-
دخول

عرض كامل الموضوع : الجمال والعروس


شكو زولو
13/05/2008, 22:53
الجمال، في عالمنا، موضوع عبادة. الإنسان، أصلاً، مفطور على حبّ الجمال. الجمال في كل شيء. حتى الله يُصوَّر جميلاً ومصدراً للجمال. "الربّ قد مَلَك والجمال لبس". قديماً عبد الناس "أفروديتي"، إلهة الجمال. تتعاطى النسوة الموضة والأزياء والماكياج وما قبله وما بعده كأدوات ليتورجية، كأدوات عبادة. يحرمن أنفسهن من حاجيات كثيرة ولكن لا يحرمن أنفسهن مما يعتبرنه "أدوات تجميل". لا يهمّ الفتاة أن تجوع بقدر ما يهمّها أن تبدو فاتنة. رصيد الفتاة، في الوجدان المعاصر، جمالها أكثر من أي شيء آخر، وربما أكثر من أي وقت آخر. عالمنا شغوف بالجمال لدرجة تقرب من الجنون حتى إنّ "صناعة الجمال" تكاد تكون أبرز الصناعات العالمية. أقول "صناعة الجمال" لأنّ الاعتماد ليس على الجمال الطبيعي بقدر ما هو على الجمال المصنّع. وهذا الأخير يكون ناجحاً بقدر ما يبدو طبيعياً وكذا بقدر ما يستثمر مصادر الجمال الطبيعي ويبرزها على أحلى ما تكون. الجمال لدى الفتاة ليس هاجساً وحسب بل هوس. تحبّ نفسها إذا ما كانت جميلة في عين نفسها وتكره نفسها إن لم تكن.
واللعب في "صناعة الجمال" هو، أولاً وأخيراً، على المظهر، على الشكل. ثمّة معايير ومقاييس محدّدة بدقّة لما يعتبر جميلاً. لكل عضو في البدن أدواته ومساحيقه وعلاجاته من الشعر إلى أظافر القدمين. هذا عدا الاهتمام بتعلّم المشي وَلَيّ البدن ولبس تعابير الوجه وحركة العينين وما يمتّ إليها بصلة من قريب أو بعيد. عالم الجمال اليوم عالم قائم بذاته. يستأثر بأكثر اهتمامات القلب والعقل والخيال والأحاديث. هذه زوبعة من زوابع هذا الدهر تقلع الناس من جذورهم وتلعب بعقولهم وأميالهم وتقولبهم وتجعل لهم حدوداً وأشكالاً وأنماطاً يتعذّر عليهم مخالفتها. وكل مَن خالفها كان، في الوجدان، متخلِّفاً، وجعلته عيون الناس وسلالمهم القيميّة كما المضروب بمركّب نقص. في صناعة الجمال ارهاب فكري رهيب يُمارَس قلما تصمد أمامه الآراء الشخصية أو الشواذ على القاعدة في المسلك الجمالي. لذا تنظر في جماعات الفتيات فتجدهن من مصنع واحد، ذوات شعر "منبوش" في معظمهن، يلبسن "الجينز" الضيّق المشدود ويتبارين في كشف الأبدان في مواضع متفرقة من جلدهن وفق أذواقهن. فقط في هذه التفاصيل، ضمن منطق الموضة الواحدة، تتجلى الحرّيات الاستهلاكية التي يمكن أن تنشدها المرأة المزعومة أنّها الحرّة في مجتمع اليوم.
وبالنتيجة تُستَنفد طاقات البدن ويذهب مظهر جماله ويعجز، فتعمل "صناعة الجمال" على تجديد شبابيته قدر الإمكان. لكنّه يسير في خطى حثيثة صوب الوهن والخفوت. يصير فتيلاً مدخِّناً إلى أن ينطفئ ويموت ويُحال على التراب مأكلاً للدود! أكثر الناس يعرف هذه المسلّمة ولا يبالي. يكفيه أن يتمتّع في زمن المتعة. تعميم الخطأ بين الناس يخدّر الإحساس بالخطأ.
أما بعد فإنّها لكذبة كبرى أن يُظنّ أنّ الجمال في الشكل يكون. الجمال ينبع من داخل الإنسان. ثمّة شعلة داخلية تستمدد بهاءها من جمال السيّد. هذه تتوهّج في النفس والجسد نوراً جميلاً لا يعرف الوهن ولا الخفوت. وبعكس الجمال المصنّع، كلّما أوغلتْ في العمر ازدادتْ بهاء. حتى مسحة الموت تجعل هذه الشعلة على جمال أخّاذ. مَن اهتمّ باقتناء جمال النور الإلهي في القلب لا يهتمّ بجمالية جسده. همّه ما في الداخل لا ما في الخارج. همّه أن يتنقّى بحفظ الوصيّة، بالصوم، بالتوبة، بالمحبّة، بالرحمة، باللطف. القدسات لديه أكسير الحياة والصلاة صلة دائمة بالنور. هذه أدوات تجميل القلب بالنور الإلهي النازل من فوق. جمال الإنسان من الله كائن أو يبقى في مستوى الدود والرماد. القاعدة هي أنّ مَن اهتمّ بالنور الداخلي فيه، بالجمال الجوّاني، عاد لا يهتمّ بحسن المنظر لأنّ ما في الخارج عتمة لديه. أما مَن انهمّ لجماله الخارجي فقد كان على عتمة داخلية. داخله يكون بشعاً. أصلاً اللعبُ على ما حباه الله من جهة المظهر تَعَدٍّ عليه وكُفرٌ به. ثمّ كثرة الاهتمام بالبدن موقف جسداني فيه نكران للنعمة الإلهية التي شاءها الربّ أن تستوطن في كيان الإنسان لتشعّ منه على كل ما للإنسان.

أنتم نور العالم. أنتم جماله. العالم كما شاءه الربّ الإله أن يكون. نور العالم بمحبّتكم للعالم. ببذلكم أنفسكم من أجل العالم. بما تزرعونه من رضى وألطاف. وبما تنثرونه من بذار الحضرة الإلهية والكلام الإلهي الجميل بين الناس. الله، إذ ذاك، يفيض بجماله عليكم. تصير الأرض موطناً للجمال الهابط من فوق. السيّد الربّ الإله، يسوع المسيح، هو الجمال المبين، هو نور العالم المعطى لكي لا يبقى أحد بشعاً، راتعاً في ظلمة هذا الدهر. يسوع هو الحلاوات المدفوعة إلى الناس جسداً جديداً ولا أجمل. "خذوا كلوا، هذا هو جسدي". قوّة الجمال الإلهي في كلام الله، في ما تفوّه به يسوع، في ما فعله، في حضوره، أمساً واليوم وإلى الأبد. هذا مَعين الجمال لدينا، جمال الحبّ الإلهي، جمال سكنى الإله بين البشر. أنتم نور العالم لأنّ النور الإلهي شاء أن يقيم فيكم ليمتدّ منكم إلى أقصى الأرض. قال الإله لأرضه الحبيبة: "ما أجملك ما أحلاك..."، وقالت هي له: "أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه... اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك لأنّ المحبّة قويّة كالموت..." (نشيد الأنشاد).</SPAN> الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما