ليندا
15/05/2008, 18:41
لا يستقيم الحديث عن مسرح عربي معاصر دون الحديث عن أبرز مبدعيه: مسرح محمود دياب في مصر، مسرح الرحابنة في لبنان، ومسرح سعد الله ونوس في سورية.
أحدثت مسرحيات سعد الله ونوس صدى واسعاً في الوسط المسرحي والثقافي، وخاصة مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» 1968 ، و«الملك هو الملك» 1977 وذلك في المرحلة الأولى من انتاجه المسرحي التي تضمنت مسرحيات أخرى: «حكايا جوقة التماثيل» 1965 «أضيف إليها «مأساة بائع الدبس الفقير» و«فصد الدم» وصدرت عام 1978، «الفيل يا ملك الزمان» و«مغامرة رأس المملوك جابر» 1969، و«سهرة مع أبي خليل القباني» 1973.
الإبداع يحيل على المبدع. وإبداع سعد الله ونوس يكشف بأننا أمام مبدع مثقف، جميل، عميق، وبعيد، كلامه يحكي.. وصمته يحكي!.
صمت سعد الله ونوس مرتين، صمته الكبير طوال عشر سنوات في الثمانينيات من القرن الماضي، وصمته النهائي يوم 15 أيار 1997 بعد أن عاش 56 عاماً «ولد في ضيعة حصين البحر في طرطوس بتاريخ 19 شباط 1941 ودفن فيها».
ولأن سعد الله ونوس قد رسخ حضوره في المسرح العربي فقد كان غائباً حاضراً خلال صمته الذي استمر 10 سنوات طوال الثمانينيات حتى عام 1990 عندما نشر مسرحية «الاغتصاب» «أخرجها جواد الأسدي» مدشناً المرحلة الثانية من كتابته الإبداعية التي استمرت طوال سنوات مرضه حتى وفاته، فكتب: «منمنمات تاريخية 1994، «طقوس الإشارات والتحولات» 1994 «اخرجتها نضال الأشقر عام 1997، «يوم من زماننا ـ و ـ أحلام شقية» 1995، «ملحمة السراب» 1996، رحلة في مجاهل موت عابر» 1996، وأخيراً «الأيام المخمورة» التي نشرت قبل شهرين من وفاته، ولسعد لله ونوس كتب أخرى في الثقافة والأدب.
يأخذنا الحديث عن كتابة وصمت سعد الله ونوس الى مقاربة مفهوم «الصمت» بأبعاده وحالاته: عندما يقال: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، أو يقال بأن «الساكت عن الحق شيطان أخرس» فإن ذلك يحمل حقيقة نسبية. هنا نحن إزاء الحكمة والأخلاق.
أما في مجال الفن والإبداع، فللصمت معان ومسارب وحالات وتناقضات، حسب المنحى والرؤية ووضعية المبدع.
في المؤتمر الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة، قال الأديب الراحل اميل حبيبي عبارة ذات دلالة عن الصمت ارتباطاً بالأدب والسياسة: «في الأدب لا يوجد تكتيك، فإما أن تقول الصدق أو تصمت».
وفي إحدى المقابلات، يوضح سعد الله ونوس علاقة الصمت بالأحوال الشخصية للإنسان: «في كل صمت، هناك جانب شخصي، مدى قدرة المرء على ا لتكيف، مدى قدرته على استنباط وسائل تكفل له أن يواصل عطاءه دون تنازلات، أو بأقل قدر من التنازلات، ولكن هناك أيضاً في الصمت جانب موضوعي». ويضيف: «تقريباً، الأسباب التي تدعو الى الصمت، أو تجبر على الصمت أكثر من الأسباب التي تحفز على الكتابة والعمل.. حين يفقد الكاتب الإيمان النسبي بأنه قادر على التغيير، فإنه يفقد الدافع للكتابة»
(1).
في إحدى روايات جبرا إبراهيم جبرا، يأخذ الصمت المعنى التالي: «ألا ترى أن الأحداث غدت من الضخامة، بحيث قزمت كل مواهبنا إزاءها؟ فواجعنا ما عادت قابلة للكلمة، سحقت الكلمات كلها»(2).
لكن، لنتأمل هذا المعنى المختلف للصمت في رواية حميدة نعنع «الوطن في العينين»: «كم هو شقي ذلك الإنسان! سيظل يتحدث عن كل هؤلاء ولن يكتب شيئاً.. الكتابة بحاجة الى الصمت»(3).
خلاصة القول، إذا كان الصمت يعني أحياناً الانكفاء والعجز واللاجدوى والاحتجاج السلبي وشكلاً من أشكال الانتحار، فهو يعني في حالات أخرى التأمل، والمراجعة الذاتية، والمخاض، والانفعال بالحياة وإرهاصاتها، والتهيؤ لأعمال جديدة.
سعد الله ونوس مبدع جميل يمتلك ثقافة رحبة وعميقة، ولديه وعي فني وتاريخي رفيع المستوى، وهو إنسان مرهف يمتلك موهبة ا لإصغاء لنبض الحياة، موهبة الفنان الصادق في نقده لذاته وخوض غمار المراجعة الذاتية، سوية مع شجاعة نقده للواقع.
في حوار أجرته د. ماري إلياس مع سعد الله ونوس، يتبين لنا أن هذا الكاتب يمتلك فضيلة النزاهة الأخلاقية للفنان الذي يحترم نفسه، ويمتلك كذلك شجاعة التصريح بأوهامه والابتهاج للتخلص منها. ففي هذا الحوار الذي يقول فيه: «انغسلت من الأوهام»، نقرأ كلمات أكبر من «الاعتراف الذاتي» لفنان بعينه، إنها كلمات تطلق أفكاراً تتصل بمرحلة كاملة مضت. وبحاضر يمور بالهموم والأسئلة، وبمستقبل نتطلع إليه ويتطلع إلينا أملاً وتحدياً، ارتباطاً بحصاد تجربتنا السابقة وجدارة ممارستنا القادمة.
ـ «كان هناك ا عتقاد جازم بأنه يكفي أن نغير السلطة، لكي نغير المجتمع ونحقق التقدم المنشود «...» لكن الشيء الأصعب هو الذي لم نجربه وهو تغيير المجتمع، الأصعب هو أن تحاول هز سكون ونوسان واستغراق المجتمع بالخرافة» (4).
ـ «يجب أن نعترف بكل وضوح، بأن هناك تهميشاً منهجياً للثقافة وللمسرح بشكل خاص. وهذا التهميش ظاهرة عالمية، صارت واضحة بشكل فاضح في ظل النظام العالمي الجديد(5).
ـ «انقطعت عشر سنوات عن كتابة المسرح. خلال هذه السنوات العشر التي تبددت في سراديب الاكتئاب، كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته، وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، وكذلك مراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني على امتداد الوطن العربي» (6).
ـ «أصبح دور المثقف بالنسبة لي أقل تلألؤاً وأكثر تواضعاً... لكن الأفق أمامه غدا أكثر اتساعاً «...» أضيف الى المهمة النقدية التي يجب أن يضطلع بها المثقف مهمة أخرى، وهي أن يحاول ممارسة حريته، وأن يحب فرديته، وألا يعتقد على الإطلاق أنه إذا اغتنى كوجود فردي إنما يمزق شمل الجماعة. لقد كنا ساذجين في فهم الجماعة والعمل الجماعي. كنا نتخيل هذه الجماعة أفراداً لهم وجود واحدة وأمزجة واحدة وكنا ننفر من الاستثناء والتفرد، ناسين أو متجاهلين أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية، لا مجرد جمع من الأرقام والوجودات الفارغة»(7).
فوجئ كثير من الناس بزخم الكتابة الإبداعية لسعد الله ونوس خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته، كيف لإنسان أن يكتب كل هذه المسرحيات الدرامية الكبيرة ، المفعمة بالفكر والثقافة والتاريخ ورهافة ا لفن، وهو مريض بالسرطان؟!
في واقع الأمر، إن زخم ونضج هذه المسرحيات يعودان الى عاملين اثنين هما:
العامل الأول: إن فترة العشر سنوات من الصمت التي عاشها سعد الله ونوس، والتي كانت فترة اكتئاب وتأمل ومراجعة، قد أعطت عصارتها الفكرية والفنية لأعماله الأخيرة.
العامل الثاني: يبدو أن سعد الله ونوس، كإنسان مبدع، قد رسا على قرار روحي وفني في مواجهة محنة المرض، أن يواجه الموت بالحياة، يسمو على الألم بالإبداع، وأن ينعتق من أسر المرض وأطواقه الممضة من خلال تحليق الخيال، وتقطير الذاكرة، والانفتاح الإبداعي الفني على صور الحياة وجيشانها وتقديم أعمال هامة، كجردة حساب فكري وفني ، في ماتبقى من العمر، وهو قليل ومرير.
لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الكيفية التي يواجه بها الفنان المبدع والكاتب مشكلاته وهمومه ومآسيه، لها دور كبير في عطائه ، كماً ونوعاً.
لقد أنهى فرانز فانون كتابه «معذبو الأرض» وهو على فراش المرض. وكان غسان كنفاني في سباق مع الزمن بسبب معاناته مع مرض السكري، واعياً لوضعه ومعاناته، يعطي لنفسه حقنة الأنسولين ويسرق ساعات من وقت النوم للكتابة، مؤمناً إنه «إذا لم نستطع أن نجعل حياتنا طويلة، فعلينا أن نجعلها عريضة»، واستشهد بتفجير سيارته من قبل الموساد وعمره 36 عاماً «1936 ـ 1972» وترك لنا أعمالاً إبداعية عديدة ومتنوعة.
وارتباطاً بقضية الصراع بين المبدع والزمن، يمكننا إيراد ما قاله المبدع الراحل ممدوح عدوان في كتابة «دفاعاً عن الجنون»:
«وأنا على عجلة من أمري. الحياة مزدحمة. والهاوية قريبة. لا بد من أن أكمل صرختي»(.8 )
يوم «4 ـ 7 ـ 1996 في مخيم اليرموك قرب دمشق، وضمن الأسبوع الثقافي لإحياء الذكرى السنوية الرابعة والعشرين لاستشهاد الأديب غسان كنفاني، لم يستطع سعد الله ونوس الحضور بسبب المرض، وحضرت ابنته «ديمة» واستلمت جائزته نيابة عنه، في ذلك اليوم قرأ الكاتب حسن.م.يوسف كلمة سعد الله ونوس نيابة عنه، وكانت كلمة مؤثرة وعميقة جاء فيها:
ـ «أيها الأصدقاء، منذ أصابتني محنة المرض، وأنا أحاول بكل ما أملك من طاقة، على ألا أجعل المرارة تغيم على روحي، وتسد منافذ التجلد والمقاومة في داخلي. واستطيع أن أقول أن هذه المحاولة قد نجحت ولو جزئياً، وأنا أواصل العمل والحياة بأقل قدر من المرارة، والرثاء للنفس. ولكن كيف يمكن أن أنحّي شعور المرارة، حين يحول المرض دون أن ألبي دعوتكم الجميلة، ودون أن يتاح لي أن ألتقي بكم، وأن أستمد من حماستكم قوة وعزماً على مواصلة الحياة والعمل».
«من المؤسف أن معظم القوى والمنظمات السياسية لم تكتشف أهمية الثقافة، إلا حين وجدت نفسها عارية من كل سلاح. وكان عليها أن تتعلم مبكراً أن عجزها عن الربط الوثيق و العضوي بين النضال والثقافة، هو الذي عجل في تجريدها من سلاحها وهزيمتها».
ـ «إن هزيمتنا الراهنة لاتعني بأي حال من الأحوال، أن القيم التي كنا ندافع عنها، ونحاول ترسيخها في واقعنا، كانت خطأ، أو وهماً ينبغي أن نهمله أو نعيد النظر فيه كما يشجعنا سادة ومنظرو النظام العالمي الجديد».
إن أسطع تكريم ناله سعد الله ونوس، على صعيد التقييم والإعتراف بالقيمة الإبداعية له، كان تكليفه عالمياً بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي في 27 آذار 1996، ما يعتبر إنجازاً للثقافة العربية من خلال أحد أبرز أسمائها.
سعد الله ونوس تألم في إبداعه، وأبدع في ألمه. كتب في المرحلة الأولى من إبداعه مسرحيات أثارت صدى وحركت المياه والعقول، وصمت عشر سنوات مفعمة بالاكتئاب والتأمل والمراجعة، وعاش سنوات مرضه القليلة وهو في حال ا ستنفار مع الذات، كتب من جمرة الروح قبل أن تخبو، وترك للثقافة العربية وللمسرح العربي، علامات مضيئة وعبارة نقشت فوق قبره: «نحن محكومون بالأمل»!
الهوامش:
1 ـ مقابلة مع سعد الله ونوس أجراها فاضل الربيعي، مجلة «الحرية 2 ـ 8 شباط 1986 العدد 149 ص 44.
2 ـ رواية «البحث عن وليد مسعود»، جبرا ابراهيم جبرا، مكتبة الشرق الأوسط بغداد، ط3، 1985،ص357.
3 ـ رواية «الوطن في العينين» حميدة نعنع، دار الآداب، بيروت ط1، 979،ص 108 ـ 109.
4 ـ حوار مع سعد الله ونوس أجرته د. ماري إلياس، مجلة «الطريق» كانون الثاني ـ شباط 1996.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ نفس المصدر.
7 ـ نفس المصدر.
8 ـ «دفاعاً عن الجنون» ممدوح عدوان، دار النديم ـ الوعي، بيروت ط1، 1985، ص8.
المصدر // صحيفة تشرين,,
أحدثت مسرحيات سعد الله ونوس صدى واسعاً في الوسط المسرحي والثقافي، وخاصة مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» 1968 ، و«الملك هو الملك» 1977 وذلك في المرحلة الأولى من انتاجه المسرحي التي تضمنت مسرحيات أخرى: «حكايا جوقة التماثيل» 1965 «أضيف إليها «مأساة بائع الدبس الفقير» و«فصد الدم» وصدرت عام 1978، «الفيل يا ملك الزمان» و«مغامرة رأس المملوك جابر» 1969، و«سهرة مع أبي خليل القباني» 1973.
الإبداع يحيل على المبدع. وإبداع سعد الله ونوس يكشف بأننا أمام مبدع مثقف، جميل، عميق، وبعيد، كلامه يحكي.. وصمته يحكي!.
صمت سعد الله ونوس مرتين، صمته الكبير طوال عشر سنوات في الثمانينيات من القرن الماضي، وصمته النهائي يوم 15 أيار 1997 بعد أن عاش 56 عاماً «ولد في ضيعة حصين البحر في طرطوس بتاريخ 19 شباط 1941 ودفن فيها».
ولأن سعد الله ونوس قد رسخ حضوره في المسرح العربي فقد كان غائباً حاضراً خلال صمته الذي استمر 10 سنوات طوال الثمانينيات حتى عام 1990 عندما نشر مسرحية «الاغتصاب» «أخرجها جواد الأسدي» مدشناً المرحلة الثانية من كتابته الإبداعية التي استمرت طوال سنوات مرضه حتى وفاته، فكتب: «منمنمات تاريخية 1994، «طقوس الإشارات والتحولات» 1994 «اخرجتها نضال الأشقر عام 1997، «يوم من زماننا ـ و ـ أحلام شقية» 1995، «ملحمة السراب» 1996، رحلة في مجاهل موت عابر» 1996، وأخيراً «الأيام المخمورة» التي نشرت قبل شهرين من وفاته، ولسعد لله ونوس كتب أخرى في الثقافة والأدب.
يأخذنا الحديث عن كتابة وصمت سعد الله ونوس الى مقاربة مفهوم «الصمت» بأبعاده وحالاته: عندما يقال: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، أو يقال بأن «الساكت عن الحق شيطان أخرس» فإن ذلك يحمل حقيقة نسبية. هنا نحن إزاء الحكمة والأخلاق.
أما في مجال الفن والإبداع، فللصمت معان ومسارب وحالات وتناقضات، حسب المنحى والرؤية ووضعية المبدع.
في المؤتمر الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة، قال الأديب الراحل اميل حبيبي عبارة ذات دلالة عن الصمت ارتباطاً بالأدب والسياسة: «في الأدب لا يوجد تكتيك، فإما أن تقول الصدق أو تصمت».
وفي إحدى المقابلات، يوضح سعد الله ونوس علاقة الصمت بالأحوال الشخصية للإنسان: «في كل صمت، هناك جانب شخصي، مدى قدرة المرء على ا لتكيف، مدى قدرته على استنباط وسائل تكفل له أن يواصل عطاءه دون تنازلات، أو بأقل قدر من التنازلات، ولكن هناك أيضاً في الصمت جانب موضوعي». ويضيف: «تقريباً، الأسباب التي تدعو الى الصمت، أو تجبر على الصمت أكثر من الأسباب التي تحفز على الكتابة والعمل.. حين يفقد الكاتب الإيمان النسبي بأنه قادر على التغيير، فإنه يفقد الدافع للكتابة»
(1).
في إحدى روايات جبرا إبراهيم جبرا، يأخذ الصمت المعنى التالي: «ألا ترى أن الأحداث غدت من الضخامة، بحيث قزمت كل مواهبنا إزاءها؟ فواجعنا ما عادت قابلة للكلمة، سحقت الكلمات كلها»(2).
لكن، لنتأمل هذا المعنى المختلف للصمت في رواية حميدة نعنع «الوطن في العينين»: «كم هو شقي ذلك الإنسان! سيظل يتحدث عن كل هؤلاء ولن يكتب شيئاً.. الكتابة بحاجة الى الصمت»(3).
خلاصة القول، إذا كان الصمت يعني أحياناً الانكفاء والعجز واللاجدوى والاحتجاج السلبي وشكلاً من أشكال الانتحار، فهو يعني في حالات أخرى التأمل، والمراجعة الذاتية، والمخاض، والانفعال بالحياة وإرهاصاتها، والتهيؤ لأعمال جديدة.
سعد الله ونوس مبدع جميل يمتلك ثقافة رحبة وعميقة، ولديه وعي فني وتاريخي رفيع المستوى، وهو إنسان مرهف يمتلك موهبة ا لإصغاء لنبض الحياة، موهبة الفنان الصادق في نقده لذاته وخوض غمار المراجعة الذاتية، سوية مع شجاعة نقده للواقع.
في حوار أجرته د. ماري إلياس مع سعد الله ونوس، يتبين لنا أن هذا الكاتب يمتلك فضيلة النزاهة الأخلاقية للفنان الذي يحترم نفسه، ويمتلك كذلك شجاعة التصريح بأوهامه والابتهاج للتخلص منها. ففي هذا الحوار الذي يقول فيه: «انغسلت من الأوهام»، نقرأ كلمات أكبر من «الاعتراف الذاتي» لفنان بعينه، إنها كلمات تطلق أفكاراً تتصل بمرحلة كاملة مضت. وبحاضر يمور بالهموم والأسئلة، وبمستقبل نتطلع إليه ويتطلع إلينا أملاً وتحدياً، ارتباطاً بحصاد تجربتنا السابقة وجدارة ممارستنا القادمة.
ـ «كان هناك ا عتقاد جازم بأنه يكفي أن نغير السلطة، لكي نغير المجتمع ونحقق التقدم المنشود «...» لكن الشيء الأصعب هو الذي لم نجربه وهو تغيير المجتمع، الأصعب هو أن تحاول هز سكون ونوسان واستغراق المجتمع بالخرافة» (4).
ـ «يجب أن نعترف بكل وضوح، بأن هناك تهميشاً منهجياً للثقافة وللمسرح بشكل خاص. وهذا التهميش ظاهرة عالمية، صارت واضحة بشكل فاضح في ظل النظام العالمي الجديد(5).
ـ «انقطعت عشر سنوات عن كتابة المسرح. خلال هذه السنوات العشر التي تبددت في سراديب الاكتئاب، كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته، وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، وكذلك مراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني على امتداد الوطن العربي» (6).
ـ «أصبح دور المثقف بالنسبة لي أقل تلألؤاً وأكثر تواضعاً... لكن الأفق أمامه غدا أكثر اتساعاً «...» أضيف الى المهمة النقدية التي يجب أن يضطلع بها المثقف مهمة أخرى، وهي أن يحاول ممارسة حريته، وأن يحب فرديته، وألا يعتقد على الإطلاق أنه إذا اغتنى كوجود فردي إنما يمزق شمل الجماعة. لقد كنا ساذجين في فهم الجماعة والعمل الجماعي. كنا نتخيل هذه الجماعة أفراداً لهم وجود واحدة وأمزجة واحدة وكنا ننفر من الاستثناء والتفرد، ناسين أو متجاهلين أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية، لا مجرد جمع من الأرقام والوجودات الفارغة»(7).
فوجئ كثير من الناس بزخم الكتابة الإبداعية لسعد الله ونوس خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته، كيف لإنسان أن يكتب كل هذه المسرحيات الدرامية الكبيرة ، المفعمة بالفكر والثقافة والتاريخ ورهافة ا لفن، وهو مريض بالسرطان؟!
في واقع الأمر، إن زخم ونضج هذه المسرحيات يعودان الى عاملين اثنين هما:
العامل الأول: إن فترة العشر سنوات من الصمت التي عاشها سعد الله ونوس، والتي كانت فترة اكتئاب وتأمل ومراجعة، قد أعطت عصارتها الفكرية والفنية لأعماله الأخيرة.
العامل الثاني: يبدو أن سعد الله ونوس، كإنسان مبدع، قد رسا على قرار روحي وفني في مواجهة محنة المرض، أن يواجه الموت بالحياة، يسمو على الألم بالإبداع، وأن ينعتق من أسر المرض وأطواقه الممضة من خلال تحليق الخيال، وتقطير الذاكرة، والانفتاح الإبداعي الفني على صور الحياة وجيشانها وتقديم أعمال هامة، كجردة حساب فكري وفني ، في ماتبقى من العمر، وهو قليل ومرير.
لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الكيفية التي يواجه بها الفنان المبدع والكاتب مشكلاته وهمومه ومآسيه، لها دور كبير في عطائه ، كماً ونوعاً.
لقد أنهى فرانز فانون كتابه «معذبو الأرض» وهو على فراش المرض. وكان غسان كنفاني في سباق مع الزمن بسبب معاناته مع مرض السكري، واعياً لوضعه ومعاناته، يعطي لنفسه حقنة الأنسولين ويسرق ساعات من وقت النوم للكتابة، مؤمناً إنه «إذا لم نستطع أن نجعل حياتنا طويلة، فعلينا أن نجعلها عريضة»، واستشهد بتفجير سيارته من قبل الموساد وعمره 36 عاماً «1936 ـ 1972» وترك لنا أعمالاً إبداعية عديدة ومتنوعة.
وارتباطاً بقضية الصراع بين المبدع والزمن، يمكننا إيراد ما قاله المبدع الراحل ممدوح عدوان في كتابة «دفاعاً عن الجنون»:
«وأنا على عجلة من أمري. الحياة مزدحمة. والهاوية قريبة. لا بد من أن أكمل صرختي»(.8 )
يوم «4 ـ 7 ـ 1996 في مخيم اليرموك قرب دمشق، وضمن الأسبوع الثقافي لإحياء الذكرى السنوية الرابعة والعشرين لاستشهاد الأديب غسان كنفاني، لم يستطع سعد الله ونوس الحضور بسبب المرض، وحضرت ابنته «ديمة» واستلمت جائزته نيابة عنه، في ذلك اليوم قرأ الكاتب حسن.م.يوسف كلمة سعد الله ونوس نيابة عنه، وكانت كلمة مؤثرة وعميقة جاء فيها:
ـ «أيها الأصدقاء، منذ أصابتني محنة المرض، وأنا أحاول بكل ما أملك من طاقة، على ألا أجعل المرارة تغيم على روحي، وتسد منافذ التجلد والمقاومة في داخلي. واستطيع أن أقول أن هذه المحاولة قد نجحت ولو جزئياً، وأنا أواصل العمل والحياة بأقل قدر من المرارة، والرثاء للنفس. ولكن كيف يمكن أن أنحّي شعور المرارة، حين يحول المرض دون أن ألبي دعوتكم الجميلة، ودون أن يتاح لي أن ألتقي بكم، وأن أستمد من حماستكم قوة وعزماً على مواصلة الحياة والعمل».
«من المؤسف أن معظم القوى والمنظمات السياسية لم تكتشف أهمية الثقافة، إلا حين وجدت نفسها عارية من كل سلاح. وكان عليها أن تتعلم مبكراً أن عجزها عن الربط الوثيق و العضوي بين النضال والثقافة، هو الذي عجل في تجريدها من سلاحها وهزيمتها».
ـ «إن هزيمتنا الراهنة لاتعني بأي حال من الأحوال، أن القيم التي كنا ندافع عنها، ونحاول ترسيخها في واقعنا، كانت خطأ، أو وهماً ينبغي أن نهمله أو نعيد النظر فيه كما يشجعنا سادة ومنظرو النظام العالمي الجديد».
إن أسطع تكريم ناله سعد الله ونوس، على صعيد التقييم والإعتراف بالقيمة الإبداعية له، كان تكليفه عالمياً بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي في 27 آذار 1996، ما يعتبر إنجازاً للثقافة العربية من خلال أحد أبرز أسمائها.
سعد الله ونوس تألم في إبداعه، وأبدع في ألمه. كتب في المرحلة الأولى من إبداعه مسرحيات أثارت صدى وحركت المياه والعقول، وصمت عشر سنوات مفعمة بالاكتئاب والتأمل والمراجعة، وعاش سنوات مرضه القليلة وهو في حال ا ستنفار مع الذات، كتب من جمرة الروح قبل أن تخبو، وترك للثقافة العربية وللمسرح العربي، علامات مضيئة وعبارة نقشت فوق قبره: «نحن محكومون بالأمل»!
الهوامش:
1 ـ مقابلة مع سعد الله ونوس أجراها فاضل الربيعي، مجلة «الحرية 2 ـ 8 شباط 1986 العدد 149 ص 44.
2 ـ رواية «البحث عن وليد مسعود»، جبرا ابراهيم جبرا، مكتبة الشرق الأوسط بغداد، ط3، 1985،ص357.
3 ـ رواية «الوطن في العينين» حميدة نعنع، دار الآداب، بيروت ط1، 979،ص 108 ـ 109.
4 ـ حوار مع سعد الله ونوس أجرته د. ماري إلياس، مجلة «الطريق» كانون الثاني ـ شباط 1996.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ نفس المصدر.
7 ـ نفس المصدر.
8 ـ «دفاعاً عن الجنون» ممدوح عدوان، دار النديم ـ الوعي، بيروت ط1، 1985، ص8.
المصدر // صحيفة تشرين,,