحن تارا ترنَّحَ عشقًا. على رنينه جئتَ أنتَ الوتر. آهٍ، نُهى... ملعونٌ في السماوات والدُّنا، بيدك رفعتَ القرينَ عنِ القرين. ملعونٌ أنتَ، يا النُّهى.
أورو المتيَّمُ جاشَ في النأي وجأر. من وطء اللهيب على جأشه، مِجَنَّ الحريق عَبَر. شكا ذبَّه إلى سالا. يا ربَّةَ القمر، كيف جارَ عليَّ الربُّ وجَهَر؟! كيف الرجوعُ إلى تارا؟! منكِ سالا، بيديكِ المُلاعبتين، سال الوتر. فاشْهدي، يا سليلةَ الليل، نجمَه، ما نوى الخبر: وإنني على ذؤابة هذا الجبل، فليأتِ إليَّ أصارعُه، وفي أيِّ أرضٍ شاءَ أو قَفْر. ملعونٌ أنتَ، يا نُهى، بحقِّ النار التي بنورِ العشق فاضت، ومائي الذي قَدَّ صُلبي وزأر.
سالا حفيظةُ السرِّ، في عرشها الظَّليل، من ضرب الطِّعان بقلبها تعوَّذتْ، حين قسمٌ بالماء الطهور شقَّ فيها الجرحَ، فأرجفت. وإنها، بوصل القلب، الشقيقَ أبلغت: أي نُهى الحبيب، تروَّ، فما العشق إلا وهمُ هذا الطريق. قال: ألولاه كنَّا، أو فاض العماءُ سرَّ البريق؟! ردَّ النحرُ بأوصالها: أيا بعلي نُهى، كفَّ عن نَكءِ جرحي العميق. وإنني بحقِّ ما بي من كمدٍ على قلب تارا الرهين، وعلى ذاكَ الفقيد دونه، أورو، بتَّ في قلبه أنتَ الغريم. تارا قلبُ أورو، وأورو، على صدرها، بات صدْعَ الأنين. ها تارا في عمائك ألمعتْ توقَ العين إلى الدمع الضنين. فاحفظ يديك من شرِّ ما تصبو بكَ النارُ إلى فتقِ لظاها اللعين.
3
سِـفْـرُ الرُّجـوع
أدخل الربُّ تارا كوَّتَه الدفينة – تلك التي رامت الفراغ... هنا حيث ضاجعَ سالا بين جنائن تهادى عرينُ ظلِّها في ربوع السَّديم. كان الفراغُ سيلاً حين تدانى إلى عرش السماء، بينما رسمُ الخلائق كلِّها يفيضُ نهرًا في عماء. فاضت في التلاقي من ثغره شواردُ نجمٍ، ومن سيلها سالا جاء بحر، أدرك حين رأى شمسًا أنه طيفُ نارٍ ونور. أمَّا قلبُ سالا فقد أنظرَ العتمةَ، ومال في كبدِ السماء إلى وجه قمر.
مكث الربُّ بـتارا عند نبع لهبٍ باردٍ تشوبُه زرقةُ ماء. ثمَّ بيده الحانية للوصل جَعَلَها تصحو على فراشه البياض. لكنها للفؤاد العتيق عنه غاضت، لا تهطلُ في الدمع اللَّهوج إلا بندبه: أورو... أورو... القرين راح! فأرهجَ الربُّ: تارا، لكِ هذي السماء. مادت على صدره وأجهشت: أورو الحبيبُ غاب! صاحَ: لكِ هذا الهواء. تلَت: وله ما أملكتَني، يا النُّهى، فداء.
سألَها الربُّ الدخولَ، فأبت. مرارًا صاغَ لها القلبَ، فنَحَتْ، وأغلقت عنه فخذيها، تجيشُ بالنهنهات جهرًا: أورو في قلب تارا، وتارا بالرحيق منه تخضَّبت، بملءِ العشق: يا النُّهى، أورو بالروح جاد! أرهف الربُّ السمعَ لأنفاسها، فرأى كيف أورو في البذرة العمياء كزهرةٍ باسمةٍ لها بالوداد طَلَع. فأنَّى لكَ أن تسري بها، وعلى صبِّ الجَنان النازلِ من صُلبه، إلى غورِها العليق نَدهُ الفؤاد شَرَع.
أغمدَ الربُّ في روحه النارَ وكبد. غارَ في المدى لحنًا تاق لرطبِ الدُّجى، وعلى الأخدود الحارق في الرغاء وَقَع. يصَّعدُ منه الدمعُ، ينزو بالبريق موجَعًا بتِلْوِ الأوتارِ من لحنها، عنها تصدُّه بالأنين، وقد صَدَع، ثمَّ بشفةٍ ناءَ يلثمُ بها النهدَ، ومن شهد الحنين النازف صَرَع:
يا الذي نـاءَ فـيَّ منـكَ دامَ الرَّحـيق
كلَّـما لاحَ عـذبٌ رقَّ رمشُ الغريـق
ما فاض عشقٌ إلا سـلَّ جرحي الطَّريق
أولجَ في ماء النار أصابعَه، يغمِّسها بصلصال مسٍّ حميم. له تارا باللَّمى في الحلم أومأت، فسال على سفحها المليس طلاًّ، يرعشُ النداء تلِهًا، يشكو لها نارَ الكَمَد. رقَّ قلبُ تارا للإله الذبيح، فندت، وألقت برأسه في المهد تهدهده. عاد طفلاً، على صدرها غاب دهرًا، ثمَّ اللسانَ ذَرَح: ما جوى العشقُ قلبًا إلا صاحبَه قد جَرَح.
1
سِـفْـرُ الفـجـيـعـة
: تراءى ربُّ الأرباب نُهى في تلك الكوَّة، يركنُ إلى عمائه ذاويًا، وعلى فؤاده سَنةٌ من غيب. عينُه في البعيد بَدَتْ كنبع ساخن، تتَّقدُ ببعض حريق، ومن جوفه يعلو بخارٌ، يصَّعَّد إلى حلكة السماء، سادرًا وجهَ البحر بالسديم. يذَّكرُ العاشقُ الشقيُّ تارا، وكيفَ سباها من رجلها الوحشي. تارا العرَّافةُ الغانية، تلك التي تجدِّد النسائمُ ذبولاتِها كلما مرَّت. وهجُها النحاسيُّ الصلدُ يوقدُ في الناظرين إليها حُرقةَ البُعاد، وإن لاحَ بالرقص منها شهابٌ، شقَّ في الثنايا عينًا تصَّهدُ ببريقٍ، لا محالة سيخطف مَن رآه إلى العتمة.
زعموا أنها إحدى البنات اللاتي أنجبتهنَّ سرائرُ الأرض. وقيل إنَّها من طَلِّ الصحراء! أفاقت تعبرُ النداءَ بقدميها الحافيتين، فجرًا، صوب ريم البحر، تُسائلُ العابرين عن عاشق مجنون. تارا، الجنيَّةُ العاشقة، تارا الشريدة، سليلةُ النار ونَصْلِ الكهوف الغاربة، باتتْ حتَّى شروق الشمس تنتظر. وفي ليلةٍ داخَ بعبَقِها الريحُ، وانثال في حناياه الجَّرْس، أتى غريبُ اللسان أورو، يشقُّ طريقَه من خلف جبل. قالوا: هناك في الدغل مع الذئاب رأيناه يلهو، يقتتل وبني آوى، وجهَه العتيقَ تلفحُه السنونُ، ويغفو حالِمًا في الهجير كالغَرير. حَمَلَه الأريجُ إلى السفح حين جاب صدرَه توقُ الإشارة. صاحَ القلبُ: تارا... تارا... بلحنه مَضَتْ. وعن رأس العناق مع السماء هوى، بعينه لهفةُ الذئاب، ممتشقًا بخطْمه الهواءَ، يقدح بوطئه الترابُ الحَجَر.
ضمَّها في اللهاث، وعلى مرأى من السَّاهدين يسترقون من هذيها الغناء، على صدره حَنَتْ. ثمَّ بزنده الحديد شدَّ نهديها، وبالرُّعاش احترق. شقَّ طريقَ الفضَّة المتماوج في البدر على صفحة الماء، يطرقُ الجسدَ الطريَّ بالوتد. بين ذراعيه الوحشيتين، تارا كموجٍ صاخبٍ عَلَتْ، يهدر في قلبها الصخرُ، ومن صُلبه، القرينُ غرغرَ بالغواية الزَّبَد. ثم تارا، في الرجوع إلى نحرِه منها، الزفيرُ شَهَق. تارا دَنَتْ، وعلى صبِّ الأنين من عليائه ربُّ الأرباب عصفًا سَقَط.
هنا، عند هذا الجرف الصخري، لَمَحَها الربُّ بين ذراعَي الغريب تغتسلُ عاريةً في الضوء، وبالحليب النافر من أتون العشق للقرين، تارا في الأصداء سَرَتْ. أصابه، حين فخذُها لاح متلألئًا بالسهام مثلَ غريمه، العواءُ، فتأبَّد بومضةِ عشقٍ أطلقَها عليه طيشٌ. بيده قوسٌ يحمله البريدُ منذ الأبد، وبلمح الجنون الذريع في عينه الربُّ جَنَح، على موكبٍ أشرَعَ الريحَ أجنحةً، وفي عينها قد لَمَح.
تارا سُرقت: في أذن الوحشيِّ عَبَثَ الإله، فأنطق من جوفه الخرس، وعلى صوت الفجيعة صاحت النوارسُ، وذئابُ الليل للقرين عَوَتْ: نُهى اللعين سرق تارا! من حضن القرين تارا خُطفت. ذُهِلَ في أعشاشه الحمامُ نائحًا: لها كالغريم قد توحَّش. حوريات البحر أجهشت: تارا خُطفت! بين ذراعَي القرين كانت. ومن صوت النَّسر الذي جرح الريحَ بوطفِه، بلغَ العجائزَ الخبر. تضاحكن: كيف سرُّ الخلقِ الإلهَ سحر! وعند نهر المنيَّة مِلْنَ إلى همس الغروب: حَكَمَ الربُّ على نفسه بالغياب: في عشقِ تارا ربُّ الأرباب غاب.
أمَّا نُهى، فحمل تارا بين ذراعيه، ومحا خلفَه الأثر – بين ذراعيه حمل الإلهُ تارا. مسرنمةً جاءت، يشدُّها حبلٌ من الذهول، ينتحُ بشوكِه الروحَ عن البدن، يضمُّها إليه في الريح عنوةً، ومن هول العواصف الجائحة في الهزيم، بين ذراعَي الإله، هَوَتْ. على فرسه الفضيِّ حَمَلَها، فَعَلَتْ. يسابق بعَدْوِه الضوءَ، وإلى درب العماء المبثوث بين الأنواء شدَّ اللجام إليه. الطريقُ تناهى على وقع الخَبَب. تارا بخطف الجَنان رأتْ أقدامَها المرسومةَ على خطاه، فانتحت.
ربَّاتُ الخبايا في مساكنهنَّ أرسلنَ النَّدهةَ، فأنذرت: آهٍ، نُهى... من لوع الحريق إذا ناءَ في كَبَد. وقف الربُّ إجلالاً لعين الكحل التي بدت، وعلى قدميه خرَّ الإلهُ صريعًا، صريعًا على قدميه. ظهر اللوحُ الذي بيده نَحَتْ: ما جوى العشقُ قلبًا إلا أمرَه للمعشوق قلَب. اتركْ تارا... من عينها سال الدمعُ. سالا الرَّءومُ، بالسؤال عنها أغدقتْ. تارا الذبيحةُ، بجرحها أضحيتَ الذبيحَ الذي عنه الأقدارُ أخبرتْ. ها هو الوحشيُّ أورو، من صوته الخواءَ السماءُ أرعدتْ. عُدْ إلى الملك الذي رفعتَه بيديك، واترك تارا للقرين! هكذا النجومُ أمطرتْ. لكنه ألقى عنه التاجَ والصولجانَ، وفي عزمه مضى. علا سوطَ البريق، وعن الأكوان ذَهَب.
2
سِـفْـرُ النَّـذيـر
: مسكينٌ أنتَ، يا أورو! كيف على صخركَ رانَ جِلْبُ الشَّقاء! أورو... يا مَن تحجُّ إلى عرينه النساء، وعلى صرحه، إلى جرحِهنَّ يُدنين الدعاء. تارا الملتاعةُ، يا أورو... في التنهد منكَ سرقَ الربُّ النداء. تارا ومن عين الكحل المثمَّد بالوجاء أيقنت. أورو قلبُ تارا، وتارا في رقصهِ الرَّنيمِ سَنَتْ. سلبَها عند التداني نُهى. تارا ألَقُ الربِّ الدفين – فلا ولَهٌ إلا بذكر تارا، أشهدَ الربُّ على نفسه أورو القرين. في سرِّه تراءى هو، بلحن تارا ترنَّحَ عشقًا. على رنينه جئتَ أنتَ الوتر. آهٍ، نُهى... ملعونٌ في السماوات والدُّنا، بيدك رفعتَ القرينَ عنِ القرين. ملعونٌ أنتَ، يا النُّهى.
أورو المتيَّمُ جاشَ في النأي وجأر. من وطء اللهيب على جأشه، مِجَنَّ الحريق عَبَر. شكا ذبَّه إلى سالا. يا ربَّةَ القمر، كيف جارَ عليَّ الربُّ وجَهَر؟! كيف الرجوعُ إلى تارا؟! منكِ سالا، بيديكِ المُلاعبتين، سال الوتر. فاشْهدي، يا سليلةَ الليل، نجمَه، ما نوى الخبر: وإنني على ذؤابة هذا الجبل، فليأتِ إليَّ أصارعُه، وفي أيِّ أرضٍ شاءَ أو قَفْر. ملعونٌ أنتَ، يا نُهى، بحقِّ النار التي بنورِ العشق فاضت، ومائي الذي قَدَّ صُلبي وزأر.
سالا حفيظةُ السرِّ، في عرشها الظَّليل، من ضرب الطِّعان بقلبها تعوَّذتْ، حين قسمٌ بالماء الطهور شقَّ فيها الجرحَ، فأرجفت. وإنها، بوصل القلب، الشقيقَ أبلغت: أي نُهى الحبيب، تروَّ، فما العشق إلا وهمُ هذا الطريق. قال: ألولاه كنَّا، أو فاض العماءُ سرَّ البريق؟! ردَّ النحرُ بأوصالها: أيا بعلي نُهى، كفَّ عن نَكءِ جرحي العميق. وإنني بحقِّ ما بي من كمدٍ على قلب تارا الرهين، وعلى ذاكَ الفقيد دونه، أورو، بتَّ في قلبه أنتَ الغريم. تارا قلبُ أورو، وأورو، على صدرها، بات صدْعَ الأنين. ها تارا في عمائك ألمعتْ توقَ العين إلى الدمع الضنين. فاحفظ يديك من شرِّ ما تصبو بكَ النارُ إلى فتقِ لظاها اللعين.
3
سِـفْـرُ الرُّجـوع
أدخل الربُّ تارا كوَّتَه الدفينة – تلك التي رامت الفراغ... هنا حيث ضاجعَ سالا بين جنائن تهادى عرينُ ظلِّها في ربوع السَّديم. كان الفراغُ سيلاً حين تدانى إلى عرش السماء، بينما رسمُ الخلائق كلِّها يفيضُ نهرًا في عماء. فاضت في التلاقي من ثغره شواردُ نجمٍ، ومن سيلها سالا جاء بحر، أدرك حين رأى شمسًا أنه طيفُ نارٍ ونور. أمَّا قلبُ سالا فقد أنظرَ العتمةَ، ومال في كبدِ السماء إلى وجه قمر.
مكث الربُّ بـتارا عند نبع لهبٍ باردٍ تشوبُه زرقةُ ماء. ثمَّ بيده الحانية للوصل جَعَلَها تصحو على فراشه البياض. لكنها للفؤاد العتيق عنه غاضت، لا تهطلُ في الدمع اللَّهوج إلا بندبه: أورو... أورو... القرين راح! فأرهجَ الربُّ: تارا، لكِ هذي السماء. مادت على صدره وأجهشت: أورو الحبيبُ غاب! صاحَ: لكِ هذا الهواء. تلَت: وله ما أملكتَني، يا النُّهى، فداء.
سألَها الربُّ الدخولَ، فأبت. مرارًا صاغَ لها القلبَ، فنَحَتْ، وأغلقت عنه فخذيها، تجيشُ بالنهنهات جهرًا: أورو في قلب تارا، وتارا بالرحيق منه تخضَّبت، بملءِ العشق: يا النُّهى، أورو بالروح جاد! أرهف الربُّ السمعَ لأنفاسها، فرأى كيف أورو في البذرة العمياء كزهرةٍ باسمةٍ لها بالوداد طَلَع. فأنَّى لكَ أن تسري بها، وعلى صبِّ الجَنان النازلِ من صُلبه، إلى غورِها العليق نَدهُ الفؤاد شَرَع.
أغمدَ الربُّ في روحه النارَ وكبد. غارَ في المدى لحنًا تاق لرطبِ الدُّجى، وعلى الأخدود الحارق في الرغاء وَقَع. يصَّعدُ منه الدمعُ، ينزو بالبريق موجَعًا بتِلْوِ الأوتارِ من لحنها، عنها تصدُّه بالأنين، وقد صَدَع، ثمَّ بشفةٍ ناءَ يلثمُ بها النهدَ، ومن شهد الحنين النازف صَرَع:
يا الذي نـاءَ فـيَّ منـكَ دامَ الرَّحـيق
كلَّـما لاحَ عـذبٌ رقَّ رمشُ الغريـق
ما فاض عشقٌ إلا سـلَّ جرحي الطَّريق
أولجَ في ماء النار أصابعَه، يغمِّسها بصلصال مسٍّ حميم. له تارا باللَّمى في الحلم أومأت، فسال على سفحها المليس طلاًّ، يرعشُ النداء تلِهًا، يشكو لها نارَ الكَمَد. رقَّ قلبُ تارا للإله الذبيح، فندت، وألقت برأسه في المهد تهدهده. عاد طفلاً، على صدرها غاب دهرًا، ثمَّ اللسانَ ذَرَح: ما جوى العشقُ قلبًا إلا صاحبَه قد جَرَح.